- إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه والأمة كذلك بفتيانها الصغار ونبتها الغض الطري الذي إن احتضنته المساجد كان لهذه الأمة حديقة شوك ترد عدوها
- الرسول لم يزجر الناس ولم يأمرهم ألا يحضروا أطفالهم معهم إلى المسجد

 
“لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا” فكان الرسول صلى الله عليه وسلم أحلم وأرفق ما يكون بالصغار يلعب معهم ويوجههم ويعلمهم ويربيهم بالرفق حينا والحزم حينا، يرفع من قدرهم ويحملهم المسؤوليات ويكلفهم بالمهمات، حتى إذا ما شبوا، كانوا أسامة بن زيد وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر رضوان الله عليهم أجمعين. 
فما كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلو من الصبيان أبدا، وهذا الحسين رضي الله عنه صبي يرتحل ظهر رسول الله وهو يصلي بالناس فيطيل السجود حتى يقضي الحسين حاجته وينزل، و ما كان الرسول صلى الله عليه و سلم يعنف صبيا إذا أخطأ فيقول صلى الله عليه و سلم “علموا ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف” فكيف بفتى دخل مسجده ليصلي وغلبت عليه فطرة الطفل فجلس يلهو، بل هو مما يحب صلى الله عليه و سلم و قد كان يلعب مع الصغار ويلاطفهم فعن عبد اللهِ بن الْحارِث، قَال “كان رسول اللهِ صَلّى الله عليه وسلَم يصف عبد الله، وعبيد اللهِ، وكثيّرًا بني الْعبَّاس، ثمَ يقول: “مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا” قَالَ: فيستبقون إِليه فيقَعونَ على ظهره وصدْرِهِ، فَيقبّلُهمْ ويلْتزمهمْ».  
على بعد قدمين من المنبر يجلس الحاج فلان المتخصص في تأخير الصغار إلى الصف الأخير والحاج فلان ذو الصوت الجهوري المرعب الخبير في ترويع الصغار وطردهم من المسجد، وأشباههم كثيرون، فالأولى بهؤلاء الخطباء أن يعظوا الحاج فلان متخصص الطرد والحاج فلان متخصص التأخير في الصفوف ومن على شاكلتهم فيحلوا المشكلة من جذورها، فالمسجد الذي هو محضن التربية ومدرسة التهذيب وواضع اللبنة الأولى لدين الله في قلوب هؤلاء الفتيان الصغار، صار في أنفسهم كالحمى يحيطه جدار عظيم يعلوه سياج شائك وتغلقه المتاريس العظيمة، يحرم عليهم تخطيه أو الاقتراب منه.
ومن حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ “كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً، ‏ وكانَ لي أَخٌ يقَال له أَبو عميرٍ‏ وكانَ إِذَا جاءَ قَالَ “يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ” ‏ -والنُغَر هو العصفور الصغير-”، وما كان عليه الصلاة والسلام يؤخر فتى سبق كبار القوم إلى الصف الأول فهو أحق به منهم لسبقه؛ فالرسول لم يكن لينزل من قدر أحد لسنه، فهذا رسول الله يستأذن فتى صغيرا جلس عن يمينه أن يمرر القدح للأشياخ فيشربوا قبله وهو أصغرهم فيأبى الفتى أن يؤثر أحدا بفضل رسول الله فيؤثره الرسول صلى الله عليه و سلم بفضله ويرفع من قدره أمام شيوخ الصحابة فإنما مثل الفتيان الصغار كالسراج شديد الشعاع يطلب من يزيل عنه غطائه ويرفعه كي يملأ المكان نورا وإلا فهو إما يحرق نفسه أو يحرق ما حوله و قد لمست من شعاع ذلك السراج في موقفين. 
ويقول الكاتب مصطفى بن خلاف” كنت عصر الثاني من رمضان قد جلست أقرأ وردي في المسجد فاقترب مني فتى صغير حاملا مصحفا كبيرا وقال “يا عماه أريد أن أقرأ القرآن”، فابتسمت قائلا “وما يمنعك يا صغير افتح المصحف واقرأ”، فرد خَجِلا “لا أعرف كيف أقرأ منه وأريدك أن تعلمني”، انشرح صدري لقول الفتى وطلبت منه الجلوس وفتح المصحف و سألته هل تستطيع القراءة فنفى، وقعت في حيرة عجيبة فلا أستطيع صرف الفتى وقد انشرح صدري له ولا أعرف كيف سأعلمه وهو لا يستطيع القراءة ولكن همة الفتى وعزيمته اللتان تلمعان في عينيه أخجلتني عن رد طلبه، فجلست أحاول معه في تهجئة الكلمات وأحفظه من قصار السور وكانت تلك بداية صداقتنا على تعلم القرآن والهمة التي تناطح الجبال.
ويضيف الكاتب “كنت أصلي القيام ذات ليلة واصطف الناس ليقطع الصف من منتصفه شقيقان صغيران فأراد أحد الكبار أن يؤخرهما إلى الصف الأخير، فنهيته قائلا “هما صغيران لكنهما مميزان يعرفان الصلاة وأركانها وأخلاقها وأفضالها وإلا لما وقفا هذا الموقف وبقائهما في منتصف الصف أفضل لترغيبهم في الصلاة وغرس حب المسجد في قلوبهم وأدعى لضمان تهذيبهم وعدم لهوهم في الصلاة وأوجب لتعزيز ثقتهم بأنفسهم وتحمل المسؤولية لديهم”، فالصغير إن عاملته ككبير وحملته المسؤولية كان أفضل من الكبير في حملها وهو ما كان فقد وقف الصغيران بجانبي أحد عشرة ركعة في خشوع وسكون ووقار لم يكن لبعض الكبار مع طول الوقوف وهو ما تعجبه بل كاد يحسده ذاك الذي أراد تأخيرهما في الصفوف.
وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه والأمة كذلك بفتيانها الصغار ونبتها الغض الطري الذي إن احتضنته المساجد وأحسنت تربيته كان لهذه الأمة حديقة شوك ترد عدوها وتحفظ حقها وبستان زهر يفوح عبيره ليسود على كل الخلائق فمن الأحمق الذي يسحق اليوم براعم ستكبر غدا وتثمر لتطعمه في يوم ذي مسغبة.
لغط وتباين
ان دخول الأطفال إلى المساجد أمر يثار دائما، ويكثر اللغط حوله، وتختلف فيه الأقوال، وتتابين فيه الآراء. 
فمن الناس من يطلب تأخيرهم عن الصفوف الأُول، ومن الناس من يتقي محاذاتهم؛ خشية تلبسهم بنجاسة، وهكذا.  
عن شداد بن أوس رضي الله عنه قَالَ: “خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنا أو حسينا، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال الناس: يا رسول الله، ‌إنك ‌سجدت ‌بين ‌ظهراني ‌صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله، حتى يقضي حاجته
ومثل هذا الحديث حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: “كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، فإذا ‌سجد ‌وثب ‌الحسن ‌والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه، أخذهما بيده من خلفه أخذا رفيقا، فيضعهما على الأرض، فإذا عاد عادا، حتى قضى صلاته، أقعدهما على فخذيه
روى عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: “خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل الحسن، والحسين رضي الله عنهما، عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما، فصعد بهما المنبر، ثم قال: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} 
هذه الأحداث جميعا وقعت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وحصلت معه هو -بأبي وأمي- على مرأى ومسمع من صحابته الكرام. 
ولا يقتصر هذا على الأولاد الذكور دون البنات؛ لأن البعض يتحرج من إدخال البنت الصغيرة معه إلى المسجد، ففي الصحيحين من حديث أبي  قتادة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‌كان «‌يصلي ‌وهو ‌حامل أمامة بنت زينب» بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، «فإذا سجد، وضعها. وإذا قام حملها»
وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: ” بينا نحن ننتظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهر أو العصر حتى خرج علينا حاملاً أمامة على عنقه…”. أي أن هذا كان في الفريضة لا النافلة.
 يَضرِبُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أروعَ الأمثلةِ في تواضُعِه ورحمتِه بالصِّغار في هذه القصص، ويعطي أمته درسا في كون المسجد ليس محرما على الصبيان، بل هو الحاضنة الإيمانية التربوية التي ينبغي أن ينشؤوا فيها وأن يعودوا عليها، حتى يكون ذلك مكونًا من مكونات شخصيتهم بعد ذلك. 
وفي الحديث جواز حمل الأطفال أثناء الصلاة، وهذا لا ينافي أمرهم بالسكينة والأدب -وهم في المسجد- برفق. وأما ردود الأفعال العنيفة التي قد يلقاها الطفل من بعض المصلين، فربما تُوَلِّد عنده صدمةً أو خوفًا ورعبًا من هذا المكان، والأصل أن يتربَّى الطفل على حبِّ هذا المكان، وأن يتعلق قلبه ببيت الله تعالى. 
وأما الأثر الذي أخرجه النسائي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ، وَمَجَانِينَكُمْ
فهو ضعيف عند أهل الحديث.
 قال البزار: لا أصل له، وكذلك قال عبد الحق الإشبيلـي، وممن ضعفه الحافظ ابن حجر وابن الجوزي والمنذري والهيثمي والألباني،  فلا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة السابقة التي اقتضت إدخال النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان إلى المسجد، وهنالك أحاديث تقتضي إقرار ذلك منه لغيره حتى لا يقول قائل هذا خاص بالحسن والحسين ريحانتي النبي صلى الله عليه وسلم أو حفيدته التي ماتت أمها عنها وهي صغيره فكانت تتعلق به صلوات الله وسلامه عليه فيشفق عليها.   
ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: «‌إني ‌لأدخل ‌في ‌الصلاة، وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه، فهو هنا كان يخفف الصلاة ولم يزجر الناس ولم يأمرهم ألا يحضروا أطفالهم معهم إلى المسجد. 
وأخرج أحمد في المسند بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوَّز ذات يوم في صلاة الفجر، فقيل: يا رسول الله، لم جوزت؟ قال: ” ‌سمعت ‌بكاء ‌صبي، فظننت أن أمه معنا تصلي، فأردت أن أُفرغ له أمه، هذا الصبي الذي بكى في الصلاة، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم بكاءه قد يشوش على المصلين ببكائه، ويقطع خشوعهم، فلم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن إحضار الصبيان للمسجد، بل خفف الصلاة لتفرغ الأم لولدها بأبي هو وأمي، فما أحوجنا إلى هذا الهدي العظيم، وتتبع هذا المنهج القويم، حين نتعامل مع الأطفال إذا دخلوا إلى المساجد مع آبائهم وأمهاتهم أو دونهم. إن التجهم في وجوه الأطفال من بعض المصلين، بل والأئمة والمؤذنين، وزجرهم، مما قد يبغض إليهم بيوت الله، وهو خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. 
الأولى أن نحبب إليهم بيوت الله بالتبسم في وجوههم، وإرشادهم إلى ما ينبغي من الأدب والانضباط بلطف ولين، ليزدادوا حبا لبيوت الله وتعلقا بها ورغبة في الصلاة، فالمسجد محضن تربوي عظيم الأثر.