وجه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بتبليغ هذا الدين لأن في تعليمه وبلاغه للآخرين تدابير واقية للمستمع في أن يسمع عن هذا الدين من أهله قبل أن يسمع من غيرهم فقال صلى الله عليه وسلم:” بلّغوا عنّي ولو آية”(رواه البخاري)
ويقول صلى الله عليه وسلم مخاطباً عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ” ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم “(رواه البخاري).
وهذا تحفيز وتشجيع منه صلى الله عليه وسلم لأمته في الحرص على نيل الفضل والثواب في هذا الباب العظيم.
أما فعله صلى الله عليه وسلم ففي سيرته الكثير مما يمكن أن يستشهد به “فقد ذكر محمد بن إسحاق رحمه الله بعد إبطال الصحيفة قصصًا كثيرة تتضمن نصب عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة لحج أو عمرة أو غير ذلك منه، وإظهار الله المعجزات على يديه، دلالة على صدقه فيما جاءهم به من البينات والهدى، وتكذيبًا لهم فيما يرمونه من البغي والعدوان والمكر والخداع، ويرمونه من الجنون والسحر والكهانة والتقول، ومنها قصة الطفيل بن عمرو الدوسي وكان سيدًا مطاعًا شريفًا في دوس، وكان قد قدم مكة فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله ونهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه.
أوصى النبي أصحابه لما أرسلهم رسلًا إلى أهل اليمن، وهم علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم، بعدد من النصائح للقيام بواجب الدعوة وتحسين صورة الإسلام، وقد كانت من وصاياه صلى الله عليه وسلم لهم: “بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا”، وقال صلى الله عليه وسلم: “يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا”(رواه البخاري). وكذلك كان من عموم الوصايا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة، وصيته لأبي ذر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن“(أخرجه الترمذي).
ومن أشهر التوجيهات والوصايا النبوية لمعاذ حينما أرسله لأهل اليمن كما ورد عن ابن عباس” أن معاذًا قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب”(أخرجه البخاري).
ومن هذه التوجيهات الكثيرة من النبي صلى الله عليه وسلم لسفرائه يتضح لنا بجلاء الاهتمام العظيم بالدعوة لتحسين صورة الإسلام لدى غير المسلمين، إذ إنه صلى الله عليه وسلم أوصاهم بلزوم التيسير واجتناب التعسير، وسلوك التبشير والبعد عن التنفير، والرفق في الأمور كلها، وسلوك التدريج والتأني في البلاغ، والإعلام بأجمل الطرق وألطف الوسائل، واحترام حقوق الناس وممتلكاتهم وأموالهم، والبعد عن الظلم، والإضرار بالناس، مسلمًا كان أو غير مسلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يهتم لتحسين صورة الإسلام بالمضمون بل اهتم بالشكل كذلك فقد اختار رسله للملوك وكان من بينهم دحية بن خليفة الكلبي الذي أرسله إلى هرقل ملك الروم، وقد كان جميلاً ليعطي صورة مغايرة لما يعرفه الروم عن العرب من الجلافة وعدم الاهتمام بالمظهر مما جعله يتقبل دعوته ويسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم من يعرف من زعماء العرب وتظهر الصورة الذهنية التي انطبعت لديه من نقاشه مع أبي سفيان بن حرب
محطاتٌ ومناسبات
في سيرة حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) التي سبقت نزول الوحي على قلبه الأمين، محطاتٌ ومناسبات عدة ينبغي الوقوف عندها لأنها مثلت قصة التدبير الإلهي الذي أهّل سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) لحمل رسالة النبوة وتحمّل أعباء الدعوة، فكانت بمثابة تربية ربانيّة لصنع هذه الشخصية العظيمة بكل جوانبها.
ومن أبرز تلك المحطات والتفاصيل في سيرته (صلى الله عليه وسلم) عمله في رعي الأغنام أول حياته، وذلك في محاولة منه – كأي إنسان طبيعي – لكسب قوته والكدح طلباً لرزقه، ولا شك أن في ذلك حكم جليلة، لا سيما وأن هذه المهنة هي نفسها التي امتهنها جميع الأنبياء قبله، فما هي الحكمة الإلهية من عمل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) برعي الأغنام ؟ وما الغاية الإلهية من جعل رعي الغنم مهنةً مشتركة لجميع الأنبياء السابقين عليهم السلام؟ كان أبو طالب مُقِلاً في الرِّزق؛ فعمل النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) برعي الغنم مساعدةً منه لعمه، فلقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه الكريمة، وعن إخوانه من الأنبياء أنَّهم رعوا الغنم، أمَّا هو فقد رعاها لأهل مكَّة؛ وهو غلامٌ، وأخذ حقَّه عن رعيه، ففي الحديث الصَّحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبياً إلا رَعى الغنم» فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: «نعم! كنت أرعاها على قراريط لأهل مكَّة»
إنَّ رعي الغنم كان يتيح للنَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) الهدوء الذي تتطلَّبه نفسه الكريمة، ويتيح له المتعة بجمال الصَّحراء، ويتيح له التَّطلُّع إلى مظاهر جلال الله في عظمة الخلق، ويتيح له مناجاة الوجود في هدأة الليل، وظلال القمر، ونسمات الأسحار، ويتيح له لوناً من التَّربية النَّفسيَّة: من الصَّبر، والحلم، والأناة، والرَّأفة، والرَّحمة. فكان رعي الغنم للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم دُربةً ومراناً له على سياسة الأمم
فرعي الغنم يتيح لصاحبه عدَّة خصالٍ تربويَّةٍ، ومنها:
الصَّبر على الرَّعي من طلوع الشمس إلى غروبها، نظراً لبطء الغنم في الأكل: فيحتاج راعيها إلى الصَّبر، والتَّحمُّل، وكذا تربية البشر. وإنَّ الرَّاعي لا يعيش في قصرٍ منيفٍ، ولا في ترفٍ، وسرفٍ، وإنَّما يعيش في جوٍّ حارٍّ شديد الحرارة، وبخاصَّةٍ في الجزيرة العربيَّة، ويحتاج إلى الماء الغزير؛ ليُذهب ظمأه، وهو لا يجد إلا الخشونة في الطَّعام وشظف العيش، فينبغي أن يحمل نفسه على تحمُّل هذه الظُّروف القاسية ويألفها، ويصبر عليها.
