المولد والنشأة:
هي منيرة عبد الرحمن صالح سيف حمد محمد العتيقي، المولودة في دولة الكويت في منتصف القرن الثالث عشر الهجري تقريباً، أي عام 1250هـ الموافق لعام 1834م تقريباً.
تنتمي إلى أسرة عريقة عرفت بتاريخها العلمي، وارتبطت بتعليم المنهج الإسلامي منذ القدم، فقد ظهر منها علماء أجلاء، وقد كان أجدادها وأعمامها علماء لهم تراجم معروفة، ومنهم الشيخ سيف بن حمد العتيقي، الذي اشتهر بالخير والفضل والصلاح، وله أوقاف عديدة في مدينة المجمعة عبارة عن مدرسة وكتبٍ ونخلٍ تصرف غلتها على طلاب العلم هناك، ومنهم كذلك الشيخ محمد بن سيف العتيقي الذي ورد ذكره في كتاب «السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة».
رافقت والديها إلى حج بيت الله الحرام ثم استوطنت هناك.
نشأت المحسنة منيرة مع أسرتها في الكويت، التي كانت في تلك الفترة تعيش حالة رخاء ونمو مطرد في التجارة والعمران، في ظل الاستقرار في الأوضاع السياسية الذي شهدته المنطقة آنذاك، مما مكن الكثير من الموسرين من تنمية أموالهم في التجارة البرية والبحرية.
وقد كان لأهلها ولع فطري ببيت الله الحرام والأماكن المقدسة، فاتخذوا لهم بيتاً بمكة المكرمة في حي بني عامر يقضون فيه أوقات الحج والعمرة والزيارة، فنشأت منيرة في هذا الجو المتدين وتربت في كنف القرآن الكريم تلاوة وحفظاً وتدبراً، وتعلمت شيئاً يسيراً من الحديث والفقه.
وفي هذا الجو العلمي المتدين، أخذت منيرة من أهلها حب بيت الله الحرام، فأرادت أن يكون لها مقر دائم وجوار للحرم المقدس، اقتداء بذويها وتقرباً من الأرض التي بارك الله فيها، فاختارت أرضاً مجاورة لبيت أهلها بمكة المكرمة، وبالتحديد في شِعب بني عامر قرب بئر الحمام، واشترتها من مالها الخاص.
ثم بنت على هذه الأرض بيتاً وديواناً وما يلزمهما من منافع، وذلك عام 1277 هجرية (1860م)، ليكون هذا البيت مستقراً لها في يوم من الأيام. وقد تحقق هذا الأمل، وجاء اليوم الذي عاشت فيه المحسنة منيرة في هذا البيت، بعد أن تزوجها السيد محمد بن علي بن عبدالرحمن المضايفي من أهل مكة المكرمة.
نشأت منيرة في بيت علم ودين، فجدها صالح وعمها عبدالله كانا من العلماء المعدودين في منطقة الخليج العربي. وقد كان لجدها صالح مساهمات في التعليم والتدريس في مدارس الأحساء بالسعودية، والزبارة الواقعة في قطر.
ولم يكن للبنات في ذلك الوقت من وسائل التعليم غير البيوت والكتاتيب النسائية لدى المطوعة، وقد درست منيرة القرآن الكريم وعلوم الحديث الشريف كما أسلفنا، وشيئاً من الفقه الشرعي، الذي وضحت آثاره فيما بعد في اجتهادها وعباداتها وأوجه الإحسان التي تميزت بها.
أخلاقها وصفاتها
كانت المرحومة منيرة سيدة فاضلة، وصولة للرحم، قوية الشخصية، عالمة بالفقه والفرائض، وفوق ذلك كانت عفيفة، ذات عزة وكرامة، لا تخرج من بيتها إلا لحاجة ولا تخالط الرجال في الأسواق. كما كان من صفاتها الكرم والإحسان.
ويتضح من حجة الوقف التي سيأتي ذكرها لاحقاً أن منيرة كانت على شغف بتلاوة القرآن وسماعه، الأمر الذي ساعد على صياغة شخصيتها وأخلاقها بما يميز قارئ القرآن من مكارم الأخلاق. وقد صدق عبدالله بن مسعود رضي الله عنه إذ يقول فيما روي عنه: «ينبغي لقارئ القرآن أن يُعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مُفطرون، وبصمته إذ الناس يخوضون، وبورعه إذ الناس يخلطون، كما أنه لا يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، فهو حامل لكتاب الله تعالى»().
تزوجت (رحمها الله) من السيد محمد بن على بن عبد الرحمن المضايفي العدواني، من عائلة وثيقة الصلة بأشراف مكة المكرمة من آل غالب، حيث ترتبط أسرته برحم ومصاهرة مع أسرة الشريف غالب، وكان والده وعمه عثمان المضايفي من وجهاء مكة المكرمة أيضاً، إذ كان عم زوجها عثمان المضايفي وزيراً للشريف غالب وصهراً له، ثم قائداً من قادة الدولة السعودية الأولى، ووالياً على الحجاز.
أما والد زوجها علي المضايفي فكان قائداً من قادة الإمام محمد بن سعود في معارك عسير، وكذلك كان عم زوجها الآخر سعود المضايفي العدواني. وقد استقرت رئاسة قبيلة عدوان في هذه الأسرة في الحجاز منذ مدة طويلة.
أولادها وأحفادها
ليس لها ذرية باقية فيما علمنا ويبدو أنها لم تنجب. ولعل لله تعالى حكمة في ألا يكون لها أولاد يشغلونها عن ذكر الله تعالى وقراءة القرآن وسماعه وليس هذا ترغيباً عن الأولاد وإنجاب الذرية، ولا زهداً فيهم, بل هو تقرير لآيات من كتاب الله عز وجل، مثل قوله سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)» سورة المنافقون.
ولهذا فقد استطاعت (رحمها الله) استثمار وقت الفراغ لديها في تلاوة القرآن وحفظه وتحصيل جانب من الفقه، مما سيكون خير زاد لها في الآخرة بإذن الله تعالى.
أوجه الإحسان في حياتها
ليس غريباً على امرأة صالحة نشأت في بيئة طيبة، وتعرضت لنفحات كتاب الله الكريم، وسبحت في معانيه العظيمة، وليس بعجيب على امرأة نشأت بين أبوين كريمين صالحين وأسرة مباركة طيبة، أن تتشرب معاني الإحسان، وأن تعلم ثواب المحسنين وجزاء المنفقين، وما أعده الله تعالى لهم في الجنات من أجر عظيم.
وقد طرق سمعها وخالط بشاشة قلبها قول الله تعالى:
«.. وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)» سورة البقرة. فشمرت عن ساعديها لتبذر بذور الخير اليافعة، وتسقي أغصانه الوارفة، فيؤتي بإذن الله تعالى أُكُله في كل حين. وقد تعددت أوجه الإحسان في حياتها كما يلي:
الوقف الخيري
الوقف مصدر من مصادر البر لا ينقطع، ومعين للعطاء لا ينضب .. وسبيل للإنفاق لا ينفد بإذن الله تعالى وهو قديم قدم الإسلام ذاته، وقد ازداد مع الفتوحات الإسلامية في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث توقف عن قسمة الأراضي المفتوحة، وجعلها وقفاً للمسلمين.
وقد أدركت (رحمها الله) ثواب الوقف وجزاء الواقفين، فاشترت أرضاً في شِعبِ بني عامر بمكة المكرمة عام 1277 هجرية، ثم أنشأت عليها مباني وحوشاً وديواناً وقاعة ومنافع وعزلتين. ثم أوقفت هذا المبنى بالكامل لله تعالى، على خيرات وأضاحي للفقراء والمساكين.
ولما أرادت منيرة أن توصي بوقف خيري لعقارها الكائن في مكة المكرمة، ولكونها لا تختلط بالرجال لزم أن يرسل لها القاضي الشرعي في ذلك الوقت مأذوناً شرعياً نيابة عنه، ليسمع الوصية المطلوبة ويوثق ما جاء فيها، تمهيداً لوضعها محل التنفيذ حتى تكون حجة شرعية نافذة إلى أبد الآبدين إن شاء الله تعالى.
وتفيد الحجية الشرعية الصادرة في مكة المكرمة المؤرخة في التاسع عشر من ربيع الثاني 1306 هجرية والموثقة من قبل محاكم المملكة العربية السعودية أن المأذون الشرعي الشيخ سليمان أفندي بن الشيخ أسعد قناص قد انتقل إلى بيت المصونة منيرة لسماع إقراراها بالوقف المشار إليه، وقد حضر ساعتها المكرمان الشيخ أحمد والشيخ صالح ابنا الشيخ محمد بن أحمد العامودي، وهما العارفان بها عيناً واسماً ونسباً المعرفة الشرعية النافية للجهالة، بحيث تكون هي الناظرة عليه، ومن بعدها ابن أختها محمد بن عبد الله بن سيف العتيقي.
