- إيمانها الراسخ مصدر ثباتها وصبرها تحمل الأذى الذي لاقته على أيدي المشركين
- طعنها أبو جهل بحربة بيده في قلبها فماتت على إثرها في السنة السادسة بعد البعثة

 
 
أولى الإسلام المرأة اهتمامًا كبيرًا ونظر إليها نظرة تكريمٍ واعتزازٍ، فالمرأة في الإسلام هي الأم والأخت والابنة والعمة والخالة والجدة والزوجة شريكة الرجل في تحمل مسؤوليات الحياة، وقد كلَّفها الله مع الرجل في النهوض بمهمة الاستخلاف في الأرض، وتربية الأبناء وتنشأتهم تنشئة سوية، وجعلها على درجة واحدة مع الرجل في التكريم والإجلال.
ويؤمن المسلمون بأن الإسلام قد أعطى المرأة حقوقها بعد أن عانت في الجاهلية (ما قبل الإسلام) من ضياعها والتي من أهمها الحق في الحياة.
ويتفق علماء الدين المسلمين إلى حد كبير على أنه في بداية الإسلام وتحديدًا في أوائل القرن السادس الميلادي، وسَّع النبي محمد صلى الله عليه وسلم حقوق المرأة لتشمل حق الميراث والتملك والزواج والنفقة وحقوقًا أخرى.
كما نهى النبي محمد عن الإساءة للنساء وأمر بمعاملتهن بالحسنى والرحمة فقال في حجة الوداع: «استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي».
وفي صحيح الترمذي  يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (أَكْمَلُ المؤْمِنين إيماناً أحْسَنُهم خُلُقاً، وَخِياركم خيارُكم لِنِسائهم). ويقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم أيضا:(اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ) أي عاملوهما برفق وشفقة، ولا تكلفوهما ما لا يطيقانه، ولا تقصِّروا في حقهما الواجب والمندوب.
كما يذكر التاريخ أيضا أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقبل وفاته بأيام قليلة خرج على الناس وكان مريضًا بشدة وألقى آخر خطبة عليهم فكان من جملة ما قاله وأوصى به: «أيها الناس، الله الله في الصلاة، الله الله في الصلاة». بمعنى أستحلفكم بالله العظيم أن تحافظوا على الصلاة، وظل يرددها إلى أن قال: «أيها الناس، اتقوا الله في النساء، اتقوا الله في النساء، اوصيكم بالنساء خيرا».
 
 
سمية بنت خباط وقيل خياط، من مشاهير الصحابيات، أسلمت بمكة قديماً هي وزوجها: ياسر بن عامر وابنها: عمار بن ياسر فهم من السابقين الأولين في الإسلام، وهي سابع سبعة أظهروا إسلامهم بمكة، من غير بني هاشم. لقيت سمية رضي الله عنها أصنافاً من العذاب، لترجع عن دينها فصبرت ولم ترجع. طعنها أبو جهل بحربة في قُبُلِها حتى ماتت، وكانت حينها عجوزًا ضعيفة، وقد كني بعدها بأبي جهل، كناه بها محمد صلى الله عليه وسلم والوليد بن المغيرة، وهي أول شهيدة في الإسلام، وكانت وفاتها بمكة سنة 7 قبل الهجرة.
 
 
نسبها
 
 
هي الصحابية: سمية بنت خباط تكنى: “أم عمار” تعرف باسمها “سمية” وكنيتها بابنها عمار بن ياسر وهي من مشاهير الصحابيات. كانت أَمَةً لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، وكان ياسر بن عامر حليفاً لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي، فزوَّجَهُ بها فولدت له عمارا فأعتقه.
سمية بنت الخُياط، هي أم عمار بن ياسر، أول شهيدة استشهدت في الإسلام، وهي ممن بذلوا أرواحهم لإعلاء كلمة الله عز وجل، وهي من المبايعات الصابرات الخيرات اللاتي احتملن الأذى في ذات الله.كانت سمية من الأولين الذين دخلوا في الدين الإسلامي وسابع سبعة ممن اعتنقوا الإسلام بمكة بعد الرسول وأبي بكر الصديق وبلال وصهيب وخباب وعمار ابنها. فالرسول قد منعه عمه، أما أبوبكر الصديق فقد منعه قومه، أما الباقون فقد ذاقوا أصناف العذاب وألبسوا أدراع الحديد وصهروا تحت لهيب الشمس الحارقة
عن مجاهد، قال: أول شهيد استشهد في الإسلام سمية أم عمار. قال: وأول من أظهر الإسلام رسول الله، وأبوبكر، وبلال، وصهيب، وخباب، وعمار، وسمية أم عمار
   
