لم تكن الغرفة الصغيرة مجرد مساحة من أربعة جدران… كانت مسرحًا مكتمل الأركان، يضم على ضيق حجمه كل التاريخ، وكل الأسئلة التي تُرجئها الإدارات عامًا بعد عام، حتى يأتي يوم لا تجد فيه مهربًا من المواجهة. طاولة خشبية متوسطة تتوسط المشهد، وكرسيان ينتظران لاعبين يعرفان أن المباراة هذه المرة ليست للتسجيل… بل للاعتراف. وكان رئيس مجلس الإدارة قد وصل مبكرًا-مبكرًا أكثر مما يفعل عادة-يحمل بين يديه أوراقًا كثيرة يعلم في داخله أنها لن تغيّر شيئًا، لكنه يُصرّ على ترتيبها، كأن ترتيب الورق محاولة لتعديل مسار واقع اهتزّ أكثر من اللازم. كان يقلّب الصفحات بسرعة، ثم يعيدها ببطء… كمن يراجع عمرًا لا اجتماعًا.
 
 
 
دخول ممثل الوزارة
 
 
فتح الباب بهدوء لا تنقصه الهيبة. دخل ممثل الوزارة ممسكًا بملف خفيف، كأنه يحمل الحقيقة مطوية داخل غلاف بلاستيكي. ابتسامة قصيرة حية بما يكفي لتكون لائقة، وغامضة بما يكفي لتربكه. وقف رئيس المجلس احترامًا، لكن الوقوف لم يستطع حجب الارتباك القديم الذي ما انفك يطلّ من بين أهدابه. جلس ممثل الوزارة أولًا، مخالفًا لأغلب المشاهد البروتوكولية. وحين جلس، شعر رئيس المجلس أنّ شيئًا ما قد تغيّر… كأن ترتيب الجلوس إشارة مبكرة بأن زمام الحوار لن يكون في يده. وما إن وضع ممثل الوزارة الملف على الطاولة حتى بدأ بصوت يشبه الطرق الهادئ على باب الحقيقة:
"يا أستاذ… نحن في الوزارة لا نأتي لإحراج أحد، ولا نبحث عن مخالفة نُشهرها. نحن نأتي لنُجيب عن سؤال واحد: هل تقف الجمعية على قدميها… أم على رُكبتيها؟ اليوم حضر ستة من ممثلي الوزارة. ومن خمسين مؤسسًا… لم يحضر إلا من يُقارب هذا الرقم. هذا… يا أستاذ… ليس ظرفًا، ولا مصادفة. هذا مؤشر حوكمة من العيار الذي لا يمكن تجاهله."
ارتباك رئيس مجلس الإدارة، تلعثم، كأنه يبحث عن كلمات تسند الموقف: " نعمل على تحسين التواصل إن شاء الله… هناك ظروف… وهناك ...،" لكن ممثل الوزارة رفع يده بلطف محسوب، قاطعًا الجملة كمن يقصّ خيطًا متعبًا: "دعنا نتفق… أن الظروف ليست سياسة، وأن التبرير ليس إدارة، وأن "إن شاء الله" لا تجمع نصابًا… ولا تبني علاقة مع خمسين عضوًا هم أساس الجمعية. نحن نتحدث عن جمعية يا أستاذ… لا ديوانية تُفتح حين نريد، وتُغلق حين نملّ". كانت الكلمات كصفعة… لكنها صفعة من النوع الذي يُعيد الوعي ولا يهين.
رئيس مجلس الإدارة: تحرّك في كرسيه، ثم قال بصوت أضعف: "نحن نبذل الجهد… "وقبل أن يكمل… وضع ممثل الوزارة الملف على الطاولة. لم يكن صوت ارتطام الملف قويًا… لكن صداه كان أشد من اللازم. وقال: "اسمعني جيدًا. هذا الملف خالٍ من المخالفات… خالٍ من الإنذارات… لكنه مليء بسؤال واحد: كيف تطلبون من الوزارة أن توافق لكم على فتح حسابات جديدة، أو توسعة مشاريع، أو تعزيز صلاحيات… وأنتم غير قادرين على إحضار خمسين عضوًا هم عمود الجمعية؟ الحوكمة ليست ورقة يا أستاذ… الحوكمة علاقة. الحوكمة نصاب. الحوكمة ثقة. والثقة… لا تُمنح لمن يطلبها، بل لمن يبنيها."
ساد صمت كثيف، ليس صمت التفكير… بل صمت الاصطدام بالواقع. وكان رئيس المجلس أول من انكسر داخله ذلك الجدار الرفيع بين الدفاع… والاعتراف.
رئيس مجلس الإدارة (بصوت منخفض): "نحتاج خطة… ونحتاج إعادة بناء العلاقة مع المؤسسين…" حينها تغيّرت نبرة ممثل الوزارة، لا ليضعف، بل ليضع يده على الجرح برفق حازم، يجمع بين الرحمة والصلابة في آن واحد. ثم قال: " أخيرًا… بدأت تتحدث لغة الجمعيات الحقيقية. الوزارة ليست خصمًا… وليست مراقبًا ينتظر الزلة. الوزارة عين المصلحة… ودرع يحمي الجمعية من أن تنهار من الداخل. خذها مني كلمة لا تحتمل التأويل: العلاقة مع المؤسسين… هي أول مؤشر أداء لكم. قبل الأنشطة، قبل الحسابات، قبل اللوائح. انقطاع العلاقة… أخطر من أي مخالفة مالية أو إجرائية."
رفع رئيس المجلس رأسه. لكن هذه المرة لم يرتفع رأسه ليدافع… بل ليفهم، ولأول مرة يلمح في كلمات ممثل الوزارة فرصة… لا محاسبة. ثم قال: " وما المطلوب الآن من وجهة نظركم؟" 
فتح ممثل الوزارة الملف، ثم قال: المطلوب ثلاثة أمور فقط… لكن، كل جمعية سقطت في تاريخ الكويت لأنها تجاهلت أحد هذه الثلاثة:
 
1. التواصل الشخصي: لا رسائل عامة. لا مجموعة واتساب. اتصال مباشر… يعرف فيه المؤسس أن اسمه لا يزال محفوظًا في ذاكرة الجمعية.
 
2. استعادة الرمزية: أن يشعر الأعضاء أن الجمعية بيتهم… وأن حضورهم قيمة لا إجراء. وأن غيابهم جرح… لا رقم على الورق.
 
3. عدم التسطيح: لا نريد تبريرات. ولا شعارات. بل مواجهة الواقع… كما هو. وإصلاح الخلل… من جذره.إذا أصلحتم هذه الثلاثة…ستجدون الوزارة ليست مراقبًا فقط، بل شريكًا يحميكم، ويمدكم بالقوة، ويفتح أمامكم الأبواب التي تتمنونها.
 
هنا… حدث التحول الأكبر، التحول الذي لا يحدث بالصدفة، بل يحدث حين يقرر شخص أن يتوقف عن الدور… ويبدأ في أداء الأمانة. رئيس مجلس الإدارة (بصوت صادق): "أعدك أننا سنبدأ من جديد… من علاقتنا مع المؤسسين… ومن مسؤوليتنا أمام الله، ثم أمامهم…" 
ابتسم ممثل الوزارة… ابتسامة ليست سياسية… بل إنسانية. ثم قال وهو ينهض: " وهذا ما نريده… وهذا ما تريده الجمعية… وهذا ما يليق بتاريخ الكويت… وسمعتها." وتوقف عند الباب. استدار. وألقى الجملة التي بقيت معلقة في الهواء كحكمة لا تحتاج تعليقًا: "الحوكمة ليست ورقة… الحوكمة ضمير. فإن عاد الضمير… عادت الجمعية." ثم خرج.
 
 
 
 رئيس المجلس وحيدًا
 
 
جلس رئيس المجلس وحده… لكن شعوره هذه المرة لم يكن شعور الوحدة. كان شعور من انتهى من العذر… وبدأ في العمل. نظر إلى الطاولة… ثم إلى الكراسي… ثم إلى الباب الذي خرج منه ممثل الوزارة. شعر أن الغرفة نفسها تغيّرت. أن الهواء صار أثقل… لكنه أنقى. وأن الجمعية-التي بدت يومًا مثقلة بالغياب-يمكن أن تُولد من جديد… إن عاد جوهرها: العلاقة. الرمزية. الضمير. ولأول مرة منذ سنوات… شعر أن البداية الحقيقية ليست في خطة أو ورقة… بل في نبرة صدق خرجت من قلبه حين قال: "أمام الله…" ومن هنا… بدأت الجمعية رحلة العودة إلى الحياة. رحلة تبدأ من المؤسسين… وتنتهي في الكويت… التي لا ترضى لجمعياتها إلا أن تكون على قدميها… لا على رُكبتيها.