بينما كانت هناك تظاهرات في الشوارع أمام المستشفى العسكري في «فيتاكورا» من قبل مؤيديه وتظاهرات أخرى لمعارضيه في وسط مدينة سانتياغو، أذاعت وسائل الإعلام نبأ وفاته بعد فشل في عمل القلب وتراكم مياه في الرئتين، إلا أن تلك الوفاة قد جعلته يفلت من محاكمته على الجرائم التي ارتكبها طيلة فترة حكمه.
انقسمت تشيلي في هذا اليوم ما بين حالة من الحزن بين مؤيديه وحالة من الارتياح من قبل معارضيه الذين أرادوا القصاص من أحد أشهر الزعماء الديكتاتورين في العصر الحديث.
هو الزعيم التشيلي أوغستو بينوشيه الذي استخدم سلاح التعذيب خلال سبعة عشر عاما للبطش بكل المعارضين، حتى أن هناك تقارير قد أكدت أنه ما يقرب من ثمانية وعشرين ألف حالة تعذيب خلال عهده.
وبدأ حكمه في عام 1973 بانقلاب عسكري، وانتهى رسميًا في 1990 إلا أن نهايته الفعلية كانت في استفتاء 1988 الذي كتب في الشعب والمعارضة بأسطر من ذهب نهاية الحاكم الديكتاتور في 15 دقيقة.
واندلعت حوادث عنيفة بالعاصمة سانتياغو مساء يوم وفاة الدكتاتور التشيلي بين متظاهرين كانوا يحتفلون بوفاة بينوشيه، وبين الشرطة بالقرب من قصر لامونيدا الرئاسي، وحاولت الشرطة صد المتظاهرين، مستخدمة خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع لصد المتظاهرين الذين ردوا برمي الحجارة والزجاجات الفارغة.
وتم الإعلان في صباح 3 ديسمبر 2006 أن أوغستو بينوشيه تعرض لنوبة قلبية حادة، وحدث ذلك بعد أيام من وضعه رهن الإقامة الجبرية وهو ما دفع محكمة الاستئناف في تشيلي في اليوم التالي لإصدار قرار برفع الإقامة الجبرية، في 10 ديسمبر 2006، وتم أخذ بينوشه إلى وحدة العناية المركزة، إلا أنه قد توفى محاطا بأفراد عائلته.
وكأي نظام عسكري، كانت أزمة بيونشيه مع الشعب التشيلي في الممارسات القمعية الذي يراها هي الحل الوحيد لإسكات صوت المعارضة، وأن أي وجود للمعارضة سيهدد بقائه.
بداية النهاية
رحل بيونشيه عن السلطة بعد صراع سياسي مرير، واضطرابات وسلسلة اغتيالات طالت المعارضة التشيلية، التي بدأت تحركاتها في عام 1983 مع تنظيم الإضرابات والعصيانات المدنية، التي أثارت ردود فعل عنيفة من قبل الحكومة التشيلية.
في سبتمبر عام 1986، أقدمت المعارضة على محاولة فاشلة لاغتيال بينوشيه قامت بها جبهة مانويل رودريغز الوطنية، ورغم نجاة بينوشيه إلا أنه أصيب بجروح طفيفة، وقتل خمسة من حراسه الشخصيين العسكريين، وتوعد الديكتاتور معارضيه بتصريح قال فيه: «نبقي عيوننا مفتوحة على بعض السادة.»
وكان ردة فعل بونشيه عنيفة للغاية وبدأ بسحق المعارضة بصورة وحشية وتوالت الاعتقالات وتلت محاولة اغتياله الفاشلة اغتيالات لمعارضي الديكتاتور.
ولم تقتصر جرائم بيونشيه على الفترة التي أعقبت مرحلة الانقلاب عندما حول ملاعب تشيلي إلى سلخانات ضمت آلاف المعتقلين ومئات القتلى، ولكن سنوات حكمه شهدت ظاهرة الاختفاء القسري للآلاف من المعارضين وسقوط مئات القتلى وهروب الآلاف لبلاد أخرى خوفـًا على حياتهم.
