ينسب الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر إلى قبيلة الأصابح الحميرية اليمنية، وقد استقر جده في المدينة المنورة، وتنسم مالك نفحات طيبة سنة 93 للهجرة، وفيها عاش ودفن سنة 179، بعد أن ورث علم الصحابة، وعمل أهل المدينة.
ولعظم مكانته عند أتباعه، فقد أحاطوه بهالة من المبالغة والغرابة أحيانا، فذهب بعض من أرخ له إلى أن حمل أمه به استمر ثلاث سنوات، وهي الرواية التي اشتهرت عند أهل السير، ولم ترق للإمام محمد أبو زهرة الذي اعتبر أن المالكية لم يرضوا لشيخهم -الذي لم يكن كغيره علما- أن يكون حمل أمه به كحمل غيرها من النساء.
ولد الإمام مالك لأسرة من أهل العلم والصلاح، وكان لأمه دور كبير في تربيته وتوجيه مواهبه التي تفتقت منذ الطفولة، فقد كان ذكيا عاقلا سريع الحفظ، وأكمل حفظ القرآن الكريم لعشر سنين أو أقل، ثم تاقت نفسه إلى طلب العلم، وفي روايات أخرى مما ينقله المالكية في تراجم إمامهم، أنه كان طفلا يلعب بالحمام في طرقات المدينة المنورة، فاختطت له طريقا أخرى، فحممته وعممته، وأرسلته لكتابة العلم.
كان من شيوخ مالك الذين تتلمذ عليهم عدد من أجلاء التابعين، أخذ عنهم السنة المطهرة غضة طرية من منبع صاف، لا يفصلهم عن مشافهة النبي ? غير جيل الصحابة، ولم يحتج الإمام مالك إلى السفر خارج مدينته المقدسة، فقد كانت حافلة بالعلماء، مفعمة بالسيرة العطرة من علم وتقوى، ومن معارضة سياسية عميقة للأنظمة الأموية والعباسية التي تعاقبت على الحكم بعد الخلافة الراشدة.
ومن بين من أخذ عنهم الإمام مالك الإمام أبو بكر عبد الله بن يزيد المعروف بابن هرمز المتوفى سنة 148 هـ، فقد روي عن مالك أنه قال “كنت آتي ابن هرمز من بكرة، فما أخرج من بيته حتى الليل”، وقد استمر مالك في الأخذ عن ابن هرمز أكثر من سبع سنين، فأجلّ الشيخ تلميذه، ونهل التلميذ من معارف شيخه الموسوعية.
كما أخذ مالك عن التابعي الجليل نافع مولى ابن عمر، ومنه اتصلت السلسلة الذهبية التي هي أصح الأسانيد عند أهل الحديث “مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله ?”.
ومن شيوخ مالك أيضا الإمام ابن شهاب الزهري، والإمام جعفر الصادق، كما أخذ عن هشام بن عروة، ومحمد بن المنكدر وسعيد بن أبي سعيد، وعن يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة الرأي وغيرهم من أجلاء العلماء، بل قيل إنه كتب الحديث عن 300 شيخ من أهل المدينة، وزاد بعضهم ليوصل شيوخه إلى 600 راو وإمام.
بشارة نبوية
وقد أدى نهل الإمام مالك وأخذه من المنبع الصافي في الشريعة، لتصدره للإفتاء والتدريس، فجلس له وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وحدث عنه العلماء وهو شاب طرير لم تدر لحيته بعد على خديه، ثم انطلقت شهرته في الآفاق وقصده طلاب العلم من أرجاء دنيا الإسلام يومئذ، من أقصى العراق إلى أقصى المغرب، ومن مصر إلى خراسان، فكانت حلقة الإمام مالك كبرى حلقات العلم وكرسي الإفتاء الأعلى في العالم الإسلامي يومها.
ومما زاد شهرته تداول الناس لأحاديث ونصوص منسوبة إلى النبي ? تبشر بـ”عالم المدينة”، ومنها قوله ?: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة).
وقد تدفقت كتب التراجم والسير بكثير من سمات وخصال الإمام مالك، ولعل من أبرز ما يمكن استلاله من موسوعة القيم والفضائل التي تحلى بها الإمام مالك خصالا مميزة منها التبحر في العلم، والتواضع واستشارة العلماء، وفقه العبادة ونسك المربي، وصيانة العلم وتوقير المعرفة، وضبط العلم واحترام التخصص، ومراعاة الخلاف الفقهي ورفض التعصب.
