المعجزات تبين قدرة الله عز وجل ولا تضاهيها قدرة أحد. والمعجزة تزيد الرسل تأييدا وتطمئنهم، وتزيد إيمان الناس واقتناعهم بنبيهم وبربهم خالقهم، وكذلك المعجزة تكون حجة الله على خلقه فلو لم تأتهم البينات والادلة لكان حجتهم يوم القيامة بكفرهم أنهم لم يأتهم البلاغ من ربهم، لذا فمن عدل الله تعالى ورحمته إرسال الرسل والانبياء بأدلة وبراهين ومعجزات للناس، ومن ثم يختارون الإيمان بهم أو الكفر ولهم الخيار وعلى الله تعالى الحساب والجزاء.
 والمعجزة  أمر خارق للعادة ، وعندما تأتي على يد أحد الأنبياء تكون من نفس النوع الذي برع به قوم هذا النبي، وهي تعجز الآخرين عن الإتيان بمثلها ، وهناك فرق بين المعجزة والكرامة فالمعجزة خاصة بالرسل والانبياء. أما الكرامة فهي خاصة بأولياء الله الصالحين، كرمهم الله بها للدلالة على صحة الطريقة التي يتبعونها.  
 

- أخذ إبراهيم ولده وزوجته ترشده عناية الله حتى وقف عند البيت العتيق بمكة
- ذات ليلة فاجأت الرؤيا الصادقة إبراهيم تأمره أن يذبح ولده إسماعيل
- عاش إسماعيل واختلط في طفولته وصباه بأبناء جرهم فتعلم منهم العربية 

شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون (سارة) زوجة سيدنا إبراهيم عقيمًا لا تلد، وكانت زوجة وفيّة مخلصة لزوجها، عارفة بحقوق ربها. وحين أدرك إبراهيم الكبر ولم يرزق منها ذرية. آلمها ألا ينعم بالولد بسبب عقمها، فأهدت إليه جارية تملكها تسمى (هاجر) وطلبت إليه أن يتزوجها فلعلها تسعده بما عجزت هي عنه.. ولقد كان ما أملته، إذ لم تلبث (هاجر) أن وضعت ولدها (إسماعيل) عليه السلام، ففرح به أبوه (إبراهيم) فرحًا عظيمًا، وشاركته زوجته (سارة) ذلك.
 لكن سرعان ما دبت الغيرة إلى قلبها فألحت على سيدنا إبراهيم أن يبعد (إسماعيل) وأمه (هاجر) إلى مكان بعيد.  وكانت إرادة الله سبحانه وراء كل ذلك، فأوحى إلى إبراهيم أن يستجيب لزوجته. وأخذ إبراهيم وولدها، وسار بها ترشده عناية الله وتقوده إرادته، حتى وقف بها عند مكان البيت العتيق بمكة، فأنزلهما، وتركهما في تلك البقعة الجرداء وليس معهما من الزاد ما يكفي يومًا أو بعض يوم.
 
 
الامتحان الرهيب
 
 
وذات ليلة فاجأت الرؤيا الصادقة إبراهيم تأمره أن يذبح ولده إسماعيل. وتوجه إبراهيم إلى ولده يقص عليه ما رأى، وقال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟ فرد إسماعيل: &o4831; يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ &o4830; وأسلم نفسه وطلب من أبيه أن يشد وثاقه وأن يطرحه على صدره حتى لا يرى السكين وأن يحدها جيدًا وأن يسرع إمرارها على رقبته حتى لا تأخذه الشفقة فيتردد فيخالف أمر الله ورجاه أن يبلغ أمه السلام وأن يقوم بالتسرية عنها بعد ذبحه. 
فلما شد (إبراهيم) ابنه على النحو الذي طلبه منه أمر الله السكين فكلت عن القطع وحار إبراهيم في الأمر وأحس أن الله سبحانه قد رحم هذا الابن المطيع، وسرعان ما انكشفت حيرته حين رأى أمامه كبشًا عظيما – وسمع نداء علويا يرتفع بالثناء عليه، وبأن الله أنزل هذا الكبش فداء لإسماعيل فأسرع إليه إبراهيم يذبحه.
 وفرج الله - بهذا - الكرب عن الوالد والولد معا. وقد سجل القرآن الكريم هذه القصة ونهايتها فقال تعالى: &o4831; فَلَمَّاأَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ &o4830;.
 