ذروة الجرائم
لكن جرائمه بلغت ذروتها حينما أعُدم خوسيه مانويل بارادا، ومانويل غويريرو، وسانتياغو ناتيني من قبل الكارابينيروس «الشرطة العسكرية» وهو ما دفع الجنرال ميندوزا في سنة 1985 بالتزامن مع تصاعد الغضب العمالي والنقابي من قرارات بينوشيه الاقتصادية التي وصفت بالرأسمالية المتوحشة إلى للاستقالة من منصبه.
وطبقاً لدستور 1980 الانتقالي، والذي صوت له 75 في المئة من الناخبين، نُظم استفتاء غير اعتيادي، وغير ديموقراطي لصالح بينوشيه كمرشح أوحد، غير أن المحكمة العُليا حكمت ببطلانه.
ونظمت عملية انتخابات جديدة نزيهة أكثر عدالة، وحددت أوقات الإعلانات التلفزيونية، المجانية والمشروطة بوقت وقواعد معينة، واستنادا لحكم المحكمة نشرت المعارضة بقيادة ريكاردو لاغوس إعلانات تحرض الناس على رفض بينوشيه.
ووجد بينوشيه نفسه مُطالباً بالإجابة عن أسئلة تتعلق بأسباب الكوارث والإخفاقات الأمنية وانتهاكات كبيرة حدثت خلال فترة حكمه تتعلق بالذين اختفوا، قُتلوا، أو عُذبوا.
فوز «لا»
وعندما فشل بيونشيه في إقناع الشعب بإجاباته، فاز المطالبون بـ (لا) التصويت بنسبة 55 في المئة مقابل 42 في المئة قالوا (نعم)، وبناء على نتائج الاستفتاء كان على بينوشيه أن يرحل عن السلطة، وحكمت المحكمة العليا بانتخابات الكونغرس في العام التالي، وتلتها الانتخابات الرئاسية العامة التي فاز بها باتريسيو إيلوين، وفي الحادي عشر من مارس 1990 ترك بينوشيه رئاسة الدولة.
وتحولت الولايات المتحدة أحد أبرز الداعمين لحكم بيونشيه في تشيلي بعدما قطع العلاقات مع كوبا والاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية تأكيدا للمصالح التي تربطه بواشنطن، إلى أكبر الداعمين إلى رحيله بل ووصفته بديكتاتور العصر الحديث وطالبت بالحرية للشعب التشيلي.
واحتفظ بينوشيه بمنصبه كقائد للجيش، بناء على نصوص دستور 1980 الانتقالي، وأقسم اليمين كشيخ في الكونجرس وهو امتياز يمنح لجميع رؤساء تشيلي السابقين، مما أعطاه حصانة ضد المحاكمة، الحصانة التي سقطت باعتقاله في لندن.
ومع بدء محاكمته، والتنقيب في حساباته في الخارج حيث اكتشفت حساباته في الولايات المتحدة وأوروبا بملايين الدولارات من الأموال التي نهبها من الشعب التشيلي.
حياة بونشيه
ولد أوغستو بينوشيه أوغارتا في والبارايسو في 25 نوفمبر عام 1915، ودرس الابتدائية والثانوية في كلية القديس رافاييل وكذلك معهد كويلوتا (الإخوة ماريست) وهم المبشرون الفرنسيون في والبارايسو، ودخل المدرسة العسكرية في سنة 1933 ليتخرج منها بعد أربع سنوات برتبة ألفاريز (مُلازم ثان) في المشاة.
وتزوج في 30 يناير عام 1943 من لوتشيا هيريارت رودريغز، وأنجب منها خمسة أطفال، ثلاث بنات ، وولدان، ثم عاد إلى الأكاديمية العسكرية ليواصل دراساته فيها، وانقطع عن هذه الدراسات في سنة 1948 عندما اتجه لإخماد حالات التمرد في مناطق الفحم في لوتا.
بعد حصوله على لقب ضابط رئيس هيئة الأركان في سنة 1951 اتجه إلى التدريس في الأكاديمية العسكرية، وفي نفس الوقت عمل كمساعد أستاذ في أكاديمية الحرب، وكان اختصاصه التصانيف الجغرافية، كما نشط في تحرير مجلة (تشين أجويلاس) مائة نسر العسكرية.
في بداية سنة 1953 أرسل إلى أريكا برتبة عسكرية عليا، ثم عُين أستاذاً في أكاديمية الحرب، وعاد إلى سانتياغو عاصمة تشيلي لأجل منصبه الجديد، كما قام بدخول كلية الحقوق في تشيلي.
في سنة 1956 أرسل مع مجموعة من الضباط الشباب إلى مهمة عسكرية في الإكوادور ليترك دراسته للحقوق، لكنه عوض عنها بالاستمرار في دراسة الجغرافيا السياسية والعسكرية، والاستخبارات العسكرية. وبقي في هذه المهمة ثلاث سنوات ونصف عاد في نهايتها إلى تشيلي، وأُرسل إلى مقر القيادة العامة للتقسيم العسكري في أنتوفاجاستا، وفي السنة التالية عُين قائداً لفوج (إزميرالدا)، وبسبب نجاحه في هذا الموقع عُين رئيساً لثانوية تتبع أكاديمية الحرب في سنة 1963.
في سنة 1968 سُمي رئيس أركان الفرقة الثانية للجيش، وفي العام التالي رُفي إلى رئيس الأركان في سانتياغو وحصل على رتبة بريجادير جنرال (عميد). وعُين أيضاً قائداً لمقاطعة تاراباسا.
في 1971 رُفي إلى رتبة جنرال فوج وصار قائد حامية سانتياغو، وفي 1972 صار رئيس هيئة الأركان خلال نزاع محلي متصاعد سبق ولاية سلفادور ألليندي، وعُين القائد الأعلى للجيش في الثالث والعشرين من أغسطس 1973 من قبل الرئيس سلفادور ألليندي.
وفي نوفمبر من العام 1970 وصل الزعيم الاشتراكي سلفادور ألليندي إلى رئاسة تشيلي في انتخابات حرة ومباشرة لم تعجب الولايات المتحدة، ذلك أن أمريكا اللاتينية كانت تمر وقتها بالاشتراكية، والعداء للرأسمالية، لدرجة جعلت الكثير من القسس يتركون وظائفهم الكنسية في معقل الكاثوليكية ويتجهون للاشتراك في الثورة، والتحريض ضد فساد الحكام الرأسماليين المرضي عنهم من الولايات المتحدة، وذلك في فترة المد الاشتراكي العالمي، والحرب الباردة.
العلاقات الخارجية
سُرعان ما دمر بينوشه كل الروابط السياسية والاقتصادية بكوبا، والتي بدأت وتوثقت في عهد ألليندي، كما انه قام بقطع كل علاقات تشيلي بالإتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية تأكيداً للمصالح الأمريكية في الانقلاب.
كانت تشيلي، الأوروغواي، الباراغواي، بوليفيا، البرازيل، ولاحقاً الأرجنتين تخضع في وقت متزامن لأحكام دكتاتورية انقلابية، وكونت هذه الديكتاتوريات ما يُسمى بـ “عملية كوندور” لاستهداف جميع التنظيمات الماركسية والاشتراكية، والأفراد المشتبه في ولائهم للاشتراكية في دول أمريكا اللاتينية.
كما أن تشيلي بينوشيه كانت الدولة اللاتينية الوحيدة التي لم تدعم الأرجنتين في حرب جزر الفوكلاند ضد بريطانيا. ونتيجة لكون بينوشيه ممثل المصالح الأمريكية في تشيلي، تلقى نظامه دعماً أمريكياً لا محدوداً رغم أنتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان.