معهد المنشاوي
بمعهد المنشاوي بطنطا عرف الطالب محمود علي البنا واشتهر بين الطلاب بجمال صوته وحسن مظهره وقوة أدائه. مما جعل كل مشايخ المعهد يحبون الإستماع إليه وكذلك الطلاب. يقول الشيخ البنا : وكان الشيخ حسين معوض رحمه الله شديداً في معاملته مع الطلاب .. فلما تكاسلت يوماً عن القراءة هددني الشيخ حسين بالجريدة التي يمسكها بيده .. فجلست وأمامي جمع غفير من الطلاب ولكنني فوجئت بأنهم ينصرفون مسرعين كل إلى فصله ولم يتبق إلا أنا فقال لي الشيخ حسين : لا تخف استمر في القراءة .. وفي آخر السنة قال لي الشيخ حسين والشيخ محرز رحمهما الله : يا محمود إذهب إلى المعهد الأحمدي بطنطا وتعلم القراءات حتى تكون صييتاً لك شهرتك لتدخل الإذاعة لأنك صاحب موهبة فذة قلما تتوفر لأحد غيرك .. ذهبت إلى المعهد الأحمدي بطنطا وتعلمت القراءات على يد المحروم الشيخ محمد سلاّم الذي كان حريصاً على انتقاء من يلتحق بمعهد القراءات فيعقد له اختباراً في الحفظ وتجويد الحروف وسلامة النطق ومعرفة مخارج الألفاظ والدقة في الأداء القرآني وحسن المظهر فإذا توافرت كل هذه الشروط في المتقدم إلى المعهد الأحمدي قبله الشيخ سلام .. وأما الذي يكون دون ذلك فليس له مكان بالمعهد الأحمدي للقراءات آنذاك ..
مكث الشيخ البنا عامين كاملين بالمسجد الأحمدي بطنطا يتلقى علوم القرآن وا لقراءات العشر تتلمذاًَ على يد المحروم الشيخ محمد سلام ولما بلغ الشيخ البنا الثامنة عشرة انتقل إلى القاهرة بلد العلم والعلماء حيث الأزهر الشريف قبلة الراغبين في المزيد من العلوم والمعارف .. وذلك بعد أن أصبح مثقلاً بالقرآن وعلومه ومتمكنا من تجويده وتلاوته متمتعاً بما وهبه الله من إمكانات عالية وقبول من كل الناس لطريقة أدائه الساحرة التي أهلته لأن يفكر في غزو القاهرة باحثاً عن مجد عزيز وشهرة واسعة.
أول تلاوة للشيخ البنا بالإذاعة
وكانت أول تلاوة للشيخ البنا بالإذاعة في آخر ديسمبر عام 1948م وكان سنه 22 سنة. وكانت القراءة على الهواء مباشرة قبل التسجيلات. وكانت التلاوة من سورة هود )) من قوله تعالى : { وإلى ثمود أخاهم صالحاً } إلى قوله تعالى : { وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } . يقول الشيخ البنا : بعد اعتمادي بالإذاعة قارئاً للقرآن الكريم جاءني خطاب من الشئون الدينية بالتوجه إلى استوديو علوي أمام الشريفين مبنى الإذاعة القديم لأقرأ قرآن الصباح من السابعة إلى السابعة والنصف صباحاً وتم تحديد أول الربع الذي سأقرأه من سورة هود .. ولأن ميكرفون الإذاعة له احترامه وتقديره وقدسيته ولأنني سأقرأ بالإذاعة بجوار عمالقة ا لقراء الموهوبين كان من الطبيعي أن أعلن على نفسي حالة الطوارىء أولاًَ راجعت الربع المقرر عليّ أكثر من عشر مرات وقرأته مع مراعاة الوقف والابتداء والتنغيم والأحكام المتقنة الملتزمة كما تعلمنا من أساتذتنا ثانياً سمعت القارىء الذي قرأ يوم الإثنين قبل قراءتي مباشرة فوجدته بالفعل قرأ ربع { وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها } وعلي أن أبد بعده مباشرة . توجهت إلى الإذاعة قبل الموعد بنصف ساعة لأنني لم أنم تلك الليلة .. جلست طوال الليل أنا والحاجة جالسين وضابطين المنبه وكل ساعة تقول لي الحاجة : نم يا شيخ محمود وأنا أصحيك فقلت لها ما أنا خايف ننام أنا وأنت للساعة 8 الصبح والقراءة الساعة 7 وقبل الفجر بساعة توضأت وصليت وشربت الشاي ونزلت إلى الشارع وأخذت تاكسي ووصلت إلى الشريفين , وصعدت السلم وكأن ارتفاعه عشرة أدوار من شدة خوفي ورهبة الموقف .. ودخلت ملحق الأستوديو فسمعت رجلاً يقول ثني ومد وخلف وأمام فعرفت أنه برنامج الرياضة الصباحي , وكان على الهواء كبقية المواد الإذاعية قبل التسجيلات كما ذكرنا .. فجلست في ركن المذيعة صفية المهندس ومعها البرنامج مكتوب عليه . نستمع إلى القارىء الشيخ محمد علي البنا الذي سنسمعه لأول مرة بعد اعتماده قارئاً بالإذاعة وكلما اقترب موعد التلاوة الصوت يهرب مني وأخاف أكثر . وقدمتني السيدة المذيعة فقفلت الصوت وقلت لها أنا صوتي بيقطع فقالت صوتك طالع على الهواء جميل جداً .. وأنا ما صدقت أنها تقول لي صوتك جميل على الهواء وطلعت بجواب عالي رد إليّ ثقتي بنفسي وبفضل الله انطلقت بقوة وبتوفيق من الله .. حتى ختمت الربع في السابعة والنصف
المساجد الكبرى :
بعد التحاقه بالإذاعة واكتساب شهرة عريضة امتدت عبر الزمان والمكان إلى جميع أقطار الدنيا – كانت له مكانة مرموقة بين القراء , وفي قلوب الناس جميعاً .. أختير لكفاءته وحسن مظهره الملائكي لأن يكون قارئاً لأكبر وأشهر وأهم المساجد بجمهورية مصر العربية وخاصة المساجد التي يزورها وفود إسلامية من مختلف دول العالم . قرأ السورة يوم الجمعة لمدة خمس سنوات في الخمسينات بمسجد الملك فاروق بحدائق القبة بالقاهرة .. بعدها انتقل قارئاً للسورة بمسجد الإمام أحمد الرفاعي بحي القلعة بالقاهرة لمدة خمس سنوات .. وخلال هذه الفترة انتقل وراءه مئات من جمهوره المتيم بأدائه وصوته إلى مسجد الإمام الرفاعي .. وبعد ذلك أختير لأن يقرأ السورة بمسجد العارف بالله السيد أحمد البدوي بمدينة طنطا وظل به متمتعاً بتلاوة كتاب الله ما يقرب من ثلاثة وعشرين عاماً متواصلة. وفي عام 1980م بعد وفاة الشيخ الحصري انتقل الشيخ البنا إلى القاهرة مرة ثانية ليكون قارئاً للسورة بمسجد الإمام الحسين حفيد الرسول (ص) ليختم حياته تالياً لكتاب الله عز وجل في روضة بضعة الرسول (ص) حتى فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها عام 1985م.
