هو الإمام الشافعي؛ محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف بن قصي الشافعي، وقد وُلد الإمام الشافعي في غزة، ومات أبوه في طفولته فعاش يتيماً، وانتقل إلى مكة وهو ابن عامين، فتعلّم الرماية منذ طفولته حتى أنه فاق أقرانه، وقد تعلّم الشافعي اللغة العربية والشرع وبرع فيهما وتقدم، ثم درس الفقه وأحبّه، إلى أن ساد أهل زمانه فيه.

- قال أحمد بن حنبل عنه: كان الفقه قفلا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي
- قيل عنه : لو وُزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم
- ما زال الناس حتى يومنا هذا يأخذون من علمه ويتابعونه في أصوله وفروعه.
- أقرب الأئمة الأربعة لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم

 
رحلة الإمام في طلب العلم 
 
 
ارتحل الإمام الشافعي إلى المدينة المنورة وهو في العشرين من عمره، وقد كان في ذلك الحين مُفتياً مُؤهلاً للإمامة، وكان قد حفظ موطأ الإمام مالك، وضبط قواعد السنة، وفهم مقاصدها وعلم الناسخ والمنسوخ منها، وقد ضبط قواعد القياس والموازين، وتلقّى العلم على يد شيوخ كثر متفرقين في بلاد مختلفة، وقد أخذ عنهم في أثناء ترحاله.
ومن شيوخه: سفيان بن عيينة، مسلم بن خالد الزنجى، سعيد بن سالم القداح، مالك بن أنس، داود بن عبد الرحمن العطار، إبراهيم بن سعد الأنصاري وغيرهم الكثير.واستمر في الترحال وطلب العلم، فذهب إلى اليمن وبغداد مرتين وأسّس مذهبه، وقد ارتحل إلى مصر وبقي فيها عدة سنوات ثم توفيّ فيها.وقد صنّف الكثير من التصانيف، ودوّن الكثير من العلم، وكتب مصنفات في أصول الفقه وفروعه، وقد ذاع صيته في ذلك الوقت وكثر عدد الطلبة عنده، فكلهم أرادوا أن يتعلموا من بحر العلم الذي كان عنده.ومن تلاميذه: أبو بكر الحميدي، وأبو إسحاق ابراهيم بن محمد العباسي، وأبو بكر محمد بن إدريس، وأبو الوليد موسى بن أبي الجارود، والحسن الصباح الزعفراني.
 
 
منجزات الإمام الشافعي العلمية
 
 أسس الإمام الشافعي مذهباً خاصاً به يدعى المذهب الشافعي، فبعد أن أقام في بغداد مدة طويلة أراد أن يخرج للناس مذهباً يجمع فقه أهل العراق مع أهل المدينة، وقد دوّن مذهبه في ثلاثة بلدان على ثلاث مراحل حسب مكان تواجده، وفي كل منها ثلاميذه الذين تلقّوا العلم على يديه، وهذه البلدان على الترتيب هي: مكة المكرمة بعد أن عاد إليها، ثم بغداد بعد أن سافر إليها للمرة الثانية، ثم ارتحل إلى مصر ومات فيها.
 ومن الجدير بالذكر أن الإمام الشافعي عندما ذهب إلى مصر كان قد نضج فكره وزادت خبرته واختبر العمل بمذهبه، وهذا أدى إلى ظهور آراء جديدة لديه وحذف بعض الآراء القديمة،
 وقد ألّف الإمام الشافعي -رحمه الله- العديد من الكتب والمصنّفات، كما أنه أوّل من دوّن علم أصول الفقه ومن هذه الكتب: كتاب الرسالة، وهو أول كتاب كُتب في علم أصول الفقه. كتاب جماع العلم. كتاب إبطال الاستحسان. كتاب أحكام القرآن. بالإضافة إلى غيرها الكثير من الكتب القيمة التي أثْرت علم الفقه، وأرشدت الفقهاء إلى هذا السبيل.
 