أهل للفتوى
لقد تواترت كتب التراجم ونُقول العلماء على تبحر الإمام مالك في العلم، فكان الإمام الشافعي يقول “مالك معلمي وعنه أخذت العلم”.
وقد كان من زينة الدنيا كما يقال، أن يقول الرجل حدثني الإمام مالك، وعلى سبيل الفخر حدث محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة قائلا: أقمت عند مالك ثلاث سنين وكسرا، وسمعت من لفظه أكثر من سبعمائة حديث، فكان محمد إذا حدث عن مالك امتلأ منزله، وإذا حدث عن غيره من الكوفيين، لم يجئه إلا اليسير.
ولم يتصدر مالك المجالس والمحافل العلمية من تلقاء نفسه، بل كان الأمر بعد إجازة وشهادة من العلماء بأنه أهل للإفتاء وسند للشريعة، وينبغي أن يأخذ موقعه في دورة العلم، ويؤثر عن الإمام مالك قوله “ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك”.
وقد اختط لنفسه طريقا في العبادة يقوم على فهم عميق لمهمة الدين في الحياة، فلم يكن يرى العبادة انقطاعا عن الدنيا وانسحابا من الحياة، ويظهر ذلك في رسالته الشهيرة التي رد فيها على العابد عبد الله العمري حين كتب إليه ينصحه بالعزلة والاشتغال بالعبادة، فكتب له مالك دستورا في فقه العبادة جاء فيه “إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد. فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر”.
ورغم هذا الفقه، فقد كان مالك عابدا مخبتا كثير النوافل حليفا للقرآن تلاوة وتدبرا.
“العلم يؤتى أهله”
حفظ الإمام مالك مكانة العلم من الابتذال أو الوقوف بأبواب السلاطين، وكان يرفض أن ينتقل إلى قصور الملوك والحكام لتعليم أبنائهم، ومن مواقفه الشهيرة في ذلك ما حصل له مع الخليفة العباسي المهدي، فقد قدم المهدي المدينة، فبعث إلى مالك فأتاه، فقال لابنيه هارون وموسى: اسمعا منه، فبعثا إليه، فلم يجبهما، فأعلما المهدي، فكلمه فقال: يا أمير المؤمنين! العلم يؤتى أهله. فقال: صدق مالك، صيرا إليه.
فلما صارا إليه قال له مؤدبهما: اقرأ علينا. فقال: إن أهل المدينة يقرأون على العالم، كما يقرأ الصبيان على المعلم، فإذا أخطأوا أفتاهم. فرجعوا إلى المهدي، فبعث إلى مالك فكلمه، فقال: سمعت ابن شهاب يقول: جمعنا هذا العلم في الروضة من رجال، وهم يا أمير المؤمنين: سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة والقاسم وسالم وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار ونافع وعبد الرحمن بن هرمز، ومن بعدهم: أبو الزناد وربيعة ويحيى بن سعيد وابن شهاب، كل هؤلاء يقرأ عليهم ولا يقرأون. فقال: في هؤلاء قدوة، صيروا إليه فاقرأوا عليه، ففعلوا.
وقد ظل الإمام مالك على المنهج فلم ينحن للضغوط ولا الإغراء، بل ظل طودا صامدا شامخا، يهابه الأمراء قبل العامة.
مجلس الحديث
لم يكن تعظيم الإمام مالك للعلم مقتصرا على حمايته من أن يذل أمام الحكام، بل كان يعطي مجلس الحديث مكانته من الهيبة والأبهة، فكان إذا جلس للحديث تعطر ولبس أحسن ثيابه، وينقل أحد أصحابه مشهد الحلقة قائلا: كنا إذا دخلنا على مالك خرج إلينا مزينا مكحلا مطيبا، قد لبس من أحسن ثيابه، وتصدر الحلقة، ودعا بالمراوح، فأعطى لكل منا مروحة.
وقد كان مالك يربى تلاميذه على هذا النهج، فقد نقل عنه تلميذه عبد الله ابن وهب قوله: حق على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، والعلم حسن لمن رزق خيره، وهو قسم من الله تعالى، فلا تمكن الناس من نفسك، فإن من سعادة المرء أن يوفق للخير، وإن من شقوة المرء أن لا يزال يخطئ، وذل وإهانة للعلم أن يتكلم الرجل بالعلم عند من لا يطيعه.
