الشيخ الدكتور خالد بن عثمان بن علي السبت وُلد عام 1384هـ (1964م) في مدينة الدمام، المملكة العربية السعودية. حصل على درجة البكالوريوس في أصول الدين من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1405هـ (1984م)، ثم نال درجة الماجستير في التفسير وعلوم القرآن من كلية القرآن بالجامعة الإسلامية عام 1412هـ (1991م) عن بحثه “دراسة تقويمية لكتاب مناهل العرفان للزرقاني”. وفي عام 1416هـ (1995م)، حصل على درجة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن من نفس الكلية بأطروحته “قواعد التفسير جمعًا ودراسة» .
يعمل الدكتور خالد السبت حاليًا أستاذًا مشاركًا في كلية التربية (قسم الدراسات القرآنية) بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل في الدمام . له العديد من المؤلفات، أبرزها: “قواعد التفسير” ، “مناهل العرفان (دراسة وتقويم)” ، “العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير” “فقه الرد على المخالف” ، “أعمال القلوب” ، “الخلاصة في تدبر القرآن الكريم” ، “القواعد والأصول وتطبيقات التدبر” ، تحقيق كتاب “نور البصائر والألباب في معرفة الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب” للشيخ السعدي ، تحقيق كتاب “القواعد الحسان” للشيخ السعدي
يواصل أ.د خالد بن عثمان السبت ،شروح بعض الكتب ذات العلم النافع للمسملين، ومن تلك الكتب معاني الأذكار - حصن المسلم- يقول الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36] في هذه الشهور العظيمة نتحدث في بقعة هي من أحب البقاع إلى الله -تبارك وتعالى- وهي المساجد، عن مطلب يُعد من أجل المطالب وأشرفها، وهو الكلام على معاني الأذكار؛ وذلك أن الذكر هو من أجل الأعمال، وأفضلها، وأحبها إلى الله y، فالاشتغال به اشتغال بمطالب جليلة، والتعرف على معانيه يُعد من أشرف العلوم وأفضلها.
وطلاب العلم يستشرحون كلام المصنفين من العلماء وهم بشر يصيبون ويخطئون، ويحصل لهم من السهو والغلط ما لا ينفك منه البشر، وهذا كلام الله وكلام رسوله &o5018; الذي فيه جوامع الكلم، وهو الحق والهدى والصواب الذي متى ما ثبت فإنه لا يتطرق إليه خطل ولا خلل ولا غلط، وإنما هو الهدى بحذافيره.
فالاشتغال بهذا يبصرنا بمعاني هذه الأذكار الجليلة العظيمة التي نرددها صباح مساء، وفي صلاتنا، وفي تحولنا وتنقلنا، ولكننا في كثير من الأحيان نقولها من غير حضور القلب، كما أننا نرددها في أحيان كثيرة، ونحن لا نتفطن لما في مضامينها من المعاني العميقة، والدلالات العظيمة، بل لربما يصدر من الواحد منا ما يقتضي خلاف ما يردده، وهذا شيء مشاهد تجد الرجل لربما يركب الطائرة، أو يركب السيارة وهو يسافر إلى بلاد لا يحل له السفر إليها، أو إلى مقاصد لا يجوز له أن يقصدها من الأمور المحرمة، ثم هو يقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى[1].
ولربما وضع في أذنيه سماعة يسمع الأغاني والمعازف، وهو يردد بلسانه هذا الدعاء، وهذا الذكر الذي يقال في السفر، بل لربما يُذكر في بعض الطائرات، ويعقبه من أصوات المعازف أو يسبقه ما يدل على استخفاف واستهتار وجهل بالغ، وغفلة عظيمة عن مضامين هذا الذكر الذي يردد على مسامع الناس، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، وأي عمل ذاك الذي يرضاه على هذه الحال التي يكون عليها هذا المسافر الذي سافر ليعصي الله -تبارك وتعالى-؟! هذه غفلة.
- لا يعدل الذكر شيء من الأعمال الصالحة فصاحبه يكون سابقًا لغيره من المحسنين
- من ترك الذكر لازمه الشيطان ملازمة الظل فيناله الهم والغم دون سبب
فإن ذكر الله -تبارك وتعالى- يكون سببًا لمعية الله للعبد، وهذه كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: “لو لم يكن في الذكر إلا هذه لكفى به شرفًا”[1]، لكفى به فضلاً أن يكون الله معك، ومن كان الله -تبارك وتعالى- معه فماذا فقد؟ ومن كان الله -تبارك وتعالى- معه من أي شيء يخاف؟ وما الذي يقلقه؟ وما الذي يزعجه؟! وما الذي يحزنه؟! كما صح عن النبي &o5018;: أنا عند ظن عبدي بي، حسن الظن بالله -تبارك وتعالى-، ما يظن العبد بربه: أنا عند ظني عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرًا منهم، وإن تقرب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة[2]. والشاهد هنا: وأنا معه إذا ذكرني، فهذا حكم وهو معية الله u للعبد معلق على شرط إذا ذكرني، والحكم المعلق على شرط يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فيكون المحصل من ذلك أنه على قدر ذكر العبد لربه يكون له من معية الله u ومن كلاءته وحفظه ورعايته، فإن المعية هنا المقصود بها المعية الخاصة، وهذا الذكر بحسبه، إذا ذكرناه في أنفسنا ذكرنا في نفسه، وإذا ذكرناه في ملأ ذكرنا في ملأ أفضل من هذا الملأ الذي ذكرناه فيه، يذكرنا في الملأ الأعلى، وفي الحديث القدسي: يا ابن آدم إذا ذكرتني خاليًا ذكرتك خاليًا، -وهذا معنى ذكرته في نفسي-، وإذا ذكرتني في ملأ، ذكرتك في ملأ خير من الذين ذكرتني فيهم[3].
فهذا أمر في غاية الشرف والأهمية، أن يذكر الله العبد: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وأن يكون الله -تبارك وتعالى- معه فهذان أمران الإنسان حينما يذكره أحد من أهل الدنيا من أهل المنزلة والشرف والجاه فيقال ذكرك فلان، فلان يذكرك في مجلسه، لمجرد الذكر ما فعل فلان؟ فكيف حينما يثني عليه ويطريه؟
فالإنسان لربما يسر بذلك ويبتهج ويفرح، أين هذا من ذكر الله -تبارك وتعالى- للعبد؟!
الله يذكره، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، فهذه من أعظم فوائد الذكر، ومن أجل عوائده مع ما يحصل من معية الله -تبارك وتعالى-، فالله يقول: أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه، مع عبدي تحركت بي شفتاه، لأن الذكر الذي يكون ذكرًا باللسان الذي يجزئ في القراءة والصلاة وما يقال في طرفي النهار، أو في أدبار الصلوات، أو عند نزول المنزل أو نحو ذلك لا بدّ فيه من حركة اللسان مع الشفتين، ولو كان سرًّا لكنه يجري هكذا في الهواء.
أما الذكر الصامت الذي لا يتحرك معه اللسان، فليس بذكر يعتبر شرعًا في الصلاة وفي الأوقات التي شُرع فيها الذكر، لا يجزئ، فهذه المعية حينما يقول الله تعالى في هذه الحديث القدسي: أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه، هذه هي المعية الخاصة التي تكون مع أوليائه التي تكون مع أهل الإيمان، وهي بخلاف المعية العامة التي تكون بالعلم والإحاطة، فالله -تبارك وتعالى- قد أحاط بكل شيء علمًا، فعلمه محيط بخلقه أما هذه فهي معية بالقرب والولاية والمحبة والنصرة والتوفيق، كقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وكقوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] فمن كان الله معه فلا يتطرق إليه الحزن؛ لأن الله يحميه، وينصره، ويحفظه، وينتقم له، ويكلؤه ويرعاه.
وقال الله -تبارك وتعالى- لموسى وهارون -عليهما السلام-: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:43]، لما أبديا له المخاوف من فرعون إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، النبي &o5018; قال لأبي بكر[4]: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، فاندفع الحزن، وهنا مع موسى وهارون -عليهما السلام-: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وإنما عامة ما يزعج الإنسان ويقلقه ويقض مضاجعه: الحزن والخوف؛ إما أن ينعصر قلبه لأمور مضت في مكاره قد وقعت، أو أن ينعصر قلبه لأمور يترقبها ويتخوفها في المستقبل، فهنا نفى الحزن ونفى الخوف، فإذا ذهب الحزن والخوف بقي الإنسان في غاية الطمأنينة والراحة، فصار في نعيم فلا تنتابه المخاوف لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: “للذاكر من هذه المعية نصيب وافر؛ لأن الله مع عبده إذا ذكره وتحركت به شفتاه»[5].
فهذه المعية التي تحصل للذاكر معية لا يشبهها شيء كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-، بل يقول: “إنها أخص من المعية الحاصلة للمحسن والمتقي”[6]، وذلك لما ذكرنا من قبل من أن الذكر يكون مما لا يعدله شيء من الأعمال الصالحة، كما أن صاحبه يكون سابقًا لغيره من المحسنين، أفضل من المجاهدين، أفضل من الصائمين، أفضل من القائمين، ولا يخفى أن المكثر من هذا الذكر أن ذكره هذا كما أشرنا يسوقه إلى كل بر ومعروف وفضيلة ويحجزه عن كل الرذائل كما سيأتي.
فهذه معية لأهل الذكر، فمن أراد أن يكون الله معه فليكثر من ذكره، أن يكثر ذكره بقلبه ولسانه وجوارحه، أن يلهج بهذا الذكر، أن يكون لسانه رطبًا من ذكر الله -تبارك وتعالى-، وهذه النتائج متتابعة متعاقبة بعضها آخذ بحجز بعض فهذا يحصل مع إحراز هذا العبد من الشيطان، يكون محميًا عليه حصن حصين من الشيطان، وما أحوجنا إلى ذلك -أيها الأحبة-، الشيطان كما قال الله u: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6] منذ أن وقعت العداوة مع أبينا آدم u عمل كل ما استطاع حتى أغواه بالأكل من الشجرة، ثم أخرجه من الجنة، ثم بعد ذلك هو يتوعد ذريته فيقول: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:62]، يأخذهم من الحنك، يتوعد هؤلاء الذرية بالإغواء والإضلال، بأن يرديهم، فهو يسعى لإيقاعهم في الكفر، من أجل أن يحصل لهم التعاسة الكاملة في الدنيا والآخرة، فإذا ما استطاع اجتهد في إيقاعهم في الضلالات والأهواء والبدع، فإذا ما استطاع فبالكبائر، فإذا ما استطاع فبالصغائر، فإذا ما استطاع فإنه يقلقهم ويزعجهم بالخواطر السيئة، فيجلب عليهم بخيله ورجله، فيلقي في قلوبهم المخاوف، والأفكار، والخواطر المزعجة، فيبقى هؤلاء الناس يدورون في فلك من الأوهام، يتخوفون من أشياء لا يدرون ما هي أحيانًا.
وأحيانًا يخوفهم من أمور مدركة ولكن لم يحصل لهم شيء من ذلك، يخوفهم من الموت أنه قد نزل بهم، يخوفهم من أمراض خطيرة لم تقع لهم، يخوفهم من مكاره لأهليهم لأولادهم لأزواجهم، يخوفهم من أوليائه، وجنده وحزبه، كما قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] لما قيل لأهل الإيمان: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] الناس هؤلاء هم حزب الشيطان فاخشوهم، فأهل الإيمان الذين هم أولياء الله لم يحصل لهم هذا الخوف؛ لأن الله يحوطهم، ولأن هذه المخاوف التي يلقيها الشيطان لا تصل إلى قلوب الكُمل من المؤمنين: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
فالله -تبارك وتعالى- يصف هذه المخاوف والأقاويل والأراجيف لأهل الإيمان: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175]، معنى يخوف أولياءه يعني: أنه يخوفكم منهم، يضخمهم ويعظمهم ويضع لهم هالة وقوة وتعاظمًا في النفوس، فيخافهم ضعاف الإيمان ويحسبون لهم حسابًا أعظم مما يحسبون لعذاب الله، وعقابه وسخطه إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ، يخوفكم أولياءه، يضخمهم، فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، هؤلاء ليسوا بشيء أمام عظمة الله u وجبروته وقهره.
فهذا الذكر يكون حرزًا لنا من الشيطان، كم سمعنا كم رأينا من أناس يشعرون بحزن، يشعرون بضيق، يشعرون بكآبة يشعرون بضيق الصدر ولا يعرفون ما السبب؟
هذا من الشيطان، كم من أناس يتوقعون المكروه وأنه أقرب إلى الواحد منهم من اليد للفم؟
وذلك من الشيطان، كم من أناس يظنون أن العلل الخفيفة التي تقع للواحد منهم، بل ما يتوهمون من العلل أنها بلية ومصيبة كبرى، فتجد الإنسان لربما طريح الفراش، قد أخذ منه هذا الأمر ما قرب وما بعد، كل هذا بناء على توهم نظر إلى جانب في وجهه أو في يده أو في رجله قد تغير لونه، أو إلى بثور أو إلى حبوب أو أشياء يسيرة عادية تظهر لكل الناس، وصار الشيطان يلقي في قلبه المخاوف، وخذوها فائدة وقاعدة: الشيطان إذا فتحت له نافذة بقدر هذه ألقى إليك كل المخاوف من هذه النافذة بدأ يلقي عليك ويجمع ويلقي في قلبك الخواطر، ثم يرسل إليك من يلقي على لسانه، وجهك يدل على أنه قد وقع بك بأس، وجهك يدل على أنك مصاب بمس، صوتك يدل على أنك مصاب بعين، تثاؤبك يدل على أنك مصاب بكذا، ثم مع تلك يأخذه ما قرب وما بعد، ثم يذهب ويقرأ في الانترنت عن هذا الشيء، وعن علاماته فيتقمص هذه العلامات فيسقط ويصرع وينتفض، ويتلبط وليس به علة، وقد يبقى يتردد من راق إلى راق إلى راق إلى راق لا يهنأ بطعام ولا شراب، ولا يأنس مع الناس، تلاحقه علله وأوصابه وذلك من الشيطان، ما به بأس، فكلما رآه في حال من الطاعة والعبادة والقرب إلى الله u جاءه فنغص عليه عيشه، فإذا لم يستطيع في اليقظة جاءه في المنام فأراه الرؤى الفاسدة الرؤى السيئة النبي&o5018; قطع الطريق على هذا، أخبر أن هذه الرؤى من الشيطان، وأنها لا تضره انتهى، فلماذا تلاحقك في اليقظة هذه؟ يقوم الإنسان متكدر البال، كسيفًا حزينًا يقلق ينتظر مقتضى هذه الرؤى ويبحث عن المعبرين، لماذا؟!