 
أخلاق وصفات الإمام الشافعي
 
كان الشافعي يتصف بمكارم الأخلاق وحسن المعاملة، وشهد له كثيرون في ذلك، فقد كان صاحب علم وخلق، ومن صفاته وأخلاقه: كان الإمام الشافعي يتصف بالذكاء الشديد وقد قيل عنه: «لو وُزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم»، وقال المأمون عن الشافعي: «امتحنته في كل شيء فوجدته كاملاً»، وقد كان صافي العقل والذهن وسريع الفهم.
وكان الشافعي من أفقه الناس في كتاب الله والسنة النبوية، وقد قال أحمد بن حنبل عنه: «كان الفقه قفلا على أهله، حتى فتحه الله بالشافعي»، وقد كان الشافعي فيلسوفاً في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني والفقه.
كان يتصف بالورع فقد كان يختم القرآن في رمضان ستين مرة في الصلاة، التواضع خضوعه للحق وبذل النصح للعالم ، السخاء وحسن الخلق ، الفراسة والفطنة.
 
 
وفاة الإمام الشافعي
 
توفيّ الإمام الشافعي سنة 150هـ-204هـ، وقد مات الإمام الشافعي -رحمه الله- في مصر وكان عمره أربعاً وخمسين سنة، بعد أن ارتحل إليها سنة 199هـ، فعاش فيها مدة خمس سنوات، ثم مرض واشتد عليه المرض وتوفي على إثره. وقد سأله أحدهم عن حاله وهو في مرض موته فقال: يا أبا عبد الله كيف أصبحت؟ فرفع رأسه، وقال: «أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مُفارقاً، ولسوء فعالي ملاقياً، وعلى الله وارداً، ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها، ثم بكى وقال هذه الأبيات»
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي ،جعلت الرجا من نحو عفوك سلما ،تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي، كان عفوك أعظما، فما زلت ذا عفو عن الذنب ، لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما، فإن تنتقم مني فلست بآيس ولو دخلت نفسي بجرمي جهنما، فلولاك لم يغو بإبليس عابد ،فكيف وقد أغوى صفيك آدما ،وإني لآتي الذنب أعلم قدره وأعلم أن الله يعفو ترحما
 
 
محطات من حياة الإمام 
 
إن من منة الله على هذه الأمة وعلى الناس أجمعين أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164]، فقام بأمر ربه خير قيام، وبلغ الرسالة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، حتى أكمل الله تعالى به الدين قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم }[المائدة: 3].
ثم تتابع السلف بعد النبي عليه الصلاة والسلام داعين إلى هذا الدين، في سبيل الله مجاهدين، ميسرين للناس سبل سماع الحق، وكلما لقيت طائفة منهم ربها، أخلفهم الله بطائفة أقام بها الدين، ففي ذلك يقول رسول الله: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها».
وكان من هؤلاء العلماء الربانيين الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله- وهو علم من أعلام الإسلام جدد الله به دينه، وحفظ به شريعته، ورزقه قوة في الفقه، والفهم، فأصل الأصول، وقعد القواعد، ففرح به العوام، واحتفى به العلماء، وما زال الناس حتى يومنا هذا يأخذون من علمه ويتابعونه في أصوله وفروعه.
ويعد الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- من أقرب الأئمة الأربعة لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو قرشي، كما أن المالكية يفتخرون به لكونه من تلاميذ الإمام مالك، والإمام أحمد بن حنبل يجله ويحترمه ويعتبره من شيوخه، كما أن الشافعي تتلمذ على يدي محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، فهو واسطة العقد بين المذاهب السنية الأربعة الشهيرة، كما أن نزعته النقلية وانتصاره للدليل، وحدة ذكائه، واستخدامه للعقل في إقامة الحجة على الخصوم، وما تميزت به كتابته في أصول الفقه، وبيان الخاص والعام، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل.. كل ذلك كان له الأثر البالغ في عظم منزلة الإمام الكبير محمد بن إدريس الشافعي عند المسلمين.
 