زواجها
 
كانت سمية بنت خباط أمة لأبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، تزوجت من حليفه ياسر بن عامر بن مالك بن كنانه بن قيس العنسي. وكان ياسر عربياً قحطانياً مذحجيًا من بني عنس، أتى إلى مكة هو وأخويه الحارث والمالك طلباً في أخيهما الرابع عبد الله، فرجع الحارث والمالك إلى اليمن وبقي هو في مكة. حالف ياسر أبا حذيفة ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وتزوج من أمته سمية وانجب منها عماراً، فأعتقه أبوحذيفة، وظل ياسر وابنه عمار مع أبي حذيفة إلى أن مات، فلما جاء الإسلام أسلم ياسر وأخوه عبد الله وسمية وعمار.
 
 
تعذيب المشركين لآل ياسر
 
 
عذب آل ياسر أشد العذاب من أجل اتخاذهم الإسلام ديناً الذي أبوا غيره، وصبروا على الأذى والحرمان الذي لاقوه من قومهم، فقد ملأ قلوبهم بنور الله-عزوجل- فعن عمار أن مشركي بنو مخزوم عذبوه عذاباً شديداً فاضطر عمار لإخفاء .إيمانه عن المشركين وإظهار الكفر وقد أنزلت آيه في شأن عمار في قوله عزوجل: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. وعندما أتى رسول الله قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله! ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير! .قال: كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئناً بالإيمان. قال : فإن عادوا لك فعد لهم.
هاجر عمار إلى المدينة عندما اشتد عذاب المشركين للمسلمين، وشهد معركة بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان والجمل واستشهد في معركة صفين في الربيع الأول أو الآخر من سنة سبع وثلاثين للهجرة، ومن مناقبه، بناء أول مسجد في الإسلام وهو مسجد قباء
وقد كان آل ياسر يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة وكان رسول الله — يمر بهم ويدعو الله -عزوجل- أن يجعل مثواهم الجنة، وأن يجزيهم خير الجزاء
عن ابن إسحاق قال: حدثني رجال من آل عمار بن ياسر أن سمية أم عمار عذبها هذا الحي من بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم على الإسلام، وهي تأبى غيره، حتى قتلوها، وكان رسول الله—مر بعمار وأمه وأبيه وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة، فيقول: صبراً آل ياسر فإنّ موعدكم الجنة.
 
 
وفاتها
 
 
نالت سمية الشهادة بعد أن طعنها أبو جهل بحربة بيده في قلبها فماتت على إثرها في السنة السادسة بعد البعثة ( السابعة قبل الهجرة). وكانت سمية حين استشهدت امرأة عجوز، فقيرة، متمسكة بالدين الإسلامي، ثابتة عليه لا يزحزحها عنه أحد، وكان إيمانها الراسخ في قلبها هو مصدر ثباتها وصبرها على احتمال الأذى الذي لاقته على أيدي المشركين.
 
 
مصير القاتل
 
 
هو: عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، ويكنى بأبي الحكم. كان من أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم أذى لهم. وقد لقبه المسلمون بأبي جهل لكثرة تعذيبه المسلمين وقتله سمية.
قُتل أبو جهل في معركة بدر الكبرى، حيث قاتل المسلمون المشركين بأسلوب الصفوف، بينما قاتل المشركون المسلمين بأسلوب الكر والفر. طعن أبا جهل على يدي ابني عفراء، مُعاذ بن الحارث الخزرجي الأنصاري، ومُعَوّذ بن الحارث الخزرجي الأنصاري، ولكنه لم يمت على أثر طعناتهما بسبب ضخامة جسده، ولأن ابني عفراء كانا صغيرين بالسن، لكنه لفظ نفسه الأخيرة على يد عبد الله بن مسعود الذي أجهز عليه. ولقد استشهد مُعاذ ومُعَوّذ ابنا عفراء في هذه المعركة .
 
قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: يا عم! أرني أبا جهل! فقلت يا ابن أخي! ما تصنع به؟! قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه. قال لي الأخر سراً من صاحبه مثله، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين، فضرباه حتى قتلاه.
بعد مقتل أبي جهل، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: «قتل الله قاتل أمك».
 
 
دروس وعبر من فتح مكّة
 
 
إنَّ حركة النَّبيِّ (ص) في بناء الدَّولة، وتربية المجتمع، وإرسال السَّرايا، وخروجه في الغزوات تعلِّمنا كيفيَّة التَّعامل مع سنَّة الأخذ بالأسباب، سواءً كانت تلك الأسباب مادِّيَّة أو معنويَّةً، ففي غزوة الفتح نلاحظ هذه السُّنَّة واضحةً في هديه (ص)، فعندما قرَّر (ص) السَّير لفتح مكة؛ حرص على كتمان هذا الأمر حتَّى لا يصل الخبر إلى قريش، فتعد العدَّة لمجابهته، وتصدُّه قبل أن يبدأ في تنفيذ هدفه.
ارتكبت قريش خطأً فادحاً عندما أعانت حلفاءها بني بكرٍ على خُزاعة حليفة المسلمين بالخيل، والسِّلاح، والرِّجال، وهجم بنو بكرٍ، وحلفاؤهم على قبيلة خُزاعة عند ماءٍ يقال له: الوَتير، وقتلوا أكثر من عشرين من رجالها، ولمَّا لجأت خُزاعة إلى الحرم الآمن، ولم تكن متجهِّزةً للقتال، لتمنع بني بكرٍ منه؛ قالت لقائدهم: يا نوفل! إنَّا قد دخلنا الحرم، إلهك، إلهك! فقال نوفل: لا إله اليوم، يا بني بكر! أصيبوا ثأركم، عندئذٍ خرج عمرو بن سالم الخُزاعيُّ في أربعين من خُزاعة، حتَّى قدموا على رسول الله (ص) في المدينة، وأخبروه بما كان من بني بكرٍ، وبمن أصيب منهم، وبمناصرة قريشٍ بني بكرٍ عليهم، ووقف عمرو بن سالم على رسول الله (ص) وهو جالسٌ في المسجد بين ظهراني النَّاس، فقال:
 
 
يَا رَبِّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدا                             حِلْفَ أَبِيْنَا وأَبِيْهِ الأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُم وُلْداً، وَكُنَّا وَالِدا                         ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يدا
فانْصُرْ هَدَاكَ الله نَصْراً أَعْتَدَا                   وادْعُ عِبَادَ الله يأْتُوا مَدَدَا
فِيْهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدا                         إِنْ سِيْم خَسْفاً وَجْهُهُ تَرَبَّدَا
فِيْ فَيْلَقٍ كالبَحْرِ يَجْرِي مُزبِدَا                   إنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا
ونقَضُوا مِيْثَاقَك المُؤَكَّدا                          وجَعَلُوا لي في (كَدَاءٍ) رُصَّدا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أدْعُو أحدَا                   وَهُمْ أَذَلُّ وأَقَلُّ عَدَدَا
هُمْ بَـيَّـتُونَا بالوَتِيْرِ هُجَّدَا                           وقَتَلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا
 
 
فقال النبي (ص): «نُصرتَ يا عمرو بن سالم! لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب!» ولمَّا عرَض السَّحاب مِنَ السَّماء؛ قال: «إنَّ هذه السَّحابة لتستهلُّ بنصر بني كعبٍ».
 
شرع النبي (ص) في الأخذ بالأسباب الآتية لفتح مكة ولتحقيق مبدأ المباغتة:
 
 
 كتم أمره حتَّى على أقرب النَّاس إليه:
 
 
1 - فقد أخذ النَّبيُّ (ص) بمبدأ السِّرِّيَّة المطلقة، والكتمان الشَّديد حتَّى عن أقرب النَّاس إليه، وهو أبو بكر رضي الله عنه أقربُ أصحابه إلى نفسه، وزوجتُه عائشة رضي الله عنها أحبُّ نسائه إليه، فلم يعرف أحدٌ شيئاً عن أهدافه الحقيقية، ولا اتِّجاه حركته، ولا العدوِّ الَّذي ينوي قتاله، بدليل أنَّ أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه عندما سأل ابنته عائشة رضي الله عنها عن مَقْصَدِ الرسول (ص) قالت له: ما سمَّى لنا شيئاً، وكانت أحياناً تصمت، وكلا الأمرين يدلاَّن على أنَّها لم تعلم شيئاً عن مقاصده (ص). ويستنبط من هذا المنهج النبوي الحكيم أنَّه ينبغي للقادة العسكريين أن يخفوا خططهم عن زوجاتهم؛ لأنهنَّ ربما يُذِعْنَ شيئاً من هذه الأسرار عن حسن نيَّةٍ، فتتناقلها الألسن حتَّى تصير سبباً في حدوث كارثةٍ عظيمةٍ
 
 
2 - أنه بعث سريَّةً بقيادة أبي قتادة إلى بطن إِضَم:
 
 
بعث النَّبيُّ (ص) قبل مسيره إلى مكَّة سَرِيَّةً مكوَّنةً من ثمانية رجال، وذلك لإسدال السِّتار على نياته الحقيقيَّة، وفي ذلك يقول ابن سعد: «لمَّا همَّ رسول الله (ص) بغزو أهل مكَّة بعث أبا قتادة بن ربْعِي في ثمانية نفرٍ سَرِيَّةً إلى بطن إِضَم، لِيَظُنَّ الظَّانُّ: أنَّ رسول الله (ص) توجَّه إلى تلك النَّاحية، فمضوا، ولم يلقوا جمعاً، فانصرفوا حتَّى انتهوا إلى ذي خُشُب، فبلغهم: أنَّ رسول الله (ص) قد توجَّه إلى مكَّة، فأخذوا على (بيبن) حتَّى لقُوا النَّبيَّ (ص) بالسُّقيا». وهذا منهجٌ نبويٌّ حكيمٌ في توجيه القادة من بعده إلى وجوب أخذ الحذر، وسلوك ما يمكن من أساليب التَّضليل على الأعداء والإيهام، الَّتي من شأنها صرف أنظار النَّاس عن معرفة مقاصد الجيوش الإسلاميَّة الَّتي تخرج من أجل الجهاد في سبيل الله، حتى تُحقِّق أهدافها، وتَسْلَم من كيد أعدائها.
 
 
3 - أنَّه بعث العيون لمنع وصول المعلومات إلى الأعداء:
 
 
بثَّ (ص) رجال استخبارات الدَّولة الإسلاميَّة داخل المدينة، وخارجها؛ حتَّى لا تنتقلَ أخبارُه إلى قريشٍ، وأخذ رسول الله (ص) بالأنقاب([1])، فكان عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يطوف على الأنقاب قيماً بهم، فيقول: لا تَدَعُوا أحداً يمرُّ بكم تنكرونه إلا رددتموه، إلا مَنْ سلك إلى مكَّة فإنَّه يُتَحفَّظ به، ويُسأل عنه، أو ناحية مكَّة. إنَّ جَمْعَ المعلومات سلاحٌ ذو حدَّين، وقد استفاد الرَّسول (ص) من حدِّه النافع لصالح المسلمين، وأبطل مفعول الحدِّ الآخر باتباعه السِّرِّيَّة، واتخاذها أساساً لتحرُّكاته، واستعداداته؛ ليحرم عدوه من الحصول على المعلومات الَّتي تفيده في الاستعداد لمجابهة هذا الجيش بالقوَّة المناسبة.
 
 
4 - دعاؤه (ص) بأخذ العيون والأخبار عن قريش
 
 
وبعد أن أخذ رسول الله (ص) بالأسباب البشريَّة الَّتي في استطاعته؛ توجَّه إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بالدُّعاء والتَّضرُّع قائلاً: «اللَّهُمَّ! خذ على أسماعهم، وأبصارهم فلا يَرَوننا إلا بغتةً، ولا يسمعون بنا إلا فجأة» [البيهقي في الدلائل (5/11)]([2]). وهذا شأن النَّبيِّ (ص) في أموره يأخذ بجميع الأسباب البشريَّة، ولا ينسى التَّضرُّع، والدُّعاء لربِّ البريَّة؛ ليستمدَّ منه التَّوفيق والسَّداد.
 
 
5 -  إحباط محاولة تجسُّس حاطبٍ لصالح قريش:
 
 
عندما أكمل النَّبيُّ (ص) استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكَّة يخبرهم فيه نبأ تحرك النَّبيِّ (ص) إليهم، ولكنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ أطلع نبيَّه (ص) عن طريق الوحي على هذه الرِّسالة، فقضى (ص) على هذه المحاولة وهي في مهدها، فأرسل النَّبيُّ (ص) عليّاً، والزُّبير، والمقداد فأمسكوا بالمرأة في روضة خاخٍ على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة، وهدَّدوها أن يفتِّشوها إن لم تُخرِج الكتاب؛ فسلَّمته لهم، ثمَّ استدعى حاطباً رضي الله عنه للتَّحقيق، فقال: يا رسول الله! لا تعجل عليَّ، إنِّي كنت امرأً مُلصَقاً في قريشٍ ـ يقول: كنت حليفاً ـ ولم أكن من أنفُسِها، وكان مَنْ معك من المهاجرين مَنْ لهم قراباتٌ يحمون بها أهليهم، وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النَّسب فيهم أن أتَّخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله (ص): «أما إنَّه قد صدقكم».
وهذا منهجٌ نبويٌّ حكيمٌ، فلم ينظر النَّبيُّ (ص) إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب، وإن كانت كبيرةً، وإنَّما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله تعالى، وإعزاز دينه، فوجد: أنَّه قد شهد بدراً، وفي هذا توجيهٌ للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرةً متكاملـةً، وذلك بأن ينظروا فيما قدَّموه لأمَّتهم من أعمالٍ صالحةٍ في مجال الدَّعوة، والجهاد، والعلم، والتَّربية، فإنَّ الَّذي يساهم في إسقاط فروض الكفاية عن الأمَّـة يستحقُّ التَّقديـر، والاحترام، وإن بدرت منـه بعـض الأخطاء، هذا فيما إذا كان ما صدر من هؤلاء خطـأً محضاً، وزلَّـة قدمٍ، فكيف إذا كان ما صدر منهم رأياً علميّاً ناتجاً عن الاجتهاد؛ وهم أهلٌ لذلك؟!
 
دخولٌ خاشعٌ متواضعٌ، لا دخول فاتحٍ متعالٍ:
 
 
دخل رسول الله (ص) يوم فتح مكة وعليه عمامةٌ سوداءُ بغير إحرامٍ، وهو واضعٌ رأسه تواضعاً لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتَّى إنَّ ذقنه ليكاد يَمَسُّ واسطة الرَّحل. ودخل وهو يقرأ سورة الفتح. مستشعراً نعمة الفتح، وغفران الذُّنوب، وإفاضة النَّصر العزيز([3])، وعندما دخل مكَّة فاتحاً ـ وهي قلبُ جزيرة العرب، ومركزُها الرُّوحيُّ، والسِّياسيُّ ـ رفعَ كلَّ شعارٍ من شعائر العدل والمساواة، والتَّواضع، والخضوع، فأردف أسامة بن زيدٍ، وهو ابن مولى رسول الله (ص)، ولم يردف أحداً من أبناء بني هاشم، وأبناء أشراف قريشٍ، وهم كثير.