نفى بعض المفسرين  قصة الشيطان المتمرد الذي سرق الخاتم
وهبه الله معرفة  لغة الحيوانات والطيور كما ورد في القرآن الكريم
الهدهد حضر.. ومعه نبأ عظيم بل مفاجأة ضخمة لسيدنا سليمان
عرش الملكة بلقيس استقر  أمامه في طرفة عين فقال هذا من فضل ربي

 
وردت قصة سليمان عليه السلام [في سورة النمل من (الآية 15 إلى الآية 44) وفي سورة الأنبياء (الآيات 79 و81و82) وفي سورة سبأ (الآيات 12- 14)، وفي سورة ص (الآية 30 إلى الآية 40)]. والجزء الأساس من قصة سليمان مع ملكة سبأ والذي سنتحدث عنه والذي سوف نتدبر ما فيه من عظات ودروس هو ما ورد في سورة النمل (من الآية 15 إلى الآية 44). وأما ما ورد من آيات في السور الأخرى فهي مكملات لقصة سليمان.
 تمهد سورة النمل في مطلعها بمقطع من ست آيات مفتتحة السورة بحرفي (طس) وهي من الحروف المقطعة لتعزِّز فكرة إعجاز القرآن وأنه من هذه الحروف التي يعرفها العرب المخاطبون بهذا القرآن. ونلاحظ أن الآيات (1-6) الأولى تذكر بعد إيراد الحرفين المقطَّعين (طس): أن تلك آيات القرآن، وأنه كتاب مبين واضح، وأنه هدى وبشرى للمؤمنين. وأنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَ الله لهم أعمالهم القبيحة بتركيب الشهوة فيها حتى رأوها حسنة، ولذلك فهم متحيرون كيف أن المؤمنين يرونها قبيحة، ثم تذكِّر هذه الآيات الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يتلقى القرآن من الله الحكيم العليم. قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: 6]. 
 بعد ذلك يأتي الجزء الخاص من قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ في سورة النمل التي نحن بصدد النظر في تدبرها والتفكر في تجليات آياتها.. ولكن قبل أن ندخل في التفكر والتدبر في تجليات الآيات التي ذكرت قصة سليمان في سورة النمل لابد من ذكر بعض الصفات التي أهل الله بها النبي سليمان عليه السلام ليكون أهلاً لهذا التكريم وذلك الملك العريض، الذي لم يُعط لأحدٍ من قبله ولا من بعده.، وقبل ذكر طرف من قصة سليمان وما أعطي له من أسباب الملك الكثيرة في سورة (ص) يأتي تذكير الرسول بأهمية القرآن، وبعض الأهداف من إنزاله وأنه مبارك ليدبر آياته البشر، وليتذكره أولى الألباب، قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]. ثم تذكر الآيات (30- 40) من سورة ص طرفاً من قصة سليمان. 
صفات وأخلاق
 لقد وهب الله سليمان صفات وأخلاق جعلته أهلاً لذلك الملك العريض، وبعض ما أعطي له من أسباب الملك الكثيرة، ومن هذه الصفات:
أولاً: أنه نبي من أنبياء الله، وهو مكلف بالدعوة إلى الله وليس ملكاً عادياً، وما أعطاه الله كان من المعجزات، وليس فقط من متطلبات الملك العادي لأي ملك. 
ثانياً: أنه كما وصفه الله سريع الرجوع إلى الله نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. قال تعالى: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.
 ثالثاً: أن الله فتنه أي (اختبره) فتقبل ذلك الاختبار بصبر وعاد إلى الله منيباً إليه، ورجع إلى ربه واستغفره: قال تعالى في سورة ص: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. وليست هناك روايات يعتمد عليها فيما هو الجسد، ويهمنا هنا أن سليمان بعد أن فتنه الله واختبره تاب إليه مستغفراً. 
والروايات التي ذُكرت في العديد من التفاسير عن خاتم سليمان والشيطان المتمرد الذي سرق الخاتم والذي تمثل في صورة سليمان وغيرها من الحكايات، وإن رويت عن ابن عباس يبدو من السياق فيها أنها من الإسرائيليات. قال ابن كثير في تفسيره: (والظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما إن صح عنه من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام. فالظاهر أنهم يكذبون عليه ولهذا كان في السياق منكرات) (تفسير ابن كثير 4/45).
ولتأكيد على أن قصة الخاتم لا أساس لها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم. عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله فطاف عليهن جميعا، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون». البخاري 6/ 2447 رقم 6263. ومسلم 3/ 1275 رقم 1654.
وقد طلب سليمان عليه السلام من الله بعد أن فتنته أن يعطيه ملكا لا ينبغي أن يعطيه لأحدٍ من بعده، ليس طمعاً بالملك ولا أثرة به، وإنما أراد به الاختصاص الذي يتجلى في صورة معجزة بمُلكٍ ذا خصوصية تميزه عن كل ملوك الأرض الآخرين من قبله ومن بعده. وإن يكون ملكه ذا طبيعة معينة ليست مكررة ولا معهودة في الملك الذي يعرفه الناس، إذ أنه كان نبياً قبل أن يكون ملكاً.. وقد استجاب له ربه، فأعطاه فوق الملك المعهود، ملكاً خاصاً لا يتكرر..