 
محنة الشافعي
 
جاء في بعض الروايات عند ابن عبد البر قال: «دخل الشافعي ومن معه من العلويين على الرشيد، وكان دخولهم واحدا واحدا، يكلم أحدهم وهم يسمعون من خلف الستر. قال الشافعي: إلى أن بقي حدث علوي من أهل المدينة وأنا، فقال للعلوي: أأنت الخارج علينا والزاعم أني لا أصلح للخلافة؟ فقال العلوي: أعوذ بالله أن أدعي ذلك أو أقوله، قال: فأمر بضرب عنقه، فقال له العلوي: إن كان لا بد من قبلي فأنظرني أكتب إلى أمي بالمدينة فهي عجوز لم تعلم بخبري، فأمر بقتله، فقتل، ثم قدمت ومحمد بن الحسن جالس معه، فقال لي مثل ما قال للفتى، فقلت: يا أمير المؤمنين لست بطالبي ولا علوي، وإنما دخلت في القوم بغيا عليهم، وإنما أنا رجل من بني المطلب بن عبد مناف من قصي، ولي مع ذلك حظ من العلم والفقه، والقاضي يعرف ذلك، أنا محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف.
فقال لي: أنت محمد بن إدريس؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما ذكرك لي محمد بن الحسن. ثم عطف على محمد بن الحسن، فقال: يا محمد ما يقول هذا، هل هو كما يقوله؟ قال: بلى وله من العلم محل كبير، وليس الذي رفع عليه من شأنه. قال: فخذه إليك حتى أنظر في أمره.
قال ابن كثير: فحمل الشافعي على بغل في قيد إلى بغداد، فدخلها في سنة 184 وعمره 34 سنة، فاجتمع بالرشيد فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد، وأحسن القول فيه محمد بن الحسن، وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه، وأنزله محمد بن الحسن عنده، وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنة أو سنتين، وأكرمه محمد بن الحسن.
وكان الإمام الشافعي معظما لمحمد بن الحسن تمام التعظيم مع ما يجري بينهما من مناظرات وخلافات مشهورة بين المذهبين، فالشافعي -رحمه الله- على مذهب أهل الحديث، ومحمد بن الحسن -رحمه الله- على مذهب أهل الرأي، ومعلوم ما بين المذهبين من اختلاف، ومع هذا يقول الشافعي عن محمد بن الحسن: ما رأيت أحدا يسأل عن مسألة فيها نظر إلا رأيت الكراهة في وجهه إلا محمد بن الحسن.
 
 
رحلته إلى مصر
 
كانت نفسه تتوق إلى مصر رغما عنها، وكان لا يدري حقيقة هذا الرغبة، ولكنه استسلم أخيرا لقضاء الله، وخرج من العراق إلى مصر، وفي ذلك يقول:
 
 
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر                                 ومن دونــــها أرض المهامـه والقفــــر
فـــــــــو الله مـــا أدري أللفـــــــــــوز والغـــــــــــنى           أساق إليها أم أساق إلى القبر
 
وحين قدم الشافعي -رحمه الله- مصر ذهب إلى جامع عمرو بن العاص، وتحدث به لأول مرة، فأحبه الناس، وتعلقوا به. قال هارون بن سعيد الأيلي: ما رأيت مثل الشافعي قدم علينا مصر، فقيل: قدم رجل من قريش، فجئناه وهو يصلي، فما رأينا أحسن صلاة منه، ولا أحسن وجها منه، فلما تكلم ما رأينا أحسن كلاما منه، فافتتنا به، وهناك برز للناس علم الشافعي وسعة اطلاعه واستفاد هو من رحلاته، وعمد إلى كتبه التي كتبها من قبل يراجعها ويصحح ما أخطأ فيه، ورجع عن كثير من أقواله، وأظهر مذهبه الجديد، وأعاد تأليف كتبه ولازمه كثير من العلماء الذين أثر فيهم علم الشافعي ومنهجه، وحرصه على متابعة السنة.
 
