بعد عقودٍ طويلة من الخدمة، ترجل السفير جمال مبارك النصافي عن ميدان الدبلوماسية، مقدّمًا استقالته لوزير الخارجية، لينهي مسيرة مهنية ناصعة، حمل فيها اسم الكويت في قلبه قبل حقيبته، وجعل من كل سفارة محطة مشرفة تشهد على حبه للوطن وإخلاصه له، حتى صار اسمه علامة في ذاكرة الدبلوماسية الكويتية.
عرفناك يا بومبارك صديقا نبيلا، رجلا هادئًا، راقيًا، مثقفًا، كريم الخلق، أنيق الحضور، تتعامل بأخلاق الفرسان وتتحرك بثقة الرجال الصادقين. لم تكن مجرد سفير عابر، بل كنت علامة مضيئة في سجل العمل الخارجي الكويتي، وزاملت عمالقة السياسة، وتعلمت منهم، ثم أصبحت أنت من تُعلِّم وتُلهم.
كفيت ووفيت يا بو مبارك..
في إندونيسيا، لقبك الناس بـ “سفير الأيتام”، بعد أن أوليت هذه الفئة العزيزة عنايةً خاصة، وحرصت على تمثيل بلدك خير تمثيل في بلدٍ مسلم له خصوصيته الثقافية والإنسانية.
وفي سنغافورة، حيث كنت سفيرًا غير مقيم، سُجلت لك مواقف بارزة ومفصلية، من أبرزها لقاؤك مع رئيس سنغافورة آنذاك، وإقناعك له بعدم المشاركة في مؤتمر كان يخطط له الرئيس العراقي صدام حسين مع دول جنوب شرق آسيا، بهدف كسب التأييد لغزوه للكويت.
نجحت بحنكتك في إحباط هذا التحرك، ما ساهم في تعزيز الموقف الكويتي في لحظة مصيرية، وكانت تلك لحظة مفصلية، أسهمت في عزل النظام العراقي دبلوماسيًا.
لقد كنت، أيام الغزو، من أصغر الدبلوماسيين، وشاركت بفعالية في الدفاع عن الكويت في المحافل الدولية، سواء في الأمم المتحدة أو في المؤتمرات الدولية، وكنت عنصرًا فاعلًا في فريق وزارة الخارجية الذي خاض معركة التمثيل السياسي بينما الكويت كانت ترزح تحت الاحتلال.
وفي فرنسا، كنت الوجه الثقافي والسياسي للكويت، ومثلتها في مناسبات دولية مرموقة، كما كان لك حضور بارز في معهد العالم العربي بباريس، حيث عملت على تعزيز صورة الكويت الفكرية والحضارية. ثم واصلت العطاء في ألمانيا، ومن بعدها في الإمارات، وكنت دومًا جنديًا مجهولًا، لا تتحدث عن نفسك، بل باسم الكويت فقط.
ولعل من أجمل ما ميّز تجربتك في سنغافورة، يا بومبارك، أنك لم تكتفِ بالتمثيل الدبلوماسي، بل انشغلت بفهم التجربة السنغافورية المتفردة، هذه الدولة الصغيرة التي كانت مستعمرة فقيرة، تعاني من المستنقعات والأمراض، وتضم أعراقًا متباينة من الهنود، والصينيين، والملاويين، والعرب – خاصة الحضارم.
ومع ذلك، نهضت على يد الزعيم الشهير (لي كوان يو) لتصبح من أقوى اقتصادات العالم، بلا فساد يُذكر، لا في الحكومة، ولا في البرلمان.
وقد أثّرت هذه التجربة فيك بعمق، ليس فقط كنموذج إداري ناجح، بل كشعبٍ فقير جاء من خلفيات متعددة – هندية، صينية، عربية، بوذية، مسيحية، إسلامية – ورغم ذلك اندمج الجميع في هوية واحدة اسمها “سنغافورة”.
حين يشعر المواطن بأن حكومته تحميه وتحترمه، يعطيها كل ما يملك، هكذا قلت يا بومبارك، وهكذا آمنت. ولهذا كنت دائمًا تتساءل: “لماذا لا نُطبّق نحن هذا النموذج؟ لماذا لا نصنع وطناً يحبه كل من يعيش فيه؟”
كانت رؤيتك أن الإصلاح يبدأ من وضوح النظام ومحاسبة المسؤول، وأن نزاهة النائب أساس كل بناء. ولهذا كتبت مرارًا عن فساد بعض الحكومات والبرلمانات في عالمنا العربي، مقارنًا إياها بنموذج سنغافورة، حيث يتقاضى النائب هناك أعلى راتب برلماني في العالم – لأنه يُحاسب بصرامة على كل موقف وقرار.
سعيت للإصلاح، ودافعت عن السلك الدبلوماسي، وطالبت بإنصاف زملائك، وقلت الحقيقة في وقتٍ يصعب فيه قولها، وها أنت تنسحب بصمت، دون بيت تملكه، أو أرض تستقر فيها، بعد أن أفنيت عمرك متنقلاً بين العواصم، تمثل بلدك بكرامة وتجتهد في الظل.
للأسف، لا يعرف الكثيرون معاناة السفراء الكويتيين، الذين يتنقلون كل ثلاث أو أربع سنوات، يربّون أبناءهم في الغربة، ويخدمون وطنهم بلا بيت يعودون إليه. لا امتيازات عند العودة، ولا مكافأة تليق برحلة عمر أفنيت فيها شبابك خارج البلاد، مع أن في بعض دول الخليج، يُكرّم السفير عند التقاعد ببيت وأرض ومعاش ثابت يليق بعطائه.
لكن رغم كل شيء، تظل شامخًا، لم تنتظر التقدير، بل كنت تصنعه بيدك في كل محطة، نعلم أنك خرجت لأجل والدتك، وأنت ابن بار، وسفير وفيّ، ورجلٌ يفرض احترامه أينما حل.
حفظك الله يا أبا مبارك، وكتب لك الخير في قادم الأيام، وشفا الله والدتك الغالية |(فاطمة)، وردك إلى أحبابك سالمًا غانمًا.
ولتبقَ الكويت في قلبك كما كانت دومًا، ولتبقَ أنت في قلوبنا.. كما كنت دومًا.
سعود العرفج
رئيس مجلس إدارة مجموعة العرفج القابضة