أوضح مدير تحرير مجلة بحوث العلمية الدولية المحكمة د. محمد عبد العزيز أن التراجع العربي في السنوات الأخيرة لاسيما فيما يتعلق بأزمة الحرب على غزة لا ينفصل البتة عن التراجع على صعيد البحث العلمي ، مؤكدًا أن النهضة العلمية مرتكز رئيس لكافة مسارات التطور الاقتصادي ومن ثم قوة الإرادة السياسية ووحدة القرار .
وقال على هامش الإعلان عن ظهور العدد الثاني والخمسين من الإصدار العلمي لمركز لندن للبحوث والاستشارات : بنهاية عام 2023 الذي ما يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة إلا وأحداث جسام بالمنطقة العربية يتمزق لها نياط القلب تدور على أرض غزة العزة ، وجدت من المناسب أن أبعث برسالة إلى الباحثين العرب من المحيط إلى الخليج ، وهم ما يزيد عن ثلاثة ملايين باحث وباحثة سواء أعضاء هيئات تدريس في أكثر من 800 جامعة في 22 دولة يقطنها 450 مليون عربي أو باحثين خارج نطاق العمل الأكاديمي ، مفادها أن ... أخرجونا من هذا النفق المظلم ولا تستسلموا للتردي الحادث في مساقات التنمية المعرفية في كثير من بلدان وطننا العربي جراء الصراعات السياسية والأطماع والإمبريالية الغربية .
وطالب الباحثين العرب أن يجاهدوا بأفكارهم متجاوزون للتحديات التي تواجه التقدم العلمي في المنطقة ، فما يحدث من اعتداءات صارخة على قطعة من أرضنا العربية لا أستطيع البتة فصله عن المساقات العلمية ، نعم فإن سيادة الأمم تنبع من قوتها وقوتها في قوة ارادتها ولا نجد ذلك إلا في امتلاكها لغذائها ودوائها وسلاحها ، وأنى لها أن تمتلك هذا المثلث الذي يشكل العمود الفقاري للنهضة والتقدم إلا عبر اهتمامها بالعلم وأدبياته المتمثلة في البحث العلمي الذي بات ضرورة حتمية للتطور والازدهار والخروج من ثالوث القتل المدمر للمجتمعات المرض والجهل والفقر.
ولفت عبد العزيز إلى أن أميركا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين تلك الدول الست التي تهيمن على القرار العالمي إنما تولي أهمية كبيرة للبحث العلمي باعتباره أحد أهم الدعائم الأساسية للنهوض بمجتمعاتها في شتى المجالات ، وإدراكا منها بمدى مساهمته في تحقيق التنمية والرفاه ، لذلك تبذل مجهودات حثيثة من أجل الرقي بالبحث العلمي وتحسين مستوياته، وبقدر ما تقدمه من جهد ومال بقدر ما تحقق المكاسب لمجتمعاتها .
وأعرب عن حزنه للواقع المتردي لواقع البحث العلمي في الوطن العربي مقارنة بالدول الغربية وتلك الهوة السحيقة بيننا وبينهم ، ما يدل على أن البحث العلمي في الوطن العربي دون المستويات المقبولة ، لذلك يحتاج إلى تضافر الجهود أكثر مما مضى من أجل تحسين مستواه بما يتماشى مع التطور العالمي لاسيما في ظل ما نشهده في العقدين الأخيرين 2000-2023 من ثورة معرفية هائلة ، وتعاظم في دور التكنولوجيات الذكية وما تتضمنه من تحول رقمي بات معها إحداث نقلة نوع?ة وتقدم ملموس في منظومة البحث العلمي العربي أمرًا حتميًا لتحقيق التنمية على مختلف الصعد مع ضمان استدامتها.
وأضاف : لقد بات القرار السياسي للدول الكبرى وللمؤسسات والهيئات الدولية، وللشركات الاستثمارية والصناعية والإنتاجية - عابرة القارات – وغيرها يرتكز على نتائج دراسات وبحوث معمقة، كما أن قراءة المستقبل، والتنبؤ بأزماته، ومتغيراته، والاستعداد له ، لا يتم إلا من خلال الدراسات الاستشرافية المستقبلية، بالاعتماد على أساليب علم المستقبل، ومنهجيات البحث العلمي، وفي هذا المضمار؛ وبحسب رأي المفكر حامد عمار، "فنحن نعيش في زمان لا تتحدد مقومات البقاء والتميز فيه بالاقتصار على قوة السلاح أو امتلاك الثروة، وإنما تتحدد قبل هذا بامتلاك مفاتيح المعرفة، والقدرة على إنتاجها، وعلى خلق الثروة" ، لقد غدت المعرفة قوة، والقوة معرفة، ولم يعد معيار التقدم الحقيقي في تواصله واستدامته مكتفيًا بما هو متبع اقتصاديًا من مقياس نمو الناتج المحلي الإجمالي (gdp)، وإنما يتميز عنه ما يعرف بمعيار الرصد أو المخزون القومي المعرفي ونموه .
وعرج عبد العزيز على أدوات التقدم فأكد أنها أصبحت مرهونة بالتطور في مجال البحث العلمي، والتجارب العالمية أكدت ذلك، وإن لم يولي العرب أهمية بالبحث العلمي؛ فسيظل قراره تابعًا وسيادته منقوصة ، ولن يبرح منطقة التقليد والاستهلاك، ولن يصل لمستوى القياس العالمي عبر التغني في وسائل الاعلام برقي الجامعات وأحجامها وأعدادها، بل بالفعل الحقيقي، والمنجز على أرض الواقع.
وقال : بالنظر إلى واقع البحث العلمي العربي، فإنه يتسم بانخفاض حجم الإنفاق عليه، حيث يتدنى دون الحد المقبول عالمياً (%1) من الدخل القومي الإجمالي ، وهذا يؤدي إلى عدم توفر البنية التحتية اللازمة للبحث، وانخفاض الإنتاجية العلمية في الوطن العربي ، وتعتمد سمعة البحث العلمي في أي جامعة إلى حد كبير على نوع وعدد البحوث المنشورة في المجلات العلمية العريقة المعروفة لدى هيئات التصنيف، ويعد النشر العلمي أحد أهم المقاييس المستخدمة في تقدير مستوى الإنتاج العلمي، إذ لا قيمة للعلم إذا لم يتم نشره واتاحته لخدمة البشرية، وذلك من منطلق أن العلم عالمي النزعة، وأن المعرفة لا وطن لها؛ حيث أصبحت ذات صبغة عالمية بفضل استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات التي سهلت التواصل بين العلماء والباحثين بغض النظر عن الحواجز الجغرافية ، وتشهد الساحة العلمية العالمية تنافسا بين الباحثين النشطين للنشر في المجلات العلمية العالمية والمدرجة في قواعد البيانات المتخصصة في حين يتراجع الباحثين العرب عن أداء هذا الدور الحيوي المهم .
ولفت إلى أن الحروب والصراعات واضطراب الأمن تؤثر لا محال على مختلف القطاعات، والخدمات، والمخرجات، ومنها الإنتاج المعرفي ويتضح ذلك جليًا في حجم الأوراق العلمية الصادرة عن جامعات دول تموج بالاضطرابات أخر عشرة سنوات مثل السودان، وسوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، والصومال، وغيرها ، فتلك البلدان تعاني الإنتاج العلمي المنخفض، في حين عدم معاناة بعضها من وجود مؤسسات جامعية، ومراكز بحثية، فهناك مؤسسات ومراكز بحثية كثيرة، ويوجد إنتاج علمي جيد لدى الباحثين، وإنما تفتقر إلى ضعف القدرة المؤسسية، والميزة التنافسية للجامعات والمراكز البحثية، وغياب التمويل والحوافز المادية والمعنوية، وضعف الثقافة التقنية، وقصور واضح في معايير النشر العلمي المميز، وخاصة النشر الإلكتروني، وعدم إدراج مجلات علمية محلية في قواعد البيانات الدولية، وبطء استجابة الحكومات المنشغلة بالصراعات السياسية على حساب التنمية المعرفية ، وبالتالي بطء استجابة الجامعات والمراكز البحثية، لمتطلبات التحول الرقمي، وخاصة في مجال التعليم والبحث والنشر العلمي.
وعلى ذكر التحديات التي تواجه الوطن العربي أكد عبد العزيز أن جلها ناتج عن تأخر الاهتمام بالبحث العلمي نتيجة قصور كبير في معدلات الإنتاج والنشر العلمي بقواعد البيانات العالمية المرموقة، وضعف مواكبة العصر الرقمي، وباستحضار مشروع قاعدة البيانات العربية «معرفة» المُنتج لمعامل التأثير والاستشهادات العربية «أرسيف»، من خلال تقريره الدوري الأخير أشار من خلال تقييمه لعينة ممثلة للمجلات العلمية التي تنشر بحوثا ودراسات باللغة العربية إلى أن إجمالي عدد المