في قاعة لا يحدّها زمان، ولا تحكمها جغرافيا، اجتمعت قيادتان: الأولى تتّشح بوقار الرؤية، تُسمى “القيادة الرشيدة”. والثانية تتزيّن ببريق المظهر، تُدعى “القيادة الأخرى”. جلسا متقابلتين، كأنما كتب عليهما أن يكونا مرآةً ونقيضًا، ليكشف أحدهما ما يُخفيه الآخر.
بداية المكاشفة
قالت القيادة الأخرى، وهي ترفع رأسها كمن يملك العالم: “نحن صُنعنا لنُبهر. في حضورنا تتوهّج الأضواء، وتصفّق الجماهير، وتُدار الكاميرات. ما حاجتنا إلى العمق إذا كانت الصورة تكفي؟” ابتسمت القيادة الرشيدة ابتسامة لم تكن سخرية ولا استعلاء، بل مزيجًا من شفقة ومعرفة، ثم ردّت: “الأضواء تُبهر لكنها لا تدفئ، والتصفيق صاخب لكنه لا يبني. أنت تملك المشهد، أما أنا فأبحث عن الأثر.”
تدخّل سقراط كأنه خرج من صفحات التاريخ: “اعرف نفسك. الزينة قد تخدعك، أما الجوهر فلا يصدأ.” سكتت القيادة الأخرى لحظة، ثم قالت:“لكن الناس يطلبون السرعة، يلهثون وراء النتيجة. وأنتِ ببطء خطواتك تفقدينهم.” أجابت الرشيدة بثبات “من استعجل الثمرة قبل أوانها أفسدها. ومن أراد المجد بلا صبر، عاش أسير اللحظة ومات في الهامش.”
جوهر القيادة
تقدّم مانديلا بخطواته الهادئة:“القائد ليس من يسير أمام الناس فقط، بل من يجعلهم يسيرون معه حين يختار التراجع إلى الخلف.”قالت الرشيدة:
“القيادة ليست منصة، بل مسؤولية. ليست امتلاك قرار، بل صناعة وعي. ليست أن تقف في القمة وحدك، بل أن تبني سلّمًا يصعد عليه الجميع.”
أجابت الأخرى بلهجة دفاعية: “لكنني أُرضي الجماهير.أعطيهم ما يشتهون، فيتبعونني.”
تذكّر الجميع كلمات ابن خلدون:
“الناس على دين ملوكهم.”ابتسمت الرشيدة وقالت: “الجماهير قد تهتف اليوم، لكنها غدًا تسأل: ماذا تركت لنا؟ التاريخ لا يُصفّق، بل يُحاسب.”
الامتحان الصامت
دخل الصمت كأنه امتحان غير معلن. قالت القيادة الأخرى:“أنتم تتحدثون عن أثر لا يُرى. كيف يُقاس النجاح إذن؟” ردّت الرشيدة:“النجاح الحقّ لا يُقاس بعدد الصور، بل بعدد النفوس التي تغيّرت. لا يُقاس بما في الخزائن، بل بما في الضمائر. النجاح امتحان صامت، لا تعلنه الشاشات، بل تُعلنه الحياة حين تستقيم.” واستشهدت بكلمات الإمام علي رضي الله عنه: “قيمة كل امرئ ما يحسنه.” وأضافت: “القيمة لا تُشترى بالمال، بل تُبنى بالفعل، وتُختبر عند الأزمات.”
قالت الأخرى بحدة: “لكن الأزمة تحرق من يقف فيها.” فأجابتها الرشيدة: “نعم، لكنها تصنع ذهبًا من القلوب، وتكشف الزائف من الأصيل.”
مواجهة المعنى
قالت الرشيدة: “أبني قيادة لا تُعلّم الناس التبعية، بل تصنع فيهم الشجاعة. فحين أقع، ينهضون، وحين أغيب، يستمرون.” سألتها الأخرى بدهشة: “وأين مكانك إذن إن استغنوا عنك؟” ابتسمت الرشيدة بعمق: “مكاني أن أكون الجسر. والجسر لا يُسأل عن نفسه، بل يُذكر بقدر ما أوصل الناس إلى الضفة الأخرى.”
تململت الأخرى وقالت: “لكنني أريد الخلود. أريد أن يُكتب اسمي في كل مكان.” ابتسمت الرشيدة: “الخلود لا يُكتب بالحروف، بل بما يظل في أرواح الناس بعد رحيلك. الأثر الذي تتركه في إنسان واحد قد يكون أوسع من ألف نصب رخامي.”
المصير
سألت القيادة الأخرى بصوت خافت لأول مرة: “وما مصير من يغفل عن هذه الحقيقة؟” أجابتها الرشيدة:
“مصيره أن يعيش مطاردًا باللحظة، متضخمًا بالفراغ، يظن نفسه خالدًا وهو يتلاشى. يعتقد أنه يحكم وهو محكوم، يظن أنه يترك أثرًا وهو لا يترك سوى ظلّ عابر.” قالت الأخرى بارتباك: “وهل لي من أمل؟”
أجابت الرشيدة بنور داخلي في عينيها: “الأمل لا يغيب إلا عمّن يغلق قلبه. غيّر النية، غيّر الوجهة، يصبح كل شيء ممكنًا. القيادة ليست لعنة، بل نعمة إذا وُضعت في يدٍ تعرف أنها مؤتمنة.”
الحكمة الأخيرة
وقف الجميع وكأن المجلس شارف على الانتهاء. تقدّم سقراط من جديد وقال: “الحياة التي لا يُفحص معناها، لا تستحق أن تُعاش.” وأضاف مانديلا: “والقيادة التي لا يُمتحن أثرها، لا تستحق أن تُذكر.” رفعت القيادة الرشيدة يدها كأنها تُسلّم الأمانة إلى الأفق، وقالت:“القيادة ليست ملكًا لمن يجلس على الكرسي، بل لمن يعرف أن الكرسي زائل، وأن ما يبقى هو ما أودعه في نفوس الناس.”أما القيادة الأخرى فقد سكتت طويلاً، وكأنها تسمع لأول مرة. لم تقل شيئًا، لكن في عينيها كان سؤال لم ينطفئ: “هل ما زال هناك وقت لأكون جسرًا، لا مجرد صورة؟”
وبقيت القاعة بلا زمان، شاهدة على أن الحوار بين القيادات ليس ترفًا فكريًا، بل قدرًا تتوقف عليه مصائر الأمم. والتاريخ لا يحفل بالذين مرّوا كالبرق، بل بالذين صنعوا فجرًا لا يغيب. ارتفع صمت القاعة أخيرًا، لكنه لم يكن فراغًا، بل نبضًا حيًّا لكل ما قيل. تلاشى الضوء شيئًا فشيئًا، لكن أثر الكلمات بقي في الهواء، كأن كل حرف أصبح جسرًا لا يزول، وكل فكرة شعلة لا تنطفئ. وهكذا، غادرت القاعة القيادات، لكن صداها ظلّ يعلّم أن من يسعى للحق والعدل والكرامة، يصنع أبدًا أثرًا لا يزول، حتى لو رحل هو عن المشهد.