وتفيد حجية شرعية أخرى مؤرخة في العاشر من رجب 1306هـ أن للمحسنة منيرة (رحمها الله) وقف آخر مجاور للأول، وقد أوقفت هذا الوقف على معاتيقها وعلى أولادهم وأولاد أولادهم، فإذا لم يبق أحد من معاتيقها فيكون ذلك وقفاً على ابن أختها محمد بن عبد الله بن سيف العتيقي، ثم من بعده وقفاً على عصبة ابن أختها وأولادهم وأولاد أولادهم مهما تناسلوا، ويقوم على مصالح هذا الوقف الآن د. صلاح بن عبد اللطيف العتيقي.
وجاء في حجية الوقف الخيري المشار إليها ما يلي: «أقرت المصونة منيرة بنت المرحوم الشيخ عبد الرحمن بن صالح العتيقي الكويتي المذكورة بين يدي الأمين الشيخ سليمان أفندي المذكور إقراراً صحيحاً شرعياً في حال صحتها وكمال عقلها وجواز تصرفاتها في الوجوه كلها بأنها وقفت وحسبت وسبلت وتصدقت بما هو لها وفي ملكها وحوزتها وتحت تصرفها واختصاصها بمفردها إلى حين صدور هذه الوقفية منها، والآيل إليها أرضه بالشراء بموجب حجة شرعية بيدها، محررة من محكمة مكة المكرمة، مؤرخة في اليوم الرابع والعشرين من ذي الحجة الحرام من العام السابع والسبعين بعد المائتين والألف، متوجة بعلامة وختم قاضي مكة المكرمة للعام المذكور رضا أفندي زاده محمد شمس الدين أفندي.
والأبنية القائمة عليها أنشأتها بمالها لنفسها الثابت ذلك لدى المأذون المذكور ثبوتاً صحيحاً شرعياً بإخبار المكرمين الشيخ صالح والشيخ أحمد ولدي المرحوم الشيخ محمد أحمد العامودي المذكور أعلاه، وذلك ابتغاء لوجه الله الكريم وطلباً لثوابه الجسيم يوم يجزي الله المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين.
أعني الموقوف هو كامل الحوش المشتمل على ديوان بمقعد من الحجر وصفة أمامه مسقفة لها باب من الحوش المذكور وقاعة من داخل الديوان المذكور في الجهة الشرقية وخزانة من داخل القاعة المذكورة لها باب على الحوش المذكور وعلى بيت خلاء في الجهة الشرقية الكائن ذلك بمكة المكرمة بحارة شعب بني عامر قريباً من بئر الحمام الذي يحده شرقاً الحوش ملك ورثة المرحومة لولوة بنت سيف العتيقي الكويتي، وغرباً السكة النافذة الموصلة إلى بئر الحمام وبه باب الحوش المذكور وشمالاً العزلتين ملك المصونة منيرة المذكورة والجدار الفاصل بينهما خاص بالعزلتين المذكورتين، ويميناً السكة النافذة الفاصلة بين هذا المحدود وبين بئر الحمام المذكور بما لذلك من الحق والحقوق والسوح والفسوح والمرافق والمنافع واللواحق والتوابع والأرض والبناء ومجاري الماء وكل ما يعد ويحسب من جملة ذلك وينسب إليه شرعاً، وقفاً صحيحاً شرعياً وحبساً صريحاً مرعياً لا يباع ولا يرهن ولا يملك ولا يستملك ولا يناقل به ولا ببعضه بل لا زال قائماً على أصوله وضوابطه مستمراً على شروطه وروابطه كلما مر عليه زمان حدده وأكده أبد الآبدين ودهر الداهرين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وأنشأت الواقفة منيرة المذكورة وقفها هذا وهي تملكه أولاً على نفسها مدة حياتها تنتفع به بمفردها سكناً وإسكاناً وغلة واستغلالاً وسبباً في وجوه الانتفاعات الشرعية الوقفية، ثم من بعدها يكون وقفاً على خيرات ومَبرات يجريها الناظر عليها من غلته على سبيل الدوام على الوجه الآتي ذكره:
«وهو أن يشتري من غلته في كل عيد أضحي من كل سنة أربع رؤوس من الضأن ويذبحها ويتصدق بها على الفقراء والمساكين صدقة عن الواقفة المذكورة المصونة منيرة وأمها المرحومة لوّلوّة بنت سيف العتيقي الكويتي المذكورة وأبيها المرحوم الشيخ عبدالرحمن بن صالح العتيقي الكويتي المذكور وزوجها المرحوم محمد بن علي بن عبدالرحمن المضايفي.
ويتصدق أيضاً عنها وعن أمها وأبيها وزوجها المذكورين في يوم عاشوراء، وهو يوم العاشر من محرم الحرام من كل عام، على الفقراء والمساكين، بجزء من غلة هذا الوقف بأن يشتري به طعاماً ويطعمه للفقراء، بما يراه مناسباً وكذا يعمل في كل يوم عيد ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي ليلة النصف من شعبان، وفي ليلة الإسراء والمعراج.
وأما في شهر رمضان فيجمع الناظر جماعة من حملة القرآن في كل يوم جمعة، يقرؤون ختمة كاملة ويهدون ثوابها إلى روح الواقفة ووالديها وزوجها المذكورين، يجري ذلك دائماً وأبداً من غلة الوقف المذكور بنظر الناظر عليه في كل وقف بحسبه، فإذا تعذر ذلك صرف ريعه على الفقراء والمساكين يصرفه الناظر عليه.
وشرطت في وقفها هذا شروطاً منها جعلت النظر على وقفها هذا أولاً لنفسها يكون لها بمفردها مدة حياتها لا يشاركها فيه مشارك ولا ينازعها منازع، ثم من بعدها يكون النظر لابن أختها محمد بن عبدالله بن سيف العتيقي الكويتي، ثم من بعده يكون النظر للأرشد فالأرشد من ذريته ونسله ما تناسلوا وتعاقبوا، وإذا انقرضوا كانت النظارة عليه للأرشد فالأرشد من عصبة الواقفة المذكورة وعصبات ابن أختها المذكور. وإذا لم يوجد أحد منهم كانت النظارة عليه للأرشد من ذوي رحم الواقفة المذكورة وذوي رحم ابن أختها المذكور. فإذا تعذر ذلك كان النظر فيه للحاكم الشرعي يقيم عليه ناظراً من قبله من أهل الديانة والأمانة يقوم بمصالحه ولوازمه…».
ويتضح من حجة الوقف المنقول بعضها أعلاه مدى الدقة التي كانت تتمتع بها المرحومة منيرة في ذكر جميع التفاصيل الخاصة بالموقوف، وصفته ومتعلقاته، ووجوه الانتفاع به، حتى لا يبقى أي لُبس في الوصية.
وقد قامت المرحومة منيرة بالنظارة على الوقف المذكور مدة حياتها، ثم من بعدها قام بالأمر عبدالله بن محمد بن عبدالله بن سيف العتيقي حتى توفاه الله تعالى. وتولى من بعده ابنه المرحوم عبداللطيف العتيقي. ويقوم اليوم الدكتور صلاح بن عبداللطيف العتيقي بمتابعة مصالح هذا الوقف. ومن الجدير بالذكر أن مساحة العقار الأصلية كانت 214 متراً مربعاً، تم اقتطاع جزء منه من أجل التنظيم البلدي، وتبقّى منه جزء على شكل مثلث بمساحة 146م2 كما هو موضح.
وقام مسؤول شرعي معين من قبل حكومة الكويت هو المرحوم عبدالله أحمد الزواوي بتسوير الجزء المتبقي لأجل المحافظة على الوقف.
وتقوم اليوم حكومة الكويت بالتعاون مع الجهات المختصة في المملكة العربية السعودية بالعمل على نقل الوقف إلى مكان أكثر فائدة لأغراضه.
الوقف الذُريّ:
قسم الفقهاء الوقف إلى قسمين: وقف ذُريّ، وهو ما يعود بالنفع على وجه محدد بالذرية، ووقف خيري، وهو ما يصرف على أوجه الخير بصفة عامة، وقد سبق أن أشرنا إلى الوقف الخيري وإلى صوره ونموذج منه.
ولم تشأ المحسنة منيرة رحمها الله أن يقتصر إحسانها وبرها على الوقف الخيري فقط، بل كان لها أيضاً نصيب في الوقف الذري .. فبعد أن أوصت منيرة بوقف عقارها المشار إليه آنفاً، شرعت في إحسان آخر وهو وقف العزلتين الواقعتين شمال العقار الأول على معاتيقها وذرياتهم وعلى أقاربها وذرياتهم.
فقد جاء في وثيقة شرعية صادرة من محاكم مكة المكرمة ومؤرخة في العاشر من رجب سنة 1306 هجرية : «أن منيرة العتيقي أوقفت العزلتين المذكورتين بما فيهما من أبنية ومرافق، على معاتيقها وذرياتهم الذكور والإناث، فإذا انقطعوا ولم يبق منهم أحد يوقف العقار على ابن أخيها محمد بن عبدالله بن سيف العتيقي، ومن بعده على ورثته. وجعلت الناظر عليها أحد معاتيقها، ثم من بعده علي ابن أختها المذكور وخلفائه».
ويدل هذا الوقف الذري على الحس الخيري الرفيع، وإرادة الإحسان العظيمة لدى الواقفة رحمها الله تعالى.
رعاية الحجاج وضيافتهم
لقد أتاحت إقامة المرحومة منيرة بمكة المكرمة لها فرصة ذهبية لخدمة ضيوف الرحمن، ولبت لديها رغبة شديدة في نيل هذا الشرف العظيم، بإسعاد ضيوف حرم الله الأمين، فقد كانت المرحومة منيرة كريمة مضيافة بطبيعتها، ولذا سخرت ديوانها وما يتبعه من مرافق لخدمة الزوار والحجاج. وذلك عملاً بقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ قَالَهَا ثَلاثًا، قَالَ: وَمَا كَرَامَةُ الضَّيْفِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ فَمَا جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ» رواه أحمد في مسنده.
عتق الرقاب: عتق الرقاب عمل خيري جليل، جعله الله وسيلة لاقتحام عقبة يوم القيامة وتخطيها ، قال تعالى: «فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)» سورة البلد.
ورضي الله عن سيدنا أبو بكر الصديق الذي كان يشتري العبيد ويعتق رقابهم ابتغاء مرضاة الله تعالى .. وقد كان لدى منيرة عدد من المماليك فقامت بعتقهم ابتغاء وجه الله تعالى، ليس ذلك فحسب بل إنها قد أحسنت إليهم بالعطايا والوصايا، وأوقفت عليهم العزلتين المذكورتين في البند ثانياً أعلاه. وذلك اتباعاً لآيات القرآن الكريم وتأسياً بأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
رعاية حملة القرآن الكريم
أهل القرآن الكريم هم أهل الله وخاصته كما أخبر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن أحب القرآن وأهله فقد أحب الله ومن أكرمهم فقد أكرم الله تعالى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ قَالَ أَهْلُ الْقُرْآنِ» أخرجه الدارمي في سننه. ولما كانت المحسنة منيرة العتيقي سباقة للخير أياً كانت وجهته، فقد حرصت رحمها الله على كتاب الله وقامت برعاية حفظة القرآن وخصصت لهم حصة في وقفها المشار إليه وحثتهم على قراءة القرآن وختمه في شهر رمضان في كل جمعة.
ويتضح من وصية منيرة في حجة الوقف اهتمامها بحفظة القرآن الكريم وتشجيعها لهم بأن جعلت الختمة في شهر رمضان أحد أوجه الإنفاق الخيري لغلة عقارها موضوع الوقف ويتضح من ذلك مدى حبها لكتاب الله تعالى واحتفائها به.
كانت المرحومة منيرة العتيقي عطوفة على الفقراء والمساكين حريصة على التصدق والإطعام وجعلت لهم حصة وشرطاً في وقفها المشار إليه أعلاه، فكانت تقوم بضيافة الحجاج والزوار من أقاربها الذين يأتون من الكويت فينزلون في عزلة مخصصة لذلك.
وتذكر مصادر الأسرة أن بعض أفراد أسرة العتيقي كانوا ينزلون بضيافتها وضيافة أصهارها من أشراف مكة أثناء قيامهم بالحج والزيارة، فيلقون في رحابها كل إكرام، وتفاني في خدمتهم.
وفاتها
عاشت المحسنة منيرة العتيقي رحمها الله قرابة 74 عاماً، تقلبت فيها بين أوجه الخير المتعددة، ما بين الوقف الخيري وإكرام الحجاج وعتق الرقاب ورعاية حملة القرآن ... وبعد ذلك استجابت لنداء ربها تعالى: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)» سورة الفجر.
وقد توفيت منيرة العتيقي سنة 1326 هجرية تقريباً، وقدرت ثروتها عند وفاتها بمئات الجنيهات الإفرنجية، بالإضافة إلى بيوتها الموقوفة والبيت المجاور لها، الذي ورثته عن والدتها المرحومة لولوة.
رحمها الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنها فسيح جناته، وجعل أعمالها في ميزان حسناتها.