 
 عتبة البيت
 
 
وعاش إسماعيل في هذا المكان، واختلط في طفولته وصباه بأبناء جرهم فتعلم منهم العربية وأحبهم وأحبوه، فلما صار شابا تزوج منهم وعاش معهم سعيدا بأمه وسعيدا بهم. 
لكن المنية نزلت بأمه فامتلأ قلبه بالأسى لفراقها وسأل الله تعالى أن يجزيها على جهادها وصبرها خير الجزاء ،وبين الحين والحين، كان سيدنا إبراهيم يكابد مشقة السفر بين فلسطين ومكة ليزور ابنه ويتفقد أحواله.
 
 
البيت العتيق
 
 
وأمر الله سبحانه إبراهيم عليه السلام ببناء البيت العتيق. في موضع محدد بمكة فجاء إليها باحثًا عن فلذة كبده ليكون عونًا في مهمته العظيمة، وأسرع إسماعيل يعين أباه على تنفيذ أمر الله وشرعا يبنيان البيت الحرام، طالبين من الله القبول والثواب &o4831; وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ &o4830;.
 
 
الخليل
 
 
هاجَرَ سيّدنا إبراهيم من أرض النَّهرَين (1)، أخذ معه زوجتَه سارةَ وابن خالته سيّدنا لوطاً عليه السّلام، ذهبوا إلى مملكة الأقباط، وهناك أهدى الملك فتاة اسمها هاجر إلى سارة إكراماً لزوجة خليل الرحمن.
مضى سيّدنا إبراهيم إلى فلسطين، في الطريق وعندما وصلوا إلى قرية « سَدُوم » على سواحل البحر الميّت أمر سيّدنا إبراهيم لوطاً أن يسكن في تلك القرية ويدعو أهلها إلى عبادة الله سبحانه. أما سيّدنا إبراهيمُ فقد واصلَ طريقَهُ مع زوجتهِ سارةَ والفتاةِ هاجر إلى أرضِ فلسطين. رأى سيّدُنا إبراهيم وادياً جميلاً تحيطه الرَّاوبي والتِّلال، فألقى رَحْلَهُ هناك.
 
ومنذ ذلك التاريخ وقبل آلاف السنين سكن سيّدنا إبراهيم الأرض التي تُدعى اليوم بمدينة الخليل. ضرب سيّدنا إبراهيم خيامه في ذلك الوادي الفسيح وترك ماشيته ترعى بسلام. كان ذلك الوادي في طريق القوافل المسافرة، لهذا كان يقصده الكثير من المسافرين فيجدون عنده الماء العذب، والطعام الطيب والكرم والاستقبال الحسن، ويجدون عنده الكلمات الطيبة..كان سيّدنا إبراهيم يتحدث مع ضيوفه، وكان همّه أن يعبد الناسُ اللهَ الواحد الأحد لا شريك له ولا معبود سواه. وتمرّ الايام والأعوام وعرف الناسُ إبراهيمَ الرجل الصالح الكريم... عرفوا أخلاقه وكرمه وحبّه للضيوف، عرفوا صلاحه وعبادته وتقواه، وعرفوا حبّه للخير والناس.
 
وَهَب الله سبحانه إبراهيمَ ولداً هو إسماعيلُ. كانَ طفلاً محبوباً ملأ قلبَ أبيه فَرَحاً ومَسَرّة. لهذا كان يحتضنُه ويقبّلُه وكان يقضي بعضَ أوقاته في خيمةِ أمّهِ هاجر.
 
