أصدرت غرفة تجارة وصناعة الكويت أمس مذكرة بشأن الإصلاح المالي والرؤية والتنموية بدولة الكويت في ضوء انخفاض أسعار النفط وأكدت تعامل السلطتين مع الأزمة يتسم من تهاون وتهوين، ومن ارتباك وتأجيل لأمر يدعوا إلى القلق ويفسح في المجال أمام كثرة التدخلات وانتشار الإشاعات.
وأضافت الغرفة: رغم ما تحمله هذه المؤشرات من انذارات خطيرة ورغم ما قدمه صاحب السمو أمير البلاد من توجيهات صريحة ومباشرة ومن قدوة واعية رائعة في هذا الصدد نلاحظ ان السلطتين التشريعية والتنفيذية قد تعاملتا مع الأزمة حتى الآن على منوال تعاملهما مع سابقتها، تصريحات تناقض بعضها ولجان تلد أخرى ومقترحات صدرت طبعتها الأولى قبل عقود
وأشارت إلى الكويت فلديها التزامات اقليمية متزايدة، وهشاشة تنافسية عالية واعتماد شبه كلي على النفط بالذات، وانكشاف بنفس الدرجة على الاقتصاد العالمي، وهذه العوامل مجتمعة تفرض على دولة الكويت ان تعيد هيكلة اقتصادها بصورة جذرية ويصرف النظر عن الاتجاهات المستقبلية لأسعار النفط، ذلك لأن مجرد الاعتماد الكلي على مصدر وحيد للدخل بشكل مغامرة عالية المخاطر وإذا كنا حتى اليوم نتكلم اقتصاديا واجتماعيا عن مرحلة ما قبل النفط وعن مرحلة هيمنة النفط.
وفيما يلي نص المذكرة الإصلاح المالي والرؤية التنموية في الكويت في ضوء انخفاض أسعار النفط:

أولا: نحو مرحلة استعادة التوزان
وقالت المذكرة انه بين سبعينيات القرن الماضي ومنتصف عام 2014 سجل سعر برميل النفط سلسلة متقطعة من الارتفاعات الرئيسية التي وصلت به إلى أكثر من 110 دولار 2013 كما سجل سلسلة مقابلة من التراجعات الأكثر حدة التي هبطت به إلى حدود سبعة دولارات فقط 1986 وهذا المشهد المتكرر على مساحة اربعين سنة أو تزيد رافقته في الكويت ظاهرة بالغة الغرابة والضرر تعاود الحضور مع كل مد وجزر وتتمثل في تزايد الاهتمام بالإصلاح المالي والاقتصادي إلى اقصى درجات الكلام كلما انتكست اسعار النفط وانخفضت ايرادات الميزانية العامة، ثم سرعان ما ينحسر هذا الاهتمام مع أول بوادر عودة هذه الاسعار إلى الارتفاع ليبقى الاصلاح في الكويت ظاهرة كلامية.
ومنذ منتصف عام 2014 حتى نهاية يناير 2016 خسر برميل النفط الكويتي 75 بالمئة من سعره مسببا انخفاضا نسبة قرابة 30 بالمئة في قيمة الأصول، وأكثر من 40 بالمئة في حجم تداول الأوراق المالية و8 بالمئة في قيمة صرف الدينار الكويتي مقابل الدولار، ورغم ما تحمله هذه المؤشرات من انذارات خطيرة ورغم ما قدمه صاحب السمو أمير البلاد من توجيهات صريحة ومباشرة ومن قدوة واعية رائعة في هذا الصدد نلاحظ ان السلطتين التشريعية والتنفيذية قد تعاملتا مع الأزمة حتى الآن على منوال تعاملهما مع سابقتها، تصريحات تناقض بعضها ولجان تلد أخرى ومقترحات صدرت طبعتها الأولى قبل عقود، ان ما يتسم به تعامل السلطتين مع الأزمة من تهاون وتهوين، ومن ارتباك وتأجيل لأمر يدعوا إلى القلق ويفسح في المجال أمام كثرة التدخلات وانتشار الإشاعات وهذا بالذات ما دفع غرفة تجارة وصناعة الكويت إلى اعداد هذه الورقة، مع علمها بأنها لن تخرج في مجملها عما سبق لها ولجهات ومؤسسات وشخصيات وطنية وأجنبية كثيرة، أن أعلنته مواقف ونشرته من دراسات ومذكرات، ونظمته من ندوات ومؤتمرات محذرة من مخاطر النهج الاستهلاكي العقيم والاقتصاد الريعي المتواكل.