دول العالم
إن رحلة الشيخ مع القرآن كانت رحلة عالمية لا يحدها زمان ولا مكان . ظل متردداً على أماكن المسلمين في شتى بقاع الدنيا على مدى ما يقرب من أربعين عاماً متتالية ولم يترك قارة من قارات الدنيا إلا وذهب إليها على مدار الأعوام وخاصة في شهر رمضان المبارك الذي طالما أسعد الملايين من الجاليات المسلمة بسماع صوته القرآن البريء العذب الفياض , فرقت عشرات القلوب التي كانت كالحجارة أو اشد قسوة .. ودخلت دين الله أفواجاً مسبحين بحمد ربهم مستغفرينه فكان لهم غفوراً تواباً .. اختاره الأزهر الشريف لحضور كثير من المؤتمرات الإسلامية العالمية ممثلاً أهل القرآن وقراءه وأرسلته وزارة الأوقاف إلى كثير من المسابقات العالمية كمحكم وقاض قرآني .. وانهالت عليه الدعوات من الملوك والرؤساء والشيوخ العرب لإحياء المناسبات الدينية كالمولد النبوي الشريف وليلة الإسراء والمعراج وليلة رأس السنة الهجرية وافتتاح المؤتمرات الإسلامية العالمية المقامة على أرض بلادهم .. إنه حقا كان خير سفير للقرآن الكريم .
الوفاة :
فراسة المؤمن .. كانت لدى الشيخ البنا منذ طفولته واستمرت حتى وفاته .. حيث تنبأ بوفاة رجل يسمى الجمل بقريته شبرا باص وهو طفل صغير ظل يردد الجمل وقع الجمل وقع وبعد ساعات مات الرجل بغير مرض . وطلبه للشيخ الشعراوي ليودعه وهو على فراش المرض وتنبؤه بأن الشيخ الشعراوي عاد من البحر الأحمر ولما اتصل الحاضرون بالإمام وجدوه قد وصل منذ لحظات . وقبل الوفاة بأيام استدعى ابنه أحمد وطلب منه إحضار ورقة وقلم وقال له : أكتب ما أمليه عليك .. وأملى عليه نعيه كفقيد للإذاعات العربية والإسلامية .. عن عمر يناهز الستين عاماً . فقاطعه نجله أحمد مداعباً .. ولماذا لا نكتبها ثمانين عاماً ؟ فقال له الشيخ البنا : لا يبني لقد توقف العمر وقرب الأجل وانتهى . وأضاف وصية بتوزيع ممتلكاته وأمواله على أبنائه حسب شريعة الله وسألهم هل لكم طلبات أخرى فانخرط الجميع في البكاء ولكنه هو الذي طلب منهم أن يضعوا معه شريط قرآن ليصاحبه في جنازته ويؤنس وحدته في قبره فلم يسع أحد أن يرد عليه . نظره إلى سقف حجرته بالمستشفى وهو يصف جنازته من أول الصلاة عليه بمسجد الإمام الحسين (ع) حيث كان يقرأ كل يوم جمعه إنتهاء بوصوله إلى مدفنه بالمقبرة التي بناها في حياته بجوار المركز الإسلامي الذي أقامه بقريته شبرا باص .. وكيف تشيع الجنازة وأشار إلى مكان أخيه وهو يبكيه في ناحية والناس يبكون في ناحية وحدث المنظر كاملاً في اليوم التالي كما صوره الشيخ البنا الذي فاضت روحه ودفن بمسجده وعاد إلى قريته شبرا باص كما خلق على أ رضها أول مرة .
تكريم الدولة للشيخ البنا :
قامت الدولة بتكريم الشيخ البنا بعد وفاته حيث منح اسم الشيخ البنا وسام العلوم والفنون عام 1990 في الإحتفال بليلية القدر وتسلمه نجله الأكبر المهندس شفيق محمود علي البنا .. وكرمته محافظة سوهاج بإطلاق اسمه على الشارع الرئيسي بجوار المسجد الأحمدي بمدينة طنطا , كذلك أطلقت محافظة القاهرة اسمه على أحد شوارع حي مصر الجديدة .. وهكذا يكون تكريم أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.