ومما عرف عن الإمام مالك الإمساك عما لم يحط به علما من مسائل الفقه والإفتاء، وكان يكثر عبارة “لا أدري”، ويردد:
ومن كان يَهوَى أن يُرى مُتصَدِّرا .. ويكرَهُ “لا أدري” أُصيبت مَقاتِلُهْ
وينقل مالك عن شيخه ابن هرمز قوله: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول لا أدري، حتى يكون ذلك أصلا يفزعون إليه.
“يا أمير المؤمنين لا تفعل”.. فرض المذهب المالكي بأمر المنصور
1وقف الإمام مالك في وجه الأحادية المذهبية والتعصب الفكري، ومما يؤثر عنه في هذا المجال رفضه سعي الخليفة أبي جعفر المنصور لحمل المسلمين على فقه أهل المدينة وكتاب الموطأ الذي جمعه مالك.
حاول أبو جعفر المنصور حمل المسلمين على كتاب الموطأ لكن مالك بن أنس أقنعه بالعدول عن الفكرة
وينقل ابن سعد في الطبقات الكبرى بسنده عن مالك قوله: لما حج المنصور دعاني، فدخلت عليه فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: إني عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها -يعني “الموطأ”- فتنسخ نسخا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، وَيَدَعُوا ما سوى ذلك من العلم المحدث، فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم.
قلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الناس قد سيقَتْ إِلَيْهِمْ أَقَاوِيلُ، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سيق إليهم وعملوا به ودانوا به، من اختلاف أصحاب رسول الله ? وغيرهم، وإن ردهم عن ما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم. فقال: لعمري لو طاوعتني لأمرت بذلك.
أيمان البيعة
نال الإمام مالك نصيبا وافرا من عسف السلطان، وخصوصا في موقفه من ما يعرف بأيمان البيعة، فقد كان العباسيون يرغمون الناس على البيعة لهم بالإكراه على الحلف باليمين، وكان الإمام مالك سدا منيعا ضد هذا النمط من الإكراه على الموالاة، ونسب إليه إفتاؤه بأن طلاق المكره باطل.
تزامنت محنة مالك مع ثورة محمد بن عبد الله المعروف بـ”النفس الزكية”، وكان مالك خلال ذلك يفتي في مجلسه بأنه ليس على مستكره طلاق، وهنا اختلف المؤرخون بين من رأى أن مالكا كان يدعم ثورة “النفس الزكية”، ويحض الناس على خلع بيعة العباسيين من رقابهم، وبين من يرى أن فتواه كانت مجرد جواب عن سؤال فقهي، وليست لها علاقة بثورة “النفس الزكية” أو بالموقف من العباسيين.
ولكن الثابت أن الوشاة استغلوها ونقلوا إلى الأمراء العباسيين وإلى والي المدينة أن مالكا لا يعترف بأيمان البيعة، ومن هنا بدأت مأساة إمام دار الهجرة، فضُرب ضربا مبرحا وجُلِد أربعين جلدة -وفي رواية سبعين سوطا- حتى انخلعت كتفه، فكان يحمل إحدى يديه بالأخرى، أما عزيمته فقد ظلت في ارتفاع وصمود، فكان العباسيون يطوفون به حاسر الرأس في شوارع المدينة، فيقول: “من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس، ألا لا طلاق في إكراه، ألا إن أيمان البيعة باطلة”، فلم يجدوا بدا من إخلاء سبيله.
وقد ظل الإمام مالك على صرامته المنهجية، وعلى وضوح خطه الفكري والعلمي، وعلى عزته وشرفه وهيبته التي كانت تمنع من شهدوا درسه من مقاطعة كلامه، حتى دنت ساعة الرحيل، ليخرج من الدنيا عام 179 للهجرة خفيفا من أعباء الحياة، مثقلا بجبال من حسنات الخلود، وزواخر العطاء العلمي الذي نشر مذهبه في بقاع كثيرة من العالم، وتوزع بعده إلى مدارس من أشهرها المدرسة المصرية والأندلسية والعراقية، وما زال المذهب المالكي يتمدد ويترسخ، والمسلمون من أنحاء مختلفة من الدنيا لا يعرفون الإسلام إلا عبر نافذة الإمام مالك بن أنس، سلطان العلماء وشيخ المحدثين، عليه رحمات الله تترى.