- قالت ان لي صبية صغار ان ضممتهم إلي جاعوا وان ضممتهم إليه ضاعوا
- بكيت وبكى من كان موجوداً من أهل البيت رحمةً لها ورقة عليها
- أنزل الله لها مخرجاً بآيات الظهار في القرآن بأن يؤدي زوجها كفارة
- قالت لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب: اتق الله في الرعية واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد ومن خاف بالموت خشي الفوت ومن أيقن بالحساب خاف العذاب

أولى الإسلام المرأة اهتمامًا كبيرًا ونظر إليها نظرة تكريمٍ واعتزازٍ، فالمرأة في الإسلام هي الأم والأخت والابنة والعمة والخالة والجدة والزوجة شريكة الرجل في تحمل مسؤوليات الحياة، وقد كلَّفها الله مع الرجل في النهوض بمهمة الاستخلاف في الأرض، وتربية الأبناء وتنشأتهم تنشئة سوية، وجعلها على درجة واحدة مع الرجل في التكريم والإجلال.
ويؤمن المسلمون بأن الإسلام قد أعطى المرأة حقوقها بعد أن عانت في الجاهلية (ما قبل الإسلام) من ضياعها والتي من أهمها الحق في الحياة.
ويتفق علماء الدين المسلمين إلى حد كبير على أنه في بداية الإسلام وتحديدًا في أوائل القرن السادس الميلادي، وسَّع النبي محمد صلى الله عليه وسلم حقوق المرأة لتشمل حق الميراث والتملك والزواج والنفقة وحقوقًا أخرى.
كما نهى النبي محمد عن الإساءة للنساء وأمر بمعاملتهن بالحسنى والرحمة فقال في حجة الوداع: «استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي».
وفي صحيح الترمذي  يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (أَكْمَلُ المؤْمِنين إيماناً أحْسَنُهم خُلُقاً، وَخِياركم خيارُكم لِنِسائهم). ويقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم أيضا:(اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ) أي عاملوهما برفق وشفقة، ولا تكلفوهما ما لا يطيقانه، ولا تقصِّروا في حقهما الواجب والمندوب.
كما يذكر التاريخ أيضا أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقبل وفاته بأيام قليلة خرج على الناس وكان مريضًا بشدة وألقى آخر خطبة عليهم فكان من جملة ما قاله وأوصى به: «أيها الناس، الله الله في الصلاة، الله الله في الصلاة». بمعنى أستحلفكم بالله العظيم أن تحافظوا على الصلاة، وظل يرددها إلى أن قال: «أيها الناس، اتقوا الله في النساء، اتقوا الله في النساء، اوصيكم بالنساء خيرا».
 
 
 
خولة بنت ثعلبة رضي الله عنه، هي المرأة التي نزلت فيها الآيات الأولى من سورة المجادلة. حيث نادت ربها: «اللهم إني أشكو إليك ما نزل فيّ» فأنزل الله تعالى قوله في سورة المجادلة:
 قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ 
 
 
نسبها وزوجها
 
 
هي خولة بنت ثعلبة بن أصرم بن فهد بن ثعلبة بن غنم بن عوف من ربات الفصاحة والبلاغة والجمال وصاحبة النسب الرفيع، زوجها هو أوس بن الصامت رضي الله عنه أخو عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وهو ممن شهد بدراً وأحداً، وأغلب الغزوات مع رسول الله . وأنجبت منه زوجته خولة ولدهما الربيع بن أوس.
 
 
جدال وآية قرآنية
 
 
راجعت خولة زوجها أوس بن الصامت بشيء ما فاختلفا في ذلك وغضب منها وقال: “أنت عليَ كظهر أمي”، فقالت له زوجته خولة والدموع تنهل من عينيها لشدة ما سمعت منه :”والله لقد تكلمت بكلام عظيم، ما أدري مبلغُهُ..” ثم خرج الزوج بعد أن قال ما قال فجلس في نادي القوم ساعة، ثم دخل عليها يراودها عن نفسها، ولكنها امتنعت حتى تعلم حكم الله، فقالت:”كلا... والذي نفس خولة بيده، لا تخلصنَّ إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه ...».
 
خرجت خولة حتى جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت من زوجها، وهي بذلك تريد أن تستفتيه وتجادله في الأمر، فقالت له: «يا رسول الله، إن أوساً من قد عرفت، أبو ولدي، وابن عمي، وأحب الناس إلي، وقد عرفت ما يصيبه من اللمم وعجز مقدرته، وضعف قوته، وعي لسانه، وأحق من عاد عليه أنا بشيء إن وجدته، وأحق من عاد علي بشيء إن وجده هو، وقد قال كلمة والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً قال: «أنت علي كظهر أمي».
 
فقال رسول الله : “ما أراكِ إلا قد حرمت عليه”، والمرأة المؤمنة تعيد الكلام وتبين لرسول الله ما قد يصيبها وابنها إذا افترقت عن زوجها، وفي كل مرة يقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أراكِ إلا قد حرمت عليه».
وأزاحت الصحابية الجليلة المؤمنة الصابرة نفسها واتجهت نحو الكعبة المشرفة، ورفعت يديها إلى السماء وفي قلبها حزن وأسى، وفي عينيها دموع وحسرة، قائلة: “اللهم إني أشكو إليك شدة وجدي، وما شقّ علي من فراقه، اللهم أنزل على لسان نبيك ما يكون فيه فرج.” تقول السيدة عائشة رضي الله عنها وهي تصف لنا حالة خولة: “فلقد بكيت وبكى من كان منها ومن أهل البيت رحمةً لها ورقة عليها”.يذكر انها قالت ان لي صبية صغار ان ضممتهم الي جاعوا وان ضممتهم اليه ضاعوا
 
وما كادت تفرغ من دعائها حتى تغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه عند نزول الوحي، ثم سرى عنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خولة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرأنا»
ثم قرأ عليها:  قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ  الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ 
 
. ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم كفارة الظهار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا» ففعلت.
 
ونهضت خولة رضي الله عنها لتعود إلى زوجها، فتجده جالساً جانب الباب ينتظرها، فقال لها : يا خولة ما وراءكِ ؟
 
فقالت والفرحة على وجهها : “خيراً ...” وشرحت له ما قال لها الرسول لإي أمر الكفارة.
موقفها مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه
 
ومما روي في شأن خولة رضي الله عنها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بها في زمن خلافته وهو أمير المؤمنين وكان راكباً على حمار، فاستوقفته خولة طويلاً ووعظته. وقالت له: “يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ ترعى الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر ثم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف بالموت خشي الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب.»
 
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه واقف أمامها، يسمع كلامها في إمعان وقد أحنى رأسه مصغياً إليها ... وقد كان برفقته أحد مرافقيه وهو جارود العبدي، فلم يستطع صبراً لما قال خولة لأمير المؤمنين فقال لها في غضب: “قد أكثرت أيتها المرأة العجوز على أمير المؤمنين”. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “دعها ... أما تعرفها؟ هذه خولة التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات وعمر أحق والله أن يسمع لها ..»
وفي رواية أخرى: قيل له: يا أمير المؤمنين اتقف لهذه العجوز هذا الموقف. قال رضي الله عنه: “والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره ما زلت إلا للصلاة المكتوبة، إنها خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر».
 
 
وفاتها ومدفنها: لم يُتأكد من تثبيت سنة وفاتها ومدفنها
 
بعض أراء المفسرين لسورة المجادلة
 
أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [المجادلة:1-5]
- الشيخ : إلى هنا. لا إله إلَّا الله.
هذه سورةُ المجادِلةِ، مكتوبٌ في المصحفِ “مجادَلة” ولَّا [أم] “مجادِلة”؟
- طالب: مجادَلة، بفتح اللَّام مجادَلة
- القارئ : عندي “مجادِلة”، مكسورة
- الشيخ : المصاحفُ عندكم بفتح اللَّام ولَّا..؟
- القارئ : بفتح اللَّام
- الشيخ : مجادَلة، وهي سورةٌ مدنيَّةٌ، نزلَتْ في شأنِ المجادِلةِ المرأة المجادِلة الَّتي ظاهرَ منها زوجُها فجاءَتْ تشتكي إلى الرَّسولِ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-؛ لأنَّ الظِّهارَ كانَ في الجاهليَّة طلاقًا، فإذا ظاهرَ الرَّجلُ من امرأتِه انفصلَتْ منه وفارقَها، فلمَّا ظاهرَ أوسُ بنُ الصَّامتِ من امرأتِه جاءتْ تشكو حالَها وأنَّه رجلٌ كبيرٌ وأنَّه ذو عيالٍ وأنَّها تقولُ في أولادها: “إنْ ضممْتُهم إليهِ ضاعُوا، وإن ضممْتُهم إليَّ جاعُوا” فكانَتْ تشتكي للرَّسول، فأنزلَ اللهُ هذه الآياتِ في حكمِ الظِّهار، وفي حكمِ هذه المرأةِ.
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} فاللهُ تعالى سميعٌ لجميعِ الأصواتِ يسمعُ أصواتَ العبادِ خيرَها وشرَّها {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، {تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} تقولُ عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها- بهذه المناسبةِ: “سبحانَ مَن وسعَ سمعُهُ الأصواتَ، لقد كانُوا في جانبِ الحجرةِ وإنَّهُ ليخفى عليَّ بعضُ كلامِها”، واللهُ تعالى يقولُ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} فاللهُ سميعٌ وهو يسمعُ الأصواتَ، لا إله إلَّا الله.
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} الظِّهارُ: هو أنْ يقولَ الرَّجلُ لامرأتِهِ: أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي” يحرِّمُها، يقولُ: أنتِ حرامٌ عليَّ كظهرِ أمِّي، كما أنَّ أمِّي حرامٌ فأنتِ عليَّ حرامٌ، فإذا شبَّهَ الرَّجلُ امرأتَه بمن تحرمُ عليه كأمِّه وأختِه وخالتِه فهذا هو الظِّهارُ، وهو حرامٌ، {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} الظِّهارُ حرامٌ، وهوَ جهلٌ، {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} كيفَ تكونُ الزَّوجةُ الَّتي يطؤُها زوجُها يشبِّهُها بأمِّه الَّتي هي من أحرمِ المحرَّماتِ {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} الأمُّ أمُّ الإنسانِ هي الَّتي ولدَتْه لا غيرها، {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.
ثمَّ يقولُ تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إذا ظاهرَ الرَّجلُ امرأتَه ثمَّ رجعَ إلى زوجتِه ورجعَ عن الظِّهارِ وأرادَ أنْ ترجعَ إليه زوجتُه وأنْ يستمتعَ بها فلا يحلُّ له ذلك إلَّا أنْ يكفِّرَ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} والكفَّارةُ أحد ثلاثةِ أمورٍ على التَّرتيبِ: إمَّا عتقُ رقبةٍ وذلكَ قبلَ أنْ يمسَّها، {قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، فمَن لم يجدْ رقبةً فعليهِ صيامُ شهرَينِ متتابعَينِ، فمَن لم يستطعْ فعليهِ إطعامُ ستِّينَ مسكينًا، هذه هي الكفَّارةُ، وتُسمَّى الكفَّارةُ المغلَّظةُ، هذه الكفَّارةُ المغلَّظةُ كفَّارةُ الظِّهارِ.
وذلكَ لابدَّ أنْ يكونَ قبلَ المسيسِ لا بدَّ أنْ يكفِّرَ قبلَ أنْ يمسَّها، إلَّا الإطعامُ ففيه خلافٌ، بعضُ أهلِ العلمِ يقولُ: إنَّه يجوزُ أن يمسَّها إذا لم يبقَ عليه إلَّا الإطعامُ فإنَّه يجوزُ أنْ يمسَّها ولو لم يطعمْ أمَّا الصِّيامُ والعتقُ فلا يمسَّها إلَّا بعدَ التَّكفيرِ.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وهذا تهديدٌ للكافرين المعاندين المشاقِّين للهِ ورسولِهِ فهم مكبوتون ذليلون كما قالَ في آخرِ السُّورةِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة:20] إلى آخرِ الآياتِ.
«تفسيرُ السَّعديِّ»
- القارئ : بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، قالَ الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ السَّعديُّ –رحمَهُ اللهُ تعالى-: تفسيرُ سورةِ “قَدْ سَمِعَ اللَّهُ” وهيَ مدنيَّةٌ
- الشيخ : سورة؟
- القارئ : “قد سمعَ اللهُ»
- الشيخ : عجيب! سمَّاها بمطلعِها؟
- القارئ : نعم
وهيَ مدنيَّةٌ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الآياتِ:
نزلَتْ هذهِ الآياتُ الكريماتُ في رجلٍ مِن الأنصارِ اشتكَتْهُ زوجتُهُ إلى اللهِ، وجادلَتْهُ إلى رسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا حرَّمَها على نفسِهِ بعدَ الصُّحبةِ الطَّويلةِ والأولادِ، وكانَ هوَ رجلًا شيخًا كبيرًا، فشكَتْ حالَها وحالَهُ إلى اللهِ وإلى رسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكرَّرَتْ ذلكَ، وأبدَتْ فيهِ وأعادَتْ.
فقالَ تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي: تخاطُبَكما فيما بينَكما، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لجميعِ الأصواتِ، في جميعِ الأوقاتِ، على تفنُّنِ الحاجاتِ.
{بَصِيرٌ} يبصرُ دبيبَ النَّملةِ السَّوداءِ، على الصَّخرةِ الصَّمَّاءِ في اللَّيلةِ الظَّلماءِ، وهذا إخبارٌ عن كمالِ سمعِهِ وبصرِهِ، وإحاطتِهما بالأمورِ الدَّقيقةِ والجليلةِ، وفي ضمنِ ذلكَ الإشارةُ بأنَّ اللهَ سيزيلُ شكواها، ويرفعُ بلواها، ولهذا ذكرَ حكمَها، وحكمَ غيرِها على وجهِ العمومِ، فقالَ: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ}
المظاهَرةُ مِن الزَّوجةِ: أنْ يقولَ الرَّجلُ لزوجتِهِ: “أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي” أو غيرِها مِن محارمِهِ، أو “أنتِ عليَّ حرامٌ” وكانَ المعتادُ عندَهم في هذا لفظُ “الظَّهرِ” ولهذا سمَّاهُ اللهُ “ظِهارًا” فقالَ: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} أي: كيفَ يتكلَّمونَ بهذا الكلامِ الَّذين يعلمونَ أنَّهُ لا حقيقةَ لهُ، فيشبِّهونَ أزواجَهم بأمَّهاتِهم اللَّاتي ولدْنَهم؟ ولهذا عظَّمَ اللهُ أمرَهُ وقبَّحَهُ، فقالَ: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} أي: قولًا شنيعًا، {وَزُورًا} أي: كذبًا.
{وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} عمَّن صدرَ منهُ بعضُ المخالفاتِ، فتداركَها بالتَّوبةِ النَّصوحِ.
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} اختلفَ العلماءُ في معنى العودِ، فقيلَ: معناهُ العزمُ على جماعِ مَن ظاهرَ منها، وأنَّهُ بمجرَّدِ عزمِهِ تجبُ عليهِ الكفَّارةُ المذكورةُ، ويدلُّ على هذا، أنَّ اللهَ تعالى ذكرَ في الكفَّارةِ أنَّها تكونُ قبلَ المسيسِ، وذلكَ إنَّما يكونُ بمجرَّدِ العزمِ، وقيلَ: معناهُ حقيقةُ الوطءِ، ويدلُّ على ذلكَ أنَّ اللهَ قالَ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} والَّذي قالُوا إنَّما هوَ الوطءُ.
وعلى كلٍّ مِن القولَينِ {فَـ} إذا وُجِدَ العودُ، صارَ كفارةُ هذا التَّحريمِ {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مُؤْمِنَةٍ كما قيَّدَتْ في آيةِ القتلِ ذكرٍ أو أنثى، بشرطِ أنْ تكونَ سالمةً مِن العيوبِ الضَّارَّةِ بالعملِ.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي: يلزمُ الزَّوجُ أنْ يتركَ وطءَ زوجتِهِ الَّتي ظاهرَ منها حتَّى يكفِّرَ برقبةٍ.
{ذَلِكُمْ} الحكمُ الَّذي ذكرْناهُ لكم، {تُوعَظُونَ بِهِ} أي: يبيِّنُ لكم حكمَهُ معَ التَّرهيبِ المقرونِ بهِ، لأنَّ معنى الوعظِ ذكرُ الحكمِ معَ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، فالَّذي يريدُ أنْ يظاهرَ، إذا ذكرَ أنَّهُ يجبُ عليهِ عتقُ رقبةٍ كفَّ نفسَهُ عنهُ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيجازي كلَّ عاملٍ بعملِهِ.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} رقبةً يعتقُها، بأنْ لم يجدْها أو لم يجدْ ثمنَها {فَـ} عليهِ {صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} الصِّيامَ {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} إمَّا بأنْ يطعمَهم مِن قوتِ بلدِهِ ما يكفيهم، كما هوَ قولُ كثيرٍ مِن المفسِّرينَ، وإمَّا بأنْ يطعمَ كلَّ مسكينٍ مُدَّ بُرٍّ أو نصفَ صاعٍ مِن غيرِهِ ممَّا يجزي في الفِطرةِ، كما هوَ قولُ طائفةٍ أخرى.
ذلكَ الحكمُ الَّذي بيَّنَاهُ لكم، ووضَّحْناهُ لكم {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وذلكَ بالتزامِ هذا الحكمِ وغيرِهِ مِن الأحكامِ، والعملِ بهِ، فإنَّ التزامَ أحكامِ اللهِ، والعملِ بها مِن الإيمانِ، بل هيَ المقصودةُ وممَّا يزيدُ بهِ الإيمانُ ويكملُ وينمو.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} الَّتي تمنعُ مِن الوقوعِ فيها، فيجبُ ألَّا تُتعدَّى ولا يُقصَّرَ عنها.
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وفي هذهِ الآياتِ، عدَّةُ أحكامٍ:
منها: لطفُ اللهِ بعبادِهِ واعتناؤُهُ بهم، حيثُ ذكرَ شكوى هذهِ المرأةِ المصابةِ، وأزالَها ورفعَ عنها البلوى، بل رفعَ البلوى بحكمِهِ العامِّ لكلِّ مَن ابتُلِيَ بمثلِ هذهِ القضيَّةِ.
ومنها: أنَّ الظِّهارَ مُختَصٌّ بتحريمِ الزَّوجةِ، لأنَّ اللهَ قالَ: {مِنْ نِسَائِهِمْ} فلو حرَّمَ أمتَهُ، لم يكنْ ذلكَ ظهارًا، بل هوَ مِن جنسِ تحريمِ الطَّعامِ والشَّرابِ، تجبُ فيهِ كفَّارةُ اليمينِ فقط.
ومنها: أنَّهُ لا يصحُّ الظِّهارُ مِن امرأةٍ قبلَ أنْ يتزوَّجَها، لأنَّها لا تدخلُ في نسائِهِ وقتَ الظِّهارِ، كما لا يصحُّ طلاقُها، سواءً نجَّزَ ذلكَ أو علَّقَهُ.
ومنها: أنَّ الظِّهارَ محرَّمٌ، لأنَّ اللهَ سمَّاهُ منكَرًا مِن القولِ وزورًا.
ومنها: تنبيهُ اللهِ على وجهِ الحكمِ وحكمتِهِ، لأنَّ اللهَ تعالى قالَ: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}
ومنها: أنَّهُ يُكرَهُ للرَّجلِ أنْ يناديَ زوجتَهُ ويدعوَها باسمِ محارمِهِ، كقولِهِ: “يا أمي”، “يا أختي” ونحوِهِ، لأنَّ ذلكَ يشبهُ المحرَّمَ.
ومنها: أنَّ الكفَّارةَ إنَّما تجبُ بالعودِ لما قالَ المظاهِرُ، على اختلافِ القولَينِ السَّابقَينِ، لا بمجرَّدِ الظِّهارِ.
ومنها: أنَّهُ يجزئُ في كفَّارةِ الرَّقبةِ، الصَّغيرُ والكبيرُ، والذَّكرُ والأنثى، لإطلاقِ الآيةِ في ذلكَ.
ومنها: أنَّهُ يجبُ إخراجُها إذا كانَتْ عتقًا أو صيامًا قبلَ المسيسِ، كما قيَّدَهُ اللهُ. بخلافِ كفَّارةِ الإطعامِ، فإنَّهُ يجوزُ المسيسُ والوطْءُ في أثنائِها.
ومنها: أنَّهُ لعلَّ الحكمةَ في وجوبِ الكفَّارةِ قبلَ المسيسِ، أنَّ ذلكَ أدعى لإخراجِها، فإنَّهُ إذا اشتاقَ إلى الجِماعِ، وعلمَ أنَّهُ لا يُمكَّنُ مِن ذلكَ إلَّا بعدَ الكفَّارةِ، بادرَ لإخراجِها.
ومنها: أنَّهُ لا بدَّ مِن إطعامِ ستِّينَ مسكينًا، فلو جمعَ طعامَ ستِّينَ مسكينًا، ودفعَهُ لواحدٍ أو أكثرَ مِن ذلكَ، دونَ السِّتِّينَ لم يجزْ ذلكَ، لأنَّ اللهَ قالَ: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}.