 
رحلته إلى اليمن وولايته بأرض نجران
 
 
لما مات الإمام مالك، وأحس الشافعي أنه نال من العلم أشطراً، وكان إلى ذلك الوقت فقيراً، اتجهت نفسه إلى عمل يكتسب منه ما يدفع حاجته، ويمنع خصاصته، وصادف في ذلك الوقت أن قدم إلى مكة المكرمة والي اليمن، فكلمه بعض القرشيين في أن يصحبه الشافعي، فأخذه ذلك الوالي معه، ويقول الشافعي في ذلك: «ولم يكن عند أمي ما تعطيني ما أتحمل به، فرهنت داراً فتحملت معه، فلما قدمنا عملت له على عمل»، وفي هذا العمل تبدو مواهب الشافعي، فيشيع ذكرُه عادلاً ممتازاً، ويتحدث الناس باسمه في بطاح مكة. ولما تولى الشافعي ذلك العمل أقام العدل، وكان الناس يصانعون الولاة والقضاة ويتملقونهم، ليجدوا عندهم سبيلاً إلى نفوسهم، ولكنهم وجدوا في الشافعي عدلاً لا سبيل إلى الاستيلاء على نفسه بالمصانعة والملق، ويقول هو في ذلك: «وليت نجران وبها بنو الحارث بن عبد المدان، وموالي ثقيف، وكان الوالي إذا أتاهم صانعوه، فأرادوني على نحو ذلك فلم يجدوا عندي».
 
 
أسلوب مجادلته لمخالفيه 
 
 
بعد قدوم الشافعي إلى بغداد سنة سنة 195 هـ، بل قبل ذلك في دراسته بمكة، كان صاحبَ طريقة جديدة في الفقه، وصاحبَ آراءٍ جديدةٍ فيه تنفصل عن آراء الإمام مالك، ولكنه لم يتجهْ إلى آراء مالك بنقد أو تزييف، بل كان يُلقي بآرائه خالفت أو وافقت رأيَ مالك من غير نقد له، ولذلك كان يُعَدُّ من أصحاب مالك، وإن كان في جملة آراءه ما يخالفه قليلاً أو كثيراً، كما خالف بعضُ أصحاب مالك مالكاً، وكما خالف بعضُ أصحاب أبي حنيفة شيخَهم، ولكن حدث ما اضطر الشافعي إلى أن يتجه لآراء شيخه مالكٍ بالنقد، ذلك أنه بلغه أن مالكاً تُقدَّس آثارُه وثيابُه في بعض البلاد الإسلامية، وأن من المسلمين أناساً يُتحدَّث إليهم بحديث رسول الإسلام محمد، فيُعارضون الحديث بقول مالك، فتقدم الشافعي الذي لقبه العلماء في عصره بناصر الحديث، ووجد طريقاً معيَّناً ليسلكَه، وهو أن ينقدَ آراءَ مالك، ليعلم الناسُ أن مالكاً بشرٌ يخطئ ويصيب، وأنه لا رأي له مع الحديث، فألف في ذلك كتاباً سماه «خلاف مالك»، ولكنه تردد في إعلانه وفاءً لمالكٍ شيخِه وأستاذِه، والذي كان يقول عنه طوال حياته أنه الأستاذ، يتردد بين إرشاد الناس لما رآه أخطاءً لمالك، وهو يخشى على السُنَّة من تقديس الناس له، وبين الوفاء له، فطوى الكتاب لمدة سنة وهو متردد، ثم استخار فنشره.
ويروي الفخر الرازي: «أن الشافعي إنما وضع الكتاب على مالك لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يُستقى بها، وكان يقال لهم قال رسول الله ? فيقولون قولَ مالك، فقال الشافعي: «إن مالكاً آدمي قد يخطئ ويغلط»، فصار ذلك داعياً للشافعي إلى وضع الكتاب على مالك، وكان يقول: «كرهت أن أفعل ذلك، ولكني استخرت الله تعالى فيه سنة»
 
فإن تعف عني تعف عن متمرد             ظلوم غشوم ما يزايل مأثما
وإن تنتقم مني فلست بآيس                ولو أدخلت نفسي بجرمي جهنما
فجرمي عظيم من قديم وحادث            وعفوك يا ذا الجلال أعلى وأجسما