سارة المرأة الصالحة كانت تحبّ سيّدنا إبراهيم، تحبّ أن يفرح زوجها.. ولكنها بدأت تغار من هاجر.. هاجر التي رُزقت طفلاً أمّا هي فظلّت محرومة. سارة لا تريد للغيرة أن تأكل قلبها.. لا تريد أن تكره أو تحقد على هاجر بسبب ذلك..
من أجل هذا قالت لزوجها إبراهيم: انها لا تريد أن ترى هاجرَ بعد الآن.. لأنها إذا رأت هاجر، فستغار منها وتحقد عليها وهي لا تريد أن تدخل النار بسبب ذلك.
 
الله سبحانه رؤوف بعباده.. كانت سارة محرومة من الأطفال، تحمّلت العذاب والهجرة بسبب إيمانها بزوجها إبراهيم وهي صابرة طوال هذه السنين.. ظلّت مؤمنة بربها وبرسوله إبراهيم.
 
 
إلى البيت العَتيق
 
 
وقضت مشيئة ربّنا سبحانه ان يأخذ إبراهيمُ هاجر وابنها إسماعيل إلى أرض بعيدة في الجنوب. امتثل سيّدنا إبراهيم لأمر الله فشدّ الرحال إلى مكان مجهول لم يذهب إليه من قبل..
وسار إبراهيم مع زوجته هاجر، ومعهما إسماعيل الطفل الرضيع سارا أيّاماً طويلة.. وفي كل مرّة وعندما يرى سيّدنا إبراهيم مكاناً جميلاً أو وادياً معشباً كان ينظر إلى السماء، كان يتمنّى أن يكون قد وصل المكان الموعود.
ولكن الملاك يهبط من السماء ويخبره باستئناف المسير. وهكذا كان سيّدنا إبراهيم يسير ويسير ومعه زوجته هاجر وهي تحمل طفلها الرضيع. وبعد أيام طويلة وصلوا أرضاً جرداء عبارة عن واد ليس فيه سوى الرمال، وبعض شجيرات الصحارى الجافّة. في ذلك المكان هبط الملاك وأخبر سيّدَنا إبراهيم بانه قد وصل الأرض المقدّسة.
نزل إبراهيم في ذلك الوادي... كان وادياً خالياً من الحياة ليس فيه نهر ولا نبع ولا يعيش فيه إنسان. إنها إرادة الله أن يعيش الصبي إسماعيل وامّه في هذا المكان.
 
 
الوَداع
 
 
قبّل سيّدُنا إبراهيم طفلَه الوديعَ إسماعيل.. بكى من أجله. على إبراهيمَ أن يعودَ ويتركَ هاجرَ وابنَها في هذا المكانِ الموحشِ، بكى إبراهيمُ من أجلهما، وهو يبتعدُ عائداً إلى فلسطين. التفتت هاجرُ حوالَيها.. لَم تَرَ شيئاً سوى الرِّمال، وسوى صُخورِ الجبال الصمّاء.. قالت لزوجها: ـ أتَترُكنا هنا.. في هذا الوادي المُوحِش ؟! ـ لقد أمَرَني الله بذلك يا هاجر. كانت هاجر امرأة مؤمنة عرفت أن الله رؤوف بعباده ويريد لهم الخير والبركات. 
قالت لابراهيم: ـ ما دام ان الله قد أمرك فهو كفيلنا وهو يرعانا.. إنّه لا ينسى عباده. ابتعد إبراهيمُ بعد أن ودّع ابنه وزوجته. وقف فوق التلال ونظر إلى السماء وابتهل إلى الله أن يحفظهما من الشرور.
 
 
الماء!
 