وقالت غرفة التجارة والصناعة: “اننا لا ندعي إطلاقا القدرة على استقراء اسعار النفط، ونعرف يقينا أن مثل هذه الاستقراء يكاد يكون متعذرا حتى على أصحاب الخبرة والاختصاص لكثرة وتشابك العوامل والمتغيرات التي تحرك هذه الأسعار، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نرصد معطيات ومستجدات عديدة تدفعنا إلى القول بأن انخفاض اسعار النفط هذه المرة ليس مجرد انعكاس لدورات العرض والطلب بل هو إلى جانب ذلك وربما قبله من نتائج التحول العميق في الاقتصاد العالمي عموما، والتطور التقني السريع الذي تشهده صناعة النفط على وجه الخصوص”.
وتابعت: “بالنسبة للكويت فلديها التزامات اقليمية متزايدة، وهشاشة تنافسية عالية واعتماد شبه كلي على النفط بالذات، وانكشاف بنفس الدرجة على الاقتصاد العالمي، وهذه العوامل مجتمعة تفرض على دولة الكويت ان تعيد هيكلة اقتصادها بصورة جذرية ويصرف النظر عن الاتجاهات المستقبلية لأسعار النفط، ذلك لأن مجرد الاعتماد الكلي على مصدر وحيد للدخل بشكل مغامرة عالية المخاطر وإذا كنا حتى اليوم نتكلم اقتصاديا واجتماعيا عن مرحلة ما قبل النفط وعن مرحلة هيمنة النفط.
وتابعت الغرفة: “علينا من الآن فصاعدا ان نركز كل اهتمامنا على مرحلة استعادة التوازن ان صح التعبير توازن التركيبة السكنية والعمالة، توازن القاعدة الانتاجية، توازن المالية العامة، وتوازن شبكة الرفاه، وذلك من خلال اصلاح مالي جذري يعيد النظر في المنطلقات والمفاهيم والأدوات يتساوق ويتناسق مع رؤية تنموية جديدة تقوم على مزايا نسبية حقيقية ومستدامة”.

ثانيا: الإصلاح المالي
بين المصارحة والتصريحات
أكدت غرفة التجارة والصناعة أنه ثمة اجماع علمي على الأقل بأن الإصلاح المالي المطلوب في الكويت يقتضي إعادة هيكلة كاملة للمالية العامة في البلاد، تتطلب فيما تتطلب معالجة الهدر بكل أشكاله، وقصر الدعم على مستحقيه من الأفراد، وربطه بأولويات القطاعات والأنشطة وبكفاءة الأداء بالنسبة إلى المؤسسات، وتتطلب فيما تتطلب ايجاد نظام ضريبي بأفضل اسلوب ممكن، وإعادة تسعير السلع والخدمات العامة والأراضي، وإحياء برامج الخصخصة كمدخل أساسي من مداخل تخفيض اعباد الدولة وتكاليفها من جهة ولكي يستعيد القطاع الخاص دوره التنموي من جهة أخرى.
وتابعت الغرفة: “ومهمة بهذا العمق الجراحي وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا يمكن أن تتم من خلال اجراءات انتقائية متتالية ومتفرقة يعلن عن كل منها على حدة وتبعا للضغوط والتسويات بل لا بد للنهوض بهذه المهمة من حزمة متكاملة من السياسات والقرارات والإجراءات التي يعلن عنها جميعها ففي اطار خطة واضحة الخطوات يجري تطبيقها بالتدريج وحسب جدول زمني يمتد إلى سنوات عديدة، شريطة احترام مضمونه والالتزام بمواقيته ذلك ان اصدار قرارات بخفض الدعم بمنأى عن خطوات جادة للحد من الهدر، ودون ا علان مواز عن خطوات زيادة الإيرادات من خلال إعادة تسعير السلع والخدمات والأراضي العامة والضرائب المناسبة سيؤدي إلى انعكاسات سيئة على منهج الإصلاح المالي وعلى الاستقرار الاجتماعي في آن معا، كما أن تقليص الانفاق الاستهلاكي بسياسات انكماشية متشددة سيلحق ضررا بالغا بالنشاط الاقتصادي وبموارد المالية العامة ما لم يكن هذا التقليص لحساب تعزيز الانفاق الاستثماري ورفع كفاءته”.
واضافت مذكرة غرفة التجارة: “إذا كان من غير المفيد في تركيزنا على مرحلة استعادة التوازن ان نلج في جدالنا العبثي عن كيف اضعنا فرصة التاريخ ومن المسؤول فإن من الخطأ فعلا التهوين من عمق وصعوبة الأزمة التي نواجهها، وإطلاق الأحكام والتصريحات المتناقضة وغير الواقعية بشأنها، بل يجب أن نضع أمام المواطن كل النقاط فوق الحروف وتحتها، ولئن كانت مسؤولية مأزقنا الاقتصادي الحالي تقع على عاتقنا جميعا بلا استثناء وكل حسب موقعه وصلاحياته فإن مسؤولية استعادة التوازن تقع ايضا على كاهلنا جميعا وكل حسب موقعه وصلاحياته، ومن هنا نجد من واجبنا ان نشير بإيجاز إلى الحقائق التالية توضيحا وتصحيحا لبعض المفاهيم:
1 - الاصلاح المالي الذي نحتاج إليه عملية صعبة ومعقدة وموجعة، وتحتاج إلى وقت ورؤية وإرادة وإلى حزم وصبر وتضحية، والاصلاح المالي في وضعنا الراهن شرط لازم من شروط ضمان مستقبل الكويت واستقرارها وبالتالي ليس هناك حلول سحرية سريعة الاثر، وليس هناك حلول ترضي كل الاطراف، ولا بد من ان يكون حولها اختلافات تتسع أو تضيق وعلينا الاحتكام في الاختيار إلى المنطق و العدل والتجربة وفي اعتقادنا ان النجاح في الحد من الهدر هو الامتحان الأول الذي يمكن ان يعيد للادارة الاقتصادية في البلاد مصداقية تائهة تدعم خطتها الإصلاحية ان وجدت.
2 - ليس صحيحا ولا ممكنا ان نحقق اصلاحا ماليا كافيا وناجحا من دون ان يتأثر المواطنون بمختلف شرائحهم وامكاناتهم صحيح ان علينا ألا ندخر جهدا للحد من أمكن من تأثر ذوي الدخل المحدود ولكن لا يمكننا أن ننأى بهم تماما عن الانعكاسات المباشرة وغير المباشرة لارتفاع اسعار السلع والخدمات الحكومية أو لتغير سعر الصرف أو لترشيد الدعم وعلينا ان نصارح المواطنين بذلك، ونبين لهم كيف يمكن للاصلاح المالي ان يزيد اطمئنانهم إلى مستقبلهم وإلى قوة دينارهم وكم هو مكلف ومرهق لهم ان يغيب هذا الاصلاح أو يتأجل.
3 - ليس صحيحا ولا ممكنا أن نستند إلى احتياطاتنا المالية في معالجة الأزمة، هي تساعد بالتأكيد في تخفيض تكاليف والام الاصلاح ولكنها لا يمكن ان تكون بديلا له، وإن استهلاك هذه الاحتياطات لتمويل العجز سيحرمنا من دخل استثمارها ويزيد من عجز السنوات القادمة ويجعل عملية الاصلاح أكثر عسرا وتكلفة إذ لا يمكن ان نأكل قطعة الحلوى ونحتفظ بها.
4 - برغم قوة الجهاز المصرفي الكويتي وسلامة اوضاعه المالية ومعدلات سيولته وكفايته الرأسمالية فإن من الضرورة بمكان ان نعمل وبسرعة على تخفيض الضغوط التي يمكن ان يتعرض لها بسبب الارتباط الوثيق بين اسعار النفط وأسعار الاصول من جهة وبسبب درجة التدخل والتشابك بين المجموعات الاقتصادية المختلفة من جهة ثانية، خاصة وأن الاقتصاد الكويتي يسجل منذ عام 2007 حتى الآن اقل معدل لعائد الموجودات في المنطقة والذي لم يتجاوز في الكويت 5.7 بالمئة مقابل 8.3 بالمئة في البحرين و8.7 في الإمارات و9.0 بالمئة في السعودية و11.3 بالمئة في قطر و11.5 بالمئة في عمان ما يدل على وجود عقبات صعبة للنمو حتى قبل الانخفاض الشديد في سعر النفط، بل وفي سنوات وصل فيها هذا السعر إلى قمته.
5 - اعربت الغرفة مرارا عن تأييدها لايجاد نظام ضريبي ملائم في الكويت وقد قاربت وزارة المالية الكويتية على انجاز مسودة قانون ضريبة ارباح الاعمال ولكننا وللأسف الشديد لم نسمع حتى الآن عن دراسة تؤكد أن هذه الضريبة بالذات هي البوابة الأفضل لدخول الكويت إلى عصر النظام الضريبي الحديث في ظل الأوضاع الحالية التي يفترض بالحكومة ان تسعى خلالها إلى تفعيل دور القطاع الخاص باعتباره المصدر الأول لتوفير فرص العمل للعمالة الوطنية و يعتقد الكثيرون ان زيادة العبء الضريبي على الشركات في ظل ضعف الأرباح والاستثمارات سوق يؤدي إلى تراجع بيئة الاعمال، وفرص العمل الحقيقية كما يعتقد الكثيرون ان ضريبة القيمة المضافة على المبيعات هي الأكثر جدوى وإيرادا، والأقل تكلفة وعرضة للتهرب، وتحديدا للإنفاق البذخي مع إمكان استثناء المواد الغذائية والسلع الأساسية منها وتشير ارقام دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى ان حصيلة ضريبة القيمة المضافة فيها تساهم بنسبة 20 بالمئة من اجمالي الإيرادات الضريبية مقابل 9 بالمئة لضرائب ارباح الشركات.
6 - في إقرار أي إجراء لزيادة الإيرادات العامة أو تخفيض الانفاق العام يجب ألا يكون المعيار الأساسي هو حجم الجباية أو الوفر المتوقع من هذا الإجراء بل يجب ان يكون إلى جانب هذا المعيار وقبله معيار العدالة ومعيار الانعكاسات المتوقعة على النشاط الاقتصادي العام، وبتعبير آخر ان الجدوى الاقتصادية والاجتماعية اهم بكثير من حصيلة الجباية أو الوفر.

ثالثا: الرؤية التنموية وإستراتيجية التيسير التجاري
ثمة فارق كبير بين تنويع ايرادات الميزانية العامة وتوسيع القاعدة الإنتاجية ومن الخطأ في معالجة اوضاعنا الاقتصادية ان نركز على جانبها المالي فقط بل لا بد من ان يسير الإصلاح المالي بالتوازي مع الاصلاح الاقتصادي المتمثل بالرؤية التنموية لتوسيع القاعدة الإنتاجية وبما أن تعزيز الإيرادات العامة يرتبط وبقوة وبالضرورة، بتوسيع القاعدة الانتاجية للاقتصاد الوطني فإن برنامج الاصلاح المالي يجب ان يصمم اصلا في ضوء الرؤية التنموية وبما يخدم مشاريعها وتوجهاتها.
وسواء طالت أزمة انخفاض اسعار النفط ام شهدت انفراجا غير بعيد، فإن مغامرتنا الخطيرة والمستمرة في الاعتماد شبه الكلي على منتج وحيد يجب ان تنتهي ولمصلحة رؤية تنموية حقيقية مستدامة تستند إلى قوة عاملة وطنية ويقود قاطرتها قطاع خاص كفء وتتمتع منتجاتها وخدماتها بتنافسية دولية عالية، وهذه الرؤية لا تتعارض مع الاستراتيجية التي اطلقها صاحب السمو الأمير لتحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري اقليمي ودولي، بل هي تتكامل معها وتشكل منطلقا لها، لأن بناء اقتصاد حقيقي شرط أساسي لنشوء اقتصاد مالي داعم.
وفي اعتقادنا أن الكويت يجب ان تتوجه في رؤيتها التنموية نحو الاستثمار في التعليم، ومشاريع البنية الأساسية الضخمة كالموانئ البحرية والمنافذ البرية والمطارات والمواصلات وفي دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وفي المعرفة والطاقة المتجددة فأهم ما تملكة الكويت من اصول مستدامة هو حيوية شعبها واستراتيجية موقعها وهي في مرحلة استعادة التوازن كما في مرحلة ما قبل النفط، مؤهلة لأن تلعب دورا لوجستيا حيويا وبالغ الأهمية، ولكي نكون أكثر وضوحا نقول أننا نتطلع إلى التجربة السنغافورية بكثير من الاهتمام وعلى أمل النجاح في محاكاتها بما ينسجم مع معطيات الكويت ويلبي احتياجاتها.
استقبلت سنغافورة التي لا تتجاوز مساحتها 720 كيلو متر مربع عام 1960 بعد استعمار بريطاني دام قرابة 125 عاما وبعد أن دمرتها الحرب العالمية الثانية، وتركتها لفوضى سياسية وإثنية بلدا لا ماء فيها ولا ثروة طبيعية ولا نفط واحتياطات مالية وها هي اليوم بشعب يبلغ 5.5 مليون نسمة ويتمتع بدخل يضاهي مثيله في أكثر الدولة تقدما، تحتل المركز الأول في العالم في مؤشرات التيسير التجاري والبنية التحتية والخدمات اللوجستية والبيئة الجمركية والتنظيمية وتحتل المركز الثالث في استخدام التكنولوجيا كما تمتلك خمس مناطق حرة لتسهيل التجارة الدولية ويستقبل ميناؤها 20 بالمئة من حاويات العالم كما يستقبل مطارها 75 مليون راكب ويعمل فيها 110 مصرفا أجنبيا، ويبلغ حجم الاستثمارات الأجنبية فيها 280 مليار دولار.
إن هدفنا من عرض هذا الموجز وهذا النموذج هو التأكيد على ضرورة إعادة صياغة مستقبل الكويت الاقتصادي من خلال استراتيجية التيسير التجاري والارتفاع بكفاءة مؤشراتها الأربعة البيئة التنظيمية والبيئة الجمركية واستخدام التقنية الحديثة والبنية الأساسية المتمثلة بصورة خاصة في الموانئ والمطارات والمواصلات والخدمات اللوجستية وهنا لا بد من توضيحات أساسية:
1 - ان النفط سيبقى وإلى مدة طويلة قادمة رافدا مهما للإيرادات العامة للكويت، وقطاعات رئيسيا في اقتصادها والقاعدة الأساس لصناعاتها البتروكيماوية والتصديرية ولكن الكويت ومع التقدم في مرحلة استعادة التوازن ستتحرر تدريجيا من الهيمنة المطلقة لقطاع النفط واقتصادها الريعي.
2 - ان استراتيجية التيسير التجاري لا تقوم على النشاط التجاري وإعادة الصادرات فحسب، بل هي في طبيعتها تقتضي تطوير قطاعات وأنشطة عديدة منها النقل بكل أنواعه والتأمين والصناعة الخفيفة كالتجميع و التغليف والفرز والتعبئة كما أن هذه الاستراتيجية تؤدي تلقائيا إلى تطوير قطاع مالي متقدم الخدمات لأن العامل الأهم في نشوء المراكز المالية العالمية هو في التحليل النهائي تمويل التجارة الدولية وكل المراكز المالية العالمية نشأت في مراكز تجارية عالمية، يضاف إلى هذا كله ان استراتيجية التيسير التجاري وما تخلقه من شبكة واسعة من العلاقات الدولية وما تجتذبه من استثمارات اجنبية ومصالح عالمية ستساهم فعليا في تعزيز الأمن الوطني لدولة الكويت.
3 - إن ترسخ ثقافة وممارسات الاقتصاد الريعي على مدى خمسين عاما قد حفر في سمات المجتمع الكويتي اخاديد وتشوهات كثيرة اضعفت إلى حد بعيد اهم وأقوى عوامل قوة اقتصادنا الوطني وهي حيوية المجتمع وأن مقارنة سريعة بين دور الكويت الاقتصادي الاقليمي قبل مرحلة هيمنة النفط وبين هذا الدور الآن تؤكد هذه الحقيقة بشكل قاطع، وبالتالي فإن تحولنا إلى استراتيجية تنموية تقوم على الكفاءة التنافسية الدولية سيساعد الكويت في استعادة حيويتها وقدراتها التنافسة.

رابعا: المرتكزات الأساسية للإصلاح المالي والرؤية التنموية
1 - التخصيص: من المتفق عليه ان بوابة الاصلاح الاقتصادي هي ايجاد البيئة المناسبة ليستعيد القطاع الخاص دوره الاقتصادي والاجتماعي باعتباره قاطرة التنمية، مع كل ما يعنيه ذلك من تفعيل قانون وسياسات الخصخصة، وإطلاق قوى المنافسة العادلة، وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، والدعوة إلى عودة الدولة لدورها الاقتصادي من خلال التركيز على دورها التخطيط والرقابة والمتابعة وتصحيح الانحراف والحفاظ على عدالة المنافسة، ولا بد هنا من تسجيل أسفنا العميق لنكوص السلطتين التشريعية والتنفيذية عن قرار تخصيص الخطوط الجوية الكويتية وإضاعة جهود وتكاليف ثمان سنوات في خطوة تتناقض مع كل ما سبق قوله في اطار الظاهرة الكلامية للاصلاح كما تتعارض مع أول مرتكزات هذا الاصلاح لتؤكد ما ذهب إليه صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد أمام اعضاء لجنة السياسات والتنمية الإدارية بالمجلس الأعلى للتخطيط يوم 19 يناير 2016 حين قال: أشعر ان القطاع الخاص قد ظلم ولم يعط الفرصة للقيام بأعمال كبيرة للكويت ولمصلحتها.
2 - التعليم: خلال العقود الأربعة الماضية التي لم تنجح خلالها الكويت في الإمساك بفرصة التاريخ تعددت تجارب الإصلاح الاقتصادي الناجحة في العالم فانتقلت دول عديدة إلى مراحل متقدمة من النمو وكسرت حاجز القفز والتخلف مثل الصين والهند وكوريا وتركيا وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة ورغم أن كلا من هذه الدول قد تبنت الرؤية التنموية التي تتناسب مع أوضاعها فإننا نلاحظ ان العامل المشترك الذي يجمع بين رؤاها كلها هو نجاح أنظمتها التعليمية الحديثة في الارتقاء بكفاءة وقدرات العنصر البشري وهذه الحقيقة التي تكشف بصورة باهرة عمق العلاقة بين التنمية والتعليم تجعلنا نزعم وبكثير من الثقة ان الت حدي الأصعب الذي تواجهه الكويت في اصلاح ماليتها العامة ورؤيتها التنموية هو تدني مستوى التعليم وهنا نستلهم قول الإمام علي كرم الله وجهه «لو كان الفقر رجلا لقتلته»، كما نستلهم تعليق الرسول الأعظم بالقول: «يا علي لا فقر أشد من الجهل».
3 - الإدارة العامة: برغم التداعيات الكثيرة والضغوط الهائلة الناجمة عن انخفاض الإيرادات النفطية، فإن هذا الهبوط ليس سبب الأزمة المالية والتنموية التي تعانيها الكويت الآن بل هو المناسبة التي كشفت عن عمق الأزمة وخطورتها أما الأزمة بحد ذاتها فهي الحصاد المر لعقود من تسابق السلطتين على كسب ود البيروقراطية المهيمنة على صندوق الانتخاب، وهي الحصاد المر لعدم الالتزام بفصل السلطات مجاملة حينا ومهادنة أحيانا وضعفا في أكثر الأحيان وهي الحصاد المر للتهاون الغريب بقواعد المساءلة والعقاب على كل الأصعدة بلا استثناء هذا على مستوى إدارة التخطيط والرقابة والقرار «الإدارة السياسية» أما على مستوى الإدارة التنفيذية فإن تضخم حجمها وترهل جسدها وضعف كفاءتها وتواضع تعليمها قد جعل منها عبء معيقا للتطور بدل ان تكون دافعا له.
ان الاصلاح تعريفا هو التغيير نحو الأفضل وهذا لا يمكن ان يتحقق إذا فرضت علينا السياسة والاصطفافات الاجتماعية المختلفة ان يبقى كل شيء على حاله وأن يستمر كل مسؤول في موقعه فالاصلاح رؤية جديدة وقرار جرئ وإعادة نظر شجاعة وموضوعية في الكثير من السياسات والممارسات والمفاهيم والمواقع ايضا، وبغير هذا التغيير على صعيد العمل السياسي سيكون مصير محاولات الإصلاح المالي اشبه بمصير الماء المسكوب في قربة مقطوعة.
أما في شأن الإدارة التنفيذية فإن التغيير في دور الدولة الاقتصادية يقتضي إعادة هيكلة الاجهزة التنفيذية للدولة لتكون أكثر كفاءة وأقل كلفة وليتحول مفهوم الوظيفة العامة من أداة لتوزيع الثروة إلى اداة لزيادة الانتاجية كما ينتقل بمقعد الموظف العام من كرسي السلطة الرسمية إلى موقع الخدمة الشعبية.
وأخيرا:
قبل ستة قرون ونيف كتب المقريزي رسالة عن ارتفاع الاسعار في مصر ختمها بالقول ليس بالناس غلاء إنما نزل بهم سوء التدبير والإدارة، وننسج على منوال عبارة المقريزي ونلخص العلاقة بين تجاوز الأزمة وإصلاح الإدارة العامة فنقول ليس في الكويت من أزمة إلا بمقدار ما في ادارتها من ضعف.