- د. زقزوق: الواقع الذي عليه المسلمون منذ أربعة عشر  قرناً هو تمسكهم الشديد بالمحافظة على الوحي القرآني لفظاً ومعنى 
- لا يوجد مسلم يستبيح لنفسه أن يقرأ القرآن بأي لفظ شاء ما دام يحافظ على المعنى وليبحث المستشرقون اليوم في أي مكان في العالم عن مسلم يستبيح لنفسه مثل ذلك
- لماذا هذا التشكيك من المستشرقين في صحة النص القرآني وهم يعلمون مدى حرص المسلمين في السابق واللاحق على تقديس نص القرآن لفظاً ومعنى ؟
- القرآن كان وحيا باللفظ والمعنى معا والرسول صلى الله عليه وسلم حرص كل الحرص على تسجيل الوحي فور نزوله والعناية بحفظه في السجلات التي سطر فيها
- لم يحدث أن أصاب هذا القرآن أي تغيير أو تبديل على مدى تاريخه الطويل  وهذه ميزة فريدة انفرد بها 
- لغة القرآن لها خصوصية التفرد وقد عجزت فصاحة العرب وبلاغتهم  عن محاكاة لغة القرآن الكريم

 
نواصل في هذا العدد نشر كتاب “ “الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري” لوزير الاوقاف المصري الاسبق الدكتور محمود حمدي زقزوق :
[2] صحة النص القرآني .. 
بعد أن تعرفنا على مزاعم المستشرقين في التشكيك في مصدر القرآن نأتي الآن للحديث عن نقطة أخرى تسير في اتجاه التشكيك نفسه، ولكنها في هذه المرة تشكك في صحة النص القرآني وكأنهم بذلك يريدون أن يردوا على القرآن بالسلاح نفسه فقد قرر القرآن أن التوراة والإنجيل قد أصابهما التحريف والتبديل . 
 
وقد تكلم المستشرقون كثيراً في موضوع القراءات بالأحرف السبعة محاولين إثبات أن القراءة كانت حرة طليقة، الأمر الذي جعل تعرض القرآن للتغيير أمراً لا مفر منه. وهم بذلك يوهمون بأن التدوين وقع في جو هذه الحرية، وفي هذا الجو تم تسجيل قراءات مختلفة. وهذه القراءات التي نجمت عن ذلك لم تكن هي الصورة التي ورد بها الوحي أساساً. ونتيجة ذلك كله هي القول بحدوث تغيير في النص القرآني.
 
وقد روّج بعض المستشرقين لفكرة ( القراءة بالمعنى) مما يعطي للمزاعم السابقة سنداً تعتمد عليه. فقد ظهرت هذه النظرية في زعم بعضهم في العهد الأموي وسادت الجو وتلقاها الناس بالقبول ، فلم يكن نص القرآن بحروفه بالنسبة لبعض المؤمنين هــو المهم ولكن المهم كان هو روح النص. ومن هنا ظل اختيار الوجه ( الحرف) في القراءات التي تقوم على الترادف المحض أمراً لا بأس به ولا يثير الاهتمام. وهكذا يمكن أن يخضع تحديد النص لهوى كل إنسان . 
إن اختلاف القراءات أمر ثابت لا ننكره ، ولكن الأمر الذي لا شك فيه أيضاً أن القرآن كان وحياً باللفظ والمعنى معاً. ومن أجل ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً كل الحرص على تسجيل الوحي فور نزوله والعناية بحفظه في السجلات التي سطر فيها. وليس صحيحاً ما يردده ( بلاشير ) من أن فكرة تدوين الوحي لم تنشأ إلا بعد إقامة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأن التدوين كان جزئياً وناتجاً عن جهود فردية ومثاراً للاختلاف.
 
فالثابت أن فكرة تدوين الوحي كانت قائمة منذ نزوله ـ وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام كلما جاءه الوحي وتلاه على الحاضرين أملاه من فوره على كتبة الوحي ليدونوه: وقد بلغ عدد كتاب الوحي ـ كما يذكر الثقات من العلماء ـ تسعة وعشرين كاتباً أشهرهم الخلفاء الراشدون الأربعة ومعاوية، والزبير بن العوام، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت. 
 
وأما ما يتعلق بمسألة الأوجه السبعة في القراءة فإن الأمر فيها لم يكن متروكاً لأهواء الناس، وإنما كان محكوماً بما يقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم للناس من أوجه للقراءة كان القصد منها التخفيف على الناس في أول الأمر ( فأذن لكل منهم أن يقرأ على حرفه، أي على طريقته في اللغة، إلى أن انضبط الأمر في آخر العهد وتدربت الألسن، وتمكن الناس من الاقتصار على الطريقة الواحدة فعارض جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في السنة الأخيرة، واستقر على ما هو عليه الآن ) . وهذا ما عليه أكثر علماء المسلمين. 
 
والواقع الذي عليه المسلمون منذ أربعة عشرة قرناً هو تمسكهم الشديد بالمحافظة على الوحي القرآني لفظاً ومعنى ، ولا يوجد مسلم يستبيح لنفسه أن يقرأ القرآن بأي لفظ شاء ما دام يحافظ على المعنى. وليبحث المستشرقون اليوم في أي مكان في العالم عن مسلم يستبيح لنفسه مثل ذلك وسيعييهم البحث ، فلماذا إذن هذا التشكيك في صحة النص القرآني وهم يعلمون مدى حرص المسلمين في السابق واللاحق على تقديس نص القرآن لفظاً ومعنى ؟ 
 
إنهم يبحثون دائماً ـ كما سبق أن أشرنا ـ عن الآراء المرجوحة والأسانيد الضعيفة ليبنوا عليها نظريات لا أساس لها من التاريخ الصحيح ولا من الواقع. فنحن المسلمين قد تلقينا القرآن الكريم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو بدوره تلقاه وحياً من الله . ولم يحدث أن أصاب هذا القرآن أي تغيير أو تبديل على مدى تاريخه الطويل . وهذه ميزة فريدة انفرد بها القرآن وحده من بين الكتب السماوية كافة، الأمر الذي يحمل في طياته صحة هذا الدين الذي ختم الله سائر الديانات السماوية .
 
وفي هذا الصدد نورد ما ذكره ( رودي بارت ) في مقدمة ترجمتة الألمانية للقرآن الكريم ـ وكأنه يرد على زملائه الذين راحوا يشككون في صحة النص القرآني ـ 
 
 
يقول ( بارت ) : 
( ليس لدينا أي سبب يحملنا على الاعتقاد بأن هناك أية آية في القرآن كله لم ترد عن محمد ).
 
ويتصل بالتشكيك في صحة القرآن القول بأن لغة القرآن ( لا تتميز عن لغة الأدب الدنيوي بعصمة يقينية. وهذا أمر يجده المرء في عدم اتفاق أصحاب النبي فيما بينهم على تبعية بعض فقرات معينة للقرآن ، فابن مسعود ـ مثلاً يرى أن سورة الفاتحة والمعوذتين ليست من القرآن على الرغم من أن هذه السور تعد من أشهر المشهورات ) . 
 
وهذا الرأي المنسوب إلى ابن مسعود باطل من أساسه. وقد رفضه علماء المسلمين .
يقول الإمام فخر الدين الرازي : 
 
( نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوذتين من القرآن، وهو أمر في غاية الصعوبة، لأنَّا إن قلنا: (إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة يكون ذلك من القرآن ، فإنكاره يوجب الكفر، وإن قلنا: لم يكن حاصلاً في ذلك الزمان فيلزم أن القرآن ليس بمتواتر في الأصل ).
 
ومن أجل ذلك يقول الفخر الرازي بأن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل باطل. وكذلك يقول القاضي أبو بكر : إنه لم يصح عن ابن مسعود أن هذه السور ليست من القرآن . أما الإمام النووي فيقول في شرح المهذب: 
 
( أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن وأن من جحد منها شيئاً كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح ) . 
 
ويقول ابن حزم في كتابه القدح المعلى تتميم المحلى: 
( هذا كذب على ابن مسعود وموضوع ، وإنما صح عنه ( أي عن ابن مسعود) قراءة عاصم عن زرعان وفيها المعوذتان والفاتحة ). 
 
وقد ذكر الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن أنه لو صح أن ابن مسعود كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا لكانت الصحابة تناظره على ذلك، وكان يظهر وينتشر. فقد تناظروا في أقل من هذا ، وهذا أمر يوجب التكفير والتضليل، فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه ؟ وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف ، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة في الإجماع المقرر والاتفاق المعروف؟ 
 
وهكذا يتضح لنا أن هذا الرأي المزعوم لا يستحق الوقوف عنده أو الاهتمام به على النحو الذي يسلكه المستشرقون، فلم يحدث في تاريخ المسلمين أن كان لأمثال هذه الآراء الباطلة أي تأثير على الإطلاق في توجيه معتقداتهم، ولم يذكر لنا التاريخ أن هناك طائفة من المسلمين تبنت هذا الرأي الباطل المنسوب إلى ابن مسعود ، وعلى ذلك فلا يترتب عليه أدنى شك في تميز لغة القرآن عن لغة الأدب الدنيوي المعهود . فلغة القرآن لها خصوصية التفرد . وقد عجزت فصاحة العرب وبلاغتهم ـ وهم أصحاب الفصاحة والبلاغةـ عن محاكاة لغة القرآن . وقد تحداهم الوحي أن يأتوا ولو بسورة من مثله، ولكنهم عجزوا عن قبول التحدي الذي لا يزال وسيظل قائماً إلى أن تقوم الساعة. فلو كان القرآن غير خارج عن العادة لأتوا بمثله أو عرضوا من كلام فصحائهم وبلغائهم ما يعارضه . فلما لم يشتغلوا بذلك علم أنهم فطنوا لخروج ذلك عن أوزان كلامهم وأساليب نظمهم وزالت أطماعهم عنه. 
 
فإذا جاء مستشرق مثل ( دوزي) [ت 1883 م] وأطلق عبارات مريضة عن القرآن تقول بأنه كتاب ذو ذوق رديء للغاية ولا جديد فيه إلا القليل، وفيه إطناب بالغ وممل إلى حد بعيد .. إذا قال ( دوزي ) ذلك فلا يأخذنا العجب أن يصدر منه ومن أمثاله مثل هذا الهراء، ولكنا فقط نتساءل : من أين له الأهلية لإصدار مثل هذا الحكم على القرآن الكريم ؟ إن العلم الذي يتحدث باسمه لا يمكن أن يعطي له مثل هذا الحق على الإطلاق. وبالتالي فهي الأحقاد والنزعات والأهواء التي تدفعه إلى ذلك . ومن هذا شأنه لا يمكن أن يصل إلى إدراك ما ينطوي عليه القرآن الكريم من إعجاز وفصاحة وبلاغة أجبرت المشركين على الاعتراف بها، فراح مندوبهم الوليد بن المغيرة يردد بعد سماعه للقرآن ( والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته). 
 
وشتان بين موقف ( دوزي) وموقف ( الوليد بن المغيرة) ! فالوليد بن المغيرة قال ما قال عن تذوق سليم لبلاغة القرآن، أما ( دوزي) فمن أين له مثل هذا التذوق وهو مهما كانت براعته في العربية ـ غريب عن هذه اللغة وأجنبي عن روحها وإن برع في معرفة ألفاظها ؟!