فالشيطان لا يتركه هو عدو، ولربما جاءه في عبادته فيشوش فكره، يقول له: لم تتوضأ كما ينبغي، لم تكبر تكبيرة الإحرام كما ينبغي، الفاتحة ركن ما قرأتها بحروفها كما ينبغي، فيبدأ يردد ويعيد، ويعيد، ويعيد ولربما بقي ساعات وهو يقطع صلاته مرة بعد مرة حتى يستثقل العبادة ولربما تركها، وهذا الذي يريد الشيطان، وإذا عمل سيئة وأراد أن يتوب جاءه الشيطان وقال له: أنت متلاعب، أنت متلاعب بالتوبة مستخف بمقام الرب، أنت منافق، كيف تفعل هذه الذنوب في السرائر وتظهر أمام الناس في هيئة الصالحين وفي حال من الاستقامة هذا هو النفاق، فلربما صدقه العبد، وهذا ليس من النفاق، وإنما على العبد أن يتوب، ولو أنه سأله وقال: ماذا تريد أن أتوب توبة نصوحًا قال: لا، لا تفهمني خطأ، أنا لا أريد منك أن تتوب التوبة النصوح، أنا أريد منك أن تجاهر بالذنوب والمعاصي والكبائر حتى يستوي الظاهر والباطن، فالتوبة قال: لا ليس هذا هو المراد، وهكذا فمنذ متى كان هذا الشيطان ناصحًا لابن آدم فهو لا يترك أحدًا.
فإذا كان نفسه تميز بشيء من العلم دخل عليه من هذا الباب، إذا فيه شجاعة إذا فيه غيرة دخل عليه من هذا الباب، إذا اشتغل بالقرآن وبقراءته وتلاوته وبحفظه وكان له صوت حسن وصار يصلي بالناس دخل عليه الشيطان وهكذا.
المخاطر والوساوس
إذن نحن لا نحتاج إلى هذا الحرج، كم يعاني كثيرون بسبب هذه المخاوف والخواطر والوساوس التي يلقيها الشيطان في قلوبهم، وذلك أن من خلى الذكر لازمه الشيطان ملازمة الظل كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[7]، والله يقول: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] فالشيطان يسهل عليه التلاعب بمثل هؤلاء الذين قد ضعف ذكرهم لربهم -تبارك وتعالى- صارت نفوسهم جافة، لا يذكرون الله إلا قليلاً، فيستطيع أن يتلاعب بهم، وأن يستولي على عقولهم ونفوسهم إلا ما رحم الله -تبارك وتعالى-.
في حديث أبي موسى t، عن النبي &o5018; الحديث الطويل: أن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وفي الحديث أنه قال: وآمروكم أن تذكروا الله تعالى فإن مثل ذلك كمثل الرجل خرج العدو في أثره سراعًا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله[8]، الشيطان لا يمكن أن يحرز بسلاح مادي لا يمكن أن يحترز من الشيطان بدفع أموال له، لا يمكن أن يحرز بتقوية الأجسام وبنائها بناء قويًّا ماديًّا لا يمكن، فالشيطان لا يفترق عنده أن يكون الإنسان له عضلات قوية أو يكون الإنسان ضعيفًا في بنيته في خلقته نحيلاً مريضًا، به أسقام الدنيا، لا فرق، الفرق هو هذا التحصيل، بهذا الذكر، فلربما الرجل له طول وعرض وقامة وقوة وهو أضعف ما يكون أمام الشيطان.
فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على هذا فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقًا بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله u، وأن لا يزال لهجًا بهذا الذكر في سائر أحواله وأوقاته؛ لأنه لا يمكن أن يحترز من هذا العدو الذي يتوعد ويتهدد إلا بهذا، ولا يمكن أن يدخل عليه هذا العدو إلا من باب الغفلة، إذا غفل دخل فهو يرصده، فإذا غفل وثب عليه وافترسه، كما يقول الحافظ ابن القيم[9].
وإذا ذكر الله -تعالى- انخنس وتصاغر وانقمع حتى يكون كالوصع أو الذباب، كالعصفور الصغير أو الذباب، ينخنس، يتلاشى؛ ولهذا سمي الوسواس الخناس الذي يوسوس في الصدور، فهو يخنس يكف وينقبض ويتصاغر ويتضاءل إذا ذكر الله -تبارك وتعالى-، وقد قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سهى وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس»[10].