مع قدوم شهر رمضان المبارك، تعم مصر أجواء الاحتفال والبهجة من خلال عادات وطقوس عامرة بنفحات الخير والجود التي لا تفارق المصريين على مدار أيام الشهر الفضيل، والتي تحمل في جوهرها جانباً مهماً من تاريخها وتطورها الحضاري.
وتبدأ هذه الأجواء المميزة بتعليق الزينة والفوانيس تزامناً مع استطلاع رؤية هلال شهر رمضان المبارك، والذي لا يخلو من إقامة احتفال خاص به، في تقليد متوارث رسمياً وشعبياً منذ عهد العباسيين، حيث كانت تضاء الأنوار على المآذن والمحال، ويخرج قاضي القضاة في موكب بهيج، محمل بالفوانيس للإعلان عن رؤية هلال شهر رمضان المبارك، في إطار العديد من الطقوس الاحتفالية في هذا البلد العريق.
وفي هذا الإطار، قال الدكتور عبدالرحيم ريحان خبير الآثار المصرية في تصريح لوكالة الأنباء القطرية قنا: إن المصريين اعتادوا الاحتفال بشهر رمضان المبارك قبل حلوله بنحو أسبوعين، حيث يبدأ الأطفال في إعداد زينة رمضان سوياً داخل كل شارع وحي، ولا يزال معظمهم يصنعونها بأنفسهم، فيما يشتريها بعضهم أيضا، قبل أن يشاركهم الجميع في تعليقها بين البنايات والمنازل بطريقة فريدة يتوسطها فانوس كبير تتم صناعته يدويا أو شراؤه كغيره من الفوانيس الصغيرة بألوانها المختلفة التي لا زالت تتم صناعتها في عدة مناطق بأنحاء البلاد، أبرزها منطقة باب الخلق في قلب مدينة القاهرة.
وأضاف أن هذه الفوانيس التي يتم تصنيعها من خامات محلية، لا سيما الزجاج الملون الذي اشتهرت به زخارف مصر الإسلامية، لم يقتصر دورها على احتفالات الأطفال بالشهر الفضيل كما كان في السابق، بل تطورت في العصر الحالي من حيث الإضاءة والحجم، وظهرت منها أنواع وأشكال مختلفة ومميزة يضعها أصحاب المحلات والمطاعم والمقاهي للتعبير عن فرحتهم بقدوم شهر رمضان المبارك، فيما تشهد الأسواق ازدحاما لشراء المأكولات والمشروبات المرتبطة بالشهر الفضيل، ومن أبرزها: التمور، والفول، وقمر الدين، والقراسيا، والمشمشية، والمكسرات، وجوز الهند، والزبيب، إلى جانب التمر الهندي والخروب.
وأشار خبير الآثار المصرية إلى أن أجواء الفرح والسعادة تصاحبها أغان تراثية احتفاء باستقبال شهر رمضان المبارك، والتي تبثها الفضائيات والإذاعات المصرية منذ لحظة الإعلان عن استطلاع هلال الشهر الفضيل، والتي باتت تشدو بها أيضا الفوانيس التي يحملها الأطفال في العصر الحالي، ومن أبرزها: “رمضان جانا”، التي ألفها الشاعر حسين طنطاوي وغناها المطرب محمد عبدالمطلب، وأصبحت أيقونة الفرحة والبهجة بقدوم شهر رمضان المبارك في مصر والعالم العربي.
وفي هذا السياق، تروي الدكتورة نادية عبدالفتاح الباحثة في الآثار الإسلامية، في تصريح لـ قنا، بعض الجوانب المتعلقة بفانوس رمضان عند المصريين منذ نشأته وصولاً لهذا التطور الذي شهده كأحد أبرز مظاهر الاحتفال بالشهر الفضيل، حيث سلطت الضوء على “سوق الشماعين” في منطقة النحاسين بالقاهرة، والذي كان يحتفل بقدوم الشهر الكريم، بتعليق أنواع الفوانيس المصنوعة من الشمع على واجهات الدكاكين وعلى جوانبها، ومنها شموع للمواكب الكبيرة، حيث كان وزنها حوالي 10 أرطال، لافتة إلى أن تلك الدكاكين كانت تظل مفتوحة إلى منتصف الليل لأجل صلاة التراويح، ومن ثم بدأ ظهور فوانيس رمضان بشكلها المعتاد وانتشارها.
وتعتبر الدكتورة نادية عبدالفتاح أن فانوس رمضان ظل يمثل جانباً مهماً في احتفالات المصريين بالشهر المبارك، كون إضاءة الأنوار جزءا أصيلا من التعبير عن بهجتهم على مدار التاريخ، منوهة بأنه كان يتم على مر العصور إعداد القناديل اللازمة لإضاءة المآذن طوال الليل حتى السحور، وهو ما كان يشرف عليه نظار الأوقاف منذ شهر شعبان، إلى جانب الحرص على نظافة المساجد وطلائها لتصبح جاهزة لاستقبال المصلين طوال الشهر الفضيل.
وحول تاريخ هذه العادات المصرية في الاحتفال بشهر رمضان المبارك، يقول الدكتور سامح الزهار الباحث في الحضارة الإسلامية في تصريح مماثل: إن مظاهر الاحتفال بشهر رمضان في مصر امتدت على نحو ألف عام، وشملت جوانب مختلفة من العادات والطقوس، ومن بينها إضاءة الفوانيس، وهي عادة بدأت في الدولة الفاطمية عندما استقبل المصريون المعز لدين الله الفاطمي يوم الخامس من رمضان ليلاً بالمشاعل التي تركوها أمام بيوتهم لإنارة الشوارع، لتصبح لاحقاً مظهراً احتفالياً بالشهر الفضيل، حيث أصبح “فانوس رمضان” يرسم صورة جمالية رائعة للشوارع والمساجد التي تستقبل ضيوفها بكثرة، لا سيما في صلاة التراويح التي تمثل مظهراً دينياً مميزاً في مصر، وتحرص عليه الأسر المصرية طوال الشهر الفضيل. وأوضح الزهار أن من بين الأيقونات التاريخية للاحتفال بقدوم شهر رمضان المبارك، “مدفع رمضان”، حيث بدأت مدينة القاهرة في استخدامه، وفق أبرز الروايات، عند غروب أول يوم من رمضان عام 865 هـ عندما أراد السلطان المملوكي الظاهر سيف الدين خشقدم أن يجرب مدفعاً جديداً وصل إليه، وقد صادف إطلاق المدفع وقت آذان المغرب، فظن الناس أن السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى أن موعد الإفطار قد حان، فخرجت جموع الأهالي إلى مقر الحكم تشكر السلطان على هذه البادرة الحسنة، وعندما رأى السلطان سرورهم قرر المضي في إطلاق المدفع كل يوم إيذاناً بالإفطار.
كما أن هناك رواية أخرى تفيد بأن ظهور المدفع جاء عن طريق الصدفة أيضا عندما كان بعض الجنود في عهد الخديوي إسماعيل يقومون بتنظيف أحد المدافع، فانطلقت منه قذيفة دوت في سماء القاهرة، وتصادف ذلك مع وقت آذان المغرب في أحد أيام رمضان، وقد علمت فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل بما حدث، فأعجبتها الفكرة، وأصدرت فرمانا باستخدام هذا المدفع عند الإفطار والإمساك وفي الأعياد الرسمية. وعلى غرار مدفع الإفطار، يقول الزهار: إن أكلات المصريين في شهر رمضان ارتبطت كذلك بعادات قديمة يعود ظهورها إلى الدولة الفاطمية، مثل الكنافة والقطايف، وهما من أشهر أنواع الحلويات التي ظلت حاضرة على الموائد حتى وقتنا المعاصر، كذلك الحال أيضاً بالنسبة لمهنة المسحراتي التي احتفظ بها المصريون منذ القرن الثالث الهجري رغم انتشار وسائل التكنولوجيا الحديثة والجوالات التي يمكن من خلالها التنبيه لموعد السحور.
وعلى ضوء ارتباط المصريين على مدار التاريخ بهذه العادات الأصيلة في الاحتفال بشهر رمضان المبارك، تظل أيضاً موائد الرحمن وتجمعات إفطار الأهل والأصدقاء، واحدة من أبرز نفحات هذا الشهر المبارك، والتي تتجسد معها روح المودة وصلة الرحم في أروع صورها، إلى جانب الحرص على أداء صلاة التراويح في المساجد في أجواء روحانية عامرة بالإيمان.