 
اختفى إبراهيم في الافق البعيد. لم تعد هاجر تراه، أمّا إسماعيل فلم يكن يعلم ماذا يجري حوله.. فرشت هاجر لابنها جلد كبش، وقامت لتصنع لها ولطفلها خيمة صغيرة. كانت تعمل بكل طمأنينة، وكأنها في بيتها..كانت تؤمن أن هناك من يرعاها ويرعى وليدها.
في النهار تجمع بعض الحطب، وفي المساء توقد النار وتصنع لها رغيفاً تتعشّى به، وكانت تسهر معظم الليل وهي تنظر إلى السماء المرصعة بالنجوم.
مضت عدّة أيام وهاجر على هذه الحال.. نفد ما معها من الماء.. لم يبق في القربة حتى قطرة واحدة. نَفَد الماءُ كلّه.. لم تَبقَ منه قَطرةٌ واحدة.. الوادي المُوحِشُ يَملأه الصَّمت.
 
راحَت هاجرُ تُدير بَصَرها في جَنَباتِ الوادي.. ولكنْ لا شيء، أيقنت ان هذه أرض جرداء خالية من الماء.. لم يمرّ بها انسان من قبل ولا يطير في سمائها طائر.. بكى إسماعيلُ الطفلُ الرضيعُ.. كان عطشاناً يَبحثُ عن قَطرةِ ماء.. إنّه لا يُدركُ ما يَجري حوله.. لا يدري في أيِّ مكانٍ هو في هذه الأرض. نَظَرت أمُّه إليه بإشفاق... ماذا تَفعل.. مِن أين لها أن تأتي بالماءِ في هذه الصحراء ؟! فجأة تَفجّرت في قلبها إرادةٌ الأُمومة.. لابدّ أن تَفعلَ شيئاً.. لابدّ أن يُوجَد في هذه الأرض ماءٌ ولو قَطرة.. لعلّ خَلفَ هذا الجبلِ غَديراً أو نَبْعاً.. لعلّ خَلف ذاك التَّلِّ بئراً حَفَرهما إنسانٌ طيّبٌ من أجل القَوافلِ المُسافرة. نَهَضَت هاجَرُ.. نَظَرت حَوالَيها لتتأكّدَ من عَدمِ وجودِ ذئبٍ أو ضَبعٍ يَفتَرسُ ابنَها الرضيع.. لا شيء سوى شُجَيراتِ الشَّوكِ هنا وهناك.. رَكَضَت هاجرُ باتّجاهِ جَبَلِ الصَّفا.
 
كانت تَركضُ بعزمٍ وأملٍ، وكان هناكَ خوفٌ في قلبِها.. فقد يَختَطِفُ الذئبُ صغيرَها الظامئ إسماعيل.. كان صُراخُ إسماعيلَ يُدوّي في أُذنِها.. ارتَقَتْ هاجَرُ قِمّةَ الجبل.. فنَظَرت في الوادي.. رَأت ما يُشبِهُ تَمَوُّجاتِ الماء.. انحَدَرت باتّجاهِ الوادي... ولكن لا شيء! لم تكن هناك غير الرمال.. لقد كان مجرّد سرابٍ ما رأته في قلب الوادي... عادَت هاجَرُ تركُضُ نحوَ طفلِها إسماعيل.. ما يَزالُ يَبكي يَصرخُ يُريد ماءً... نَظَرت إلى جَبَلِ المَرْوَة في أمَل.. لَعلّ هناك ماءً.. راحَت تَركضُ بأقصى سُرعة.. وكانَت الرِّمال تَتطايَرُ تَحتَ قَدمَيها.. تراءى لها ما يُشِبهُ الماء... رَكضَت... رَكَضت... رَكَضت بسرعة... ولكنْ لا شيءَ سِوى السَّراب.. انقَطَع بكاءُ إسماعيل غابَ عن بَصَرِها...
 
عادَت بسُرعة... رَأتْهُ مِن بعيدٍ يَبكي.. ما يزالُ يَطلُبُ الماءَ... وربّما كانَ يَبحَثُ عن أُمّه... كانَ خائفاً.. راحَت هاجَرُ تَعْدُو بينَ جَبَلِ الصَّفا وجَبَلِ المَرْوَةِ تَبحَثُ عن ماءٍ لوليدِها إسماعيل.. سيموتُ من الظَّمأ، سيموتُ من العَطَش..َظَرت إلى السماء، صاحَتِ مِن كلِّ قلبِها: يا رَبِّ!
 
ارتَقَتْ جَبَل المَروَةَ، غابَ إسماعيلُ عن بَصَرِها.. انقَطَع بكاؤه.. خافَت هاجَرُ ربّما يكون قد ماتَ.. ربّما افتَرَسه ذئبٌ جائع.. أقبَلَت تَعْدو بكلِّ ما أُوتِيَتْ مِن قُدرةٍ رأتْ من بعيدٍ إسماعيلَ هادئاً، كان يُحرّكُ يديَهِ وقَدَميهِ، وكانَ هناكَ نَبعٌ قد تَفَجَّر عندَ قَدَميهِ الصَّغيرتين.
 
نَظَرت هاجرُ إلى السّماءِ وهي تَبكي، لقد استَجابَ اللهُ دَعوَتَها فتَدفّقَ الماءُ من قلبِ الرِّمال.. أسرَعَت هاجَرُ لِتصَنَع حَوضاً حولَ الماءِ.. ليكونَ فيما بَعدُ بِئرَ زَمزم التي يَشرَبُ مِنها الظامِئون.
 
 
القُرْبان
 
 
هَبَط المَلاكُ جبريلُ وأمَرَ سيّدَنا إبراهيمَ أن يَتزَوّدَ بالماءِ ثَمّ يذهبَ إلى جَبَل عَرَفات ومِنى، ومن ذلك الوقتِ سُمّي يوم الثامنِ من ذي الحجّةِ الحرام بيومِ التَّرْوِيَة. أمضى سيّدُنا إبراهيمُ ليلتَه هناك.. نظَرَ إلى السماء المُرصَّعَة بالنجوم. نظَرَ إلى ما خَلَق الله من الكواكبِ التي تُشبِهُ المَصابيحَ، فسجَدَ لله الخالقِ البارئ المصوِّرِ له الأسماءُ الحُسنى يُحيي ويُميتُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير.
 
 
أغمَضَ سيّدُنا إبراهيمُ عَينَيه ونامَ.. في عالَمِ المَنامِ رأى سيّدُنا إبراهيمُ شيئاً عجيباً!! رأى نفسَهُ يَذبَحُ ولدَهُ إسماعيل... إنتَبَه من نومِه.. كانت السماءُ ما تزال زاخِرةً بالنجومِ، ورأى ابنَه نائماً. عادَ سيّدُنا إبراهيمُ إلى نَومِه.. مرّةً أخرى تَكرَّرت ذاتُ الرُّؤيا.. رأى نفسَهُ يَذبَحُ ابنَهُ ويُقِّدمُه قُرباناً إلى ربِّ العالمين!!
 
 
استَيقَظ سيّدُنا إبراهيمُ وقد انفَلَق عَمودُ الفَجرِ.. تَوضّأ وصلّى... واستيَقَظ إسماعيلُ فتَوضّأ وصلّى. طَلَعَتِ الشمسُ وغَمَرت التِّلالَ بالنور. كانَ سيّدُنا إبراهيمُ حَزيناً.. إنّ الله عزّوجلّ يَمتَحِنهُ مَرّةً أخرى... يَمتحِنُهُ هذه المرّةَ بذبحِ ابنِه.. ماذا يفعل ؟ لو أمَرَه اللهُ سبحانه بأن يَقذِفَ نفسَه في النارِ لَفَعل، ولكن ماذا يَفعلُ ؟ في هذه المرّة عليه أن يَذبحَ ابنَه ؟! ترى ماذا يَفعل ؟ هل يُخبِرُ ابنَه بذلك ؟ هل يَذبَحُه عُنوَةً ؟ وإذا أخبَرَ ابنَهُ هل يَقبَلُ ابنُهُ بالذبحِ ؟ هل يَتحَمّلُ إسماعيلُ آلامَ الذَّبح ؟!
 
 
إسماعيلُ رأى أباه حَزيناً، فقال له: ـ لماذا أنتَ حَزينٌ يا أبي ؟ قالَ سيّدُنا إبراهيم: ـ هناك أمرٌ أقلَقَني... يا بُنيّ إنّي أرى في المَنامِ أنّي أذبَحُكَ، فماذا تَرى ؟ أدرَكَ إسماعيلُ أنّ الله سبحانه يأمرُ رسولَه إبراهيمَ أنّ يُضحّي بولدِه... إسماعيلُ كانَ يُحبُّ أباه كثيراً، يَعرِفُ أنّ أباه لا يَفعلُ شيئاً إلاّ بأمرِ ربِّه... إنّه خليلُ الرحمن الذي امتَحَنَه اللهُ عندما كانَ فتىً في بابلَ وحتّى بعد أن أصبَحَ شيخاً كبيراً. عَرَف إسماعيلُ أنّ اللهَ يَمَتَحِنُ خليلَه إبراهيم... لهذا قال له: ـ يا أبتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُني إنْ شاءَ اللهُ مِن الصَّابِرين. سيّدُنا إبراهيمُ فِرِحَ بذلك. كانَ إسماعيلُ وَلداً بارّاً مُطيعاً ومُؤمناً باللهِ ورسولهِ.
 
 
الذَّبيح
 
 
أخَذَ سيّدُنا إبراهيمُ مُدْيَةً وحَبلاً، وذَهَب إلى أحدِ الوِديان القريبة.. كانَ إسماعيلُ يُرافِقُ أباه ساكِتاً. كانَ يُهيّئُ نَفسَهُ لِلَحظةِ الذَّبح، ويُدعو الله أن يَمنَحَهُ الصبرَ لتحمّلِ الآلامِ في سبيله.. هاجَرُ عندما رأتْ سيّدَنا إبراهيمَ وإسماعيلَ قد انطَلَقا نحو الوادي، ظنّت أنّهما ذَهَبا لجمعِ الحَطَب.. وصَلَ سيّدُنا إبراهيمُ وإسماعيل إلى الوادي..نَظَر إسماعيلُ إلى أبيه، كانت عَيناهُ مَليئتين بالدُّموع.. هو أيضاً بكى من أجلِ أبيهِ الشيخ فأراد أن يُنهِيَ الأمرَ بسرعة، قالَ لأبيه: ـ يا أبي، أحْكِمْ وَثاقي، واكْفُفْ ثِيابَكَ حتّى لا تَتَلطَّخَ بالدمِ فتَراهُ أُمّي.. يا أبي، واشْحَذِ السِّكِّينَ جَيّداً، وأسْرِعْ في ذَبْحي فإنّ آلامَ الذَّبح شديدة.
 
 
بكى سيّدُنا إبراهيمُ وقال: ـ نِعْمَ العَوْنُ أنتَ يا بُنَيّ على أمرِ الله. أحكَمَ سيّدُنا إبراهيم الوَثاقَ على كَتِفَي إسماعيلَ.. كاَن إسماعيلُ مُستَسلِماً تَماماً لأمرِ الله. أغمَضَ عَيْنَهِ.. سيّدُنا إبراهيمُ أمسَكَ بِجَبينِ ولدِه وحَناهُ إلى الأرض. جَثا إسماعيلُ الفَتى بهدوءٍ. كانَ يُودِّعُ الحَياة، يُودّعُ أُمَّه وأباه... وضَعَ سيّدُنا إبراهيمُ السكِّين على عُنُقِ إسماعيل.. لحظةٌ واحدةٌ وينتهي كلُّ شيء. ماذا حَصَل في تلك اللحظاتِ المُثيرة ؟! هل ذُبِح إسماعيل ؟ كلاّ. سَمِع سَيّدُنا إبراهيمُ نِداءً سماويّاً... يأمرُه بذبحِ كَبْشٍ فِداءً لإسماعيل.