التَّواضع:
إذ إنَّ طبيعة عمل الرَّاعي خدمةُ الغنم، والإشرافُ على ولادتها، والقيام بحراستها، والنَّوم بالقرب منها، وربما أصابه ما أصابه من رذاذ بولها، أو شيءٌ من روثها، فلا يتضجَّر من هذا، ومع المداومة والاستمرار يَبْعد عن نفسه الكبر والكبرياء، ويرتكز في نفسه خلق التَّواضع.
وقد ورد في صحيح مسلمٍ: أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كِبْرٍ».
قال رجلٌ: إنَّ الرَّجل يحبُّ أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً. فقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر: بطرُ الحقِّ، وغَمْطُ النَّاس»
الشَّجاعة:
فطبيعة عمل الرَّاعي الاصطدام بالوحوش المفترسة، فلابدَّ أن يكون على جانبٍ كبيرٍ من الشَّجاعة، تؤهِّله للقضاء على الوحوش، ومنعها من افتراس أغنامه.
الرَّحمة والعطف: إنَّ الرَّاعي يقوم بمقتضى عمله بمساعدة الغنم؛ إن هي مرضت، أو كُسرت، أو أصيبت، وتدعو حالة مرضها وألمها إلى العطف عليها، وعلاجها والتَّخفيف من آلامها، فمن يرحم الحيوان يكون أشدَّ رحمةً بالإنسان، وبخاصَّةٍ إذا كان رسولاً أرسله الله تبارك وتعالى لتعليم الإنسان، وإرشاده، وإنقاذه من النَّار، وإسعاده في الدَّارين.
حبُّ الكسب من عرق الجبين:
إنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يغنيَ محمداً صلى الله عليه وسلم عن رعي الغنم، ولكن هذه تربيةٌ له ولأمَّته للأكل من كسب اليد، وعرق الجبين، ورعي الغنم نوعٌ من أنواع الكسب باليد.
إنَّ صاحب الدَّعوة يجب أن يستغني عمَّا في أيدي الناس، ولا يعتمد عليهم، فبذلك تبقى قيمته، وترتفع منزلته، ويبتعد عن الشُّبه، والتَّشكيك فيه، ويتجرَّد عمله لله تعالى، ويردُّ شبهة الكفرة الظَّلمة، الَّذين يصوِّرون للنَّاس: أنَّ الأنبياء أرادوا الدُّنيا بدعوتهم. روى البخاريُّ عن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحدٌ طعاماً قطُّ خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإنَّ نبيَّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده»
ولا شكَّ: أنَّ الاعتماد على الكسب الحلال يكسب الإنسان الحرِّيَّة التَّامَّة، والقدرة على قول كلمة الحقِّ، والصَّدْع بها، وكم من الناس يطأطئون رؤوسهم للطُّغاة، ويسكتون على باطلهم، ويجارونهم في أهوائهم خوفاً على وظائفهم عندهم!.
إنَّ إقبال النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) على رعي الأغنام لقصد كسب القوت والرِّزق يشير إلى دلائل مهمَّةٍ في شخصيَّته المباركة؛ منها: الذوق الرَّفيع، والإحساس الدَّقيق اللَّذان جمَّل الله تعالى بهما نبيَّه صلى الله عليه وسلم، فلقد كان عمُّه يحوطه بالعناية التَّامَّة، وكان له في الحنوِّ، والشَّفقة كالأب الشَّفوق، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم ما إن آنس في نفسه القدرة على الكسب حتَّى أقبل يكتسب، ويُتعب نفسه لمساعدة عمِّه في مؤونة الإنفاق، وهذا يدلُّ على شهامةٍ في الطَّبع، وبرٍّ في المعاملة، وبذلٍ للوسع.
والدَّلالة الثانية تتعلَّق ببيان نوع الحياة الَّتي يرتضيها الله تعالى لعباده الصَّالحين في دار الدُّنيا، لقد كان سهلاً على الله تعالى أن يهيئ للنَّبيِّ (?) – وهو في صدر حياته – من أسباب الرَّفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعياً وراء الرِّزق، ولكنَّ الحكمة الربَّانيَّة تقتضي منَّا أن نعلم: أنَّ خير مال الإنسان ما اكتسبه بكدِّ يمينه، ولقاء ما يقدِّمه من الخدمة لمجتمعه وبني جنسه، وشرُّ المال ما أصابه الإنسان وهو مستلقٍ على ظهره دون أن يرى أيَّ تعبٍ في سبيله، ودون أن يبذل أيَّ فائدةٍ للمجتمع في مقابله.