ومن ذلك تسخير الريح لسليمان. وتسخير الريح لعبد من عباد الله بإذن الله؛ لا يخرج في طبيعته عن تسخير الريح لإرادة الله. وكذلك طاعة الشياطين والجن والطير والحيوان لا يخرج ذلك عن نطاق إرادة الله في تسخيره ما يشاء من خلقه لمن أراد من عباده.
لغة الطيور
ومن مظاهر عِلْمِ سليمان للغة النملِ أنه سمع نملة في وادي النمل تحذر قومها من أن يَحْطِمَهم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون.. لأن الإنسان لن يهتم بمثل هذه الحشرات، ولكن الله ذكر هذا الموقف الذي يعتبر موقفاً لا قيمة له ـ بالنسبة للإنسان العادي فما بالنا بمن له مثل ملك سليمان العريض - ليعطي دليلاً وحكماً شرعياً للقائد للأمة أن يهتم بمثل هذه المخلوقات العجموات فما بالنا بالاهتمام ببني آدم، وقد انتبه لها سليمان وسمع صوتها على الرغم من هذا الحشد الهائل من جنوده وضجيج زحفهم، واهتم بها على الرغم من صغرها وضعفها وحقارتها عند كثير من الناس. ثم أنه عَجِبَ من ذكاء تلك النملة وهي تحذر قومها من كارثة قد تقع عليهم عند مرور سليمان وجنده على قريتهم وهم لا يشعرون، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا، فهو لم يغتر بما أوتي من العلم والقوة، وكثرة الجنود كما يغتر الملوك والكبراء إذا كثر أتباعهم وأعوانهم؛ وإنما تأدب مع الله الذي أعطاه هذا الملك وهذه القدرة على فهم لغة الحيوان، وتذكر نعمة الله عليه: وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19].
ويحضر الهدهد.. ومعه نبأ عظيم، بل مفاجأة ضخمة لسليمان، ولنا نحن الذين نشهد أحداث الرواية الآن!! ولذلك نجد أن الهدهد يخبره أنه قد أحاط بأمور لم يحط بها سليمان رغم أنه نبي فعلمه محدود بما آتاه الله. ولأن الهدهد يعرف حزم الملك وشدته.ـ والحيوانات تعرف وتفهم وتدرك ولكنها حرمت من الكلام ـ. فهو يبدأ حديثه مع سليمان بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته، وتضمنُ إصغاء الملك له، إذ بادر الملك بالقول: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل: 22].. فأي ملك لا يستمع!! وأحد رعاياه يقول له: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِه؟! فإذا ضَمِنَ إصغاء الملك بعد هذه المفاجأة أخذ في شرح تفاصيل النبأ اليقين الذي جاء به من مملكة سبأ. (الآية 22-23). والعجيب في هذا الموقف يعطينا درساً، أن الإنسان مهما بلغ من العلم فإنه لا يحيط بكل شيء ولو كان نبياً مثل سليمان، وكيف أن طائراً أعجماً أحاط بعلم ما لم يحط به النبي. وهنا أيضاً لفتة تربوية عظيمة وهي أن على القائد ألاَّ يستهين بأقل جنده شأناً، فقد يأتي بخبر أو فكرة لها أثر كبير على الأمة. 
ملكة سبا
وتتلقى ملكة سبا الكتاب (الرسالة)، ومع أنها لم تعلم من ألقى إليها الكتاب؟ ولا كيف ألقاه؟ لكنها مع ذلك لم تستخف بالكتاب، ولم تعلن حالة الطوارئ لمثل هذا الاختراق لقصرها.. ولم تؤنب الحراس والجنود، ولم تفزع من وصول هذه الرسالة الغريبة المصدر القوية في فحواها كما يفعل الملوك، بل يظهر عليها الهدوء، حتى تستدعي حاشيتها إليها وتخبرهم بأمر الرسالة؛ بل إنها تصف الكتاب بأنه كريم: قال تعالى: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ. وهذا الوصف ربما خطر لها من خاتمه أو شكله أو أسلوبه وفحواه التي أعلنت عنها للملأ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 30، 31].. وهي كانت لا تعبد الله. ولكن صيت سليمان كان ذائعاً في هذه الرقعة من الأرض، ولغة الكتاب التي يحكيها القرآن فيها استعلاء وحزم وجزم. مما قد يوحي إليها بهذا الوصف الذي أعلنته. ومن سياق القصة ندرك أنها كانت قارئة ولم تحتج لمن يقرأ لها الكتاب. وكذلك ربما كانت لغة الكتابة واحدة متعارف عليها بين شعوب المنطقة في ذلك الزمان.(الآية 29). 
ثم بعد ذلك يدرك سليمان عليه السلام أن هذا الرد شديد اللهجة سينهي الأمر مع ملكة لا تريد العداء كما يبدو من طريقتها في مقابلة رسالته القوية بهدية!! ويُرَجِّحُ سليمان أنها ستستجيب لدعوته، متيقناً من استجابتها بالفراسة، وأنها من المؤكد أنها ستحضر إليه كما خاطبها وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ.. نفهم ذلك من خلال حواره مع حاشيته وجنوده حول استحضار عرشها قبل وصولها، الذي خلفته في بلادها محروساً مصوناً. (الآية: 38).
عرش بلقيس 
ومن أجل استحضار عرش الملكة بلقيس يستعرض اثنين من أتباع سليمان قدراتهم، وهي قدرات خارقة للعادة ولا يمكن تصورها حتى في هذا الزمان؛ وذلك بين عفريت من الجن وأخر عنده علم من الكتاب. - إذ تبعد فلسطين عن اليمن حوالي ألفين كيلو متر -، (الآية: 39-40). وعلينا أن نفهم أن الذي كان عنده علم من الكتاب هو رجل مؤمن على اتصال بالله، موهوب سراً من الله يستمد به من القوة الإلهية الكبرى التي لا تقف لها الحواجز والأبعاد. وهو أمر يشاهد أحياناً على أيدي بعض المتصلين بالله من الكرامات، ولم يكشف الله لنا في القرآن سر ذلك الذي عنده علم من الكتاب ولا من هو، ولا تعليل لما حدث، لأنه خارج عن مألوف البشر في حياتهم العادية. وهذا الذي عنده علم من الكتاب، كانت نفسه مهيأة بسبب ما عنده من العلم، أن تتصل ببعض الأسرار والقوى الكونية التي تتم بها تلك الخارقة التي تمت على يده، لأن ما عنده من علم الكتاب وصل قلبه بربه على نحو يهيئه للتلقي، ولاستخدام ما وهبه الله من قوى وأسرار. ولا يهمنا هنا اسمه ولا من يكون ولكن الذي يهمنا العبرة بأن هذا الذي عنده علم من الكتاب ما هو إلا تابع للنبي سليمان ومسخر لقدراته ولحاجاته، ومع ذلك فقد أعطي من القدرة أكبر مما أعطي سليمان في هذا الاختصاص النادر في عالم البشر، كما أنه برهان على سعة ما أعطي لسليمان. 
ولربما لم يكن لسليمان معرفة بالقدرة الخارقة هذه للذي عنده علم من الكتاب، كما أخبرنا الله في سورة الكهف في قصة مشابهة وهي قصة موسى مع الخضر، إذ أصبح موسى تلميذا عند الخضر. وكل ذلك من حكمة الله في خلقه. فقد يكون إنسان خامل الذكر عند الناس ولكنه عند الله عظيم المكانة.  ثم نرى هنا مشهداً لسليمان لا يمكن أن نصفه إلا بالعبودية الخالصة لله والاعتراف بفضله عليه وشكره على ما وهبه تعالى، عندما رأى عرش الملكة بلقيس مستقراً أمامه في طرفة عين. قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40). ( وطرفة العين: هي حركة جفن العين بين إغلاق وفتح للعين في جزء قصير جداً من الثانية).
 بعد ذلك تأتي مفاجأة أخرى (يستعرض بها سليمان قدراته العلمية والإعجاز النبوي، مقابل التقدم الحضاري والإبداع الإنساني العادي الذي كان في اليمن في مملكة سبأ).. لقد كانت المفاجأة قصرا من البلور (الزجاج)، أقيمت أرضيته فوق الماء, وظهر كأنه لجة (واللجة: الماء الجاري الذي يمكن السير فيه). فلما قيل لها: ادخلي الصرح, حسبت أنها ستخوض تلك اللجة. فكشفت عن ساقيها؟ فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سر ذلك الصرح، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ [النمل: 44]! والصرح: هو القصر. (الآية: 44). ووقفت الملكة مفجوءة مدهوشة أمام هذه العجائب التي تُعجِز البشر.
 وتدلُ على أن سليمان مسخرٌ له قوى أكبر من طاقة البشر. ويبدو من استعداد سليمان لإظهار مثل هذه المعجزات أنه قد وصل إلى علمه ما كانت عليه مملكة سبأ من التقدم الحضاري، إضافة إلى ما ذكره الهدهد، فأراد أن يستعرض ما هو أقوى مما عند الملكة. وهكذا يجب على المسلمين أن يكونوا رواداً مبدعين، حتى يمكنهم تقديم دعوة الإسلام للبشرية، والقرآن هو معجزتهم الكبرى.. ومن أجل ذلك روج النصارى أن الإسلام هو سبب التخلف حتى يهونوا من شأن الإسلام حرباً عليه. وأما ما ذكرته بعض التفاسير من أن سليمان كان قد علم أن أقدامها مثل حوافر الحمار، ومن ثم أراد أن يتأكد من ذلك بأن صنع ذلك الصرح لتكشف عن ساقيها فهي من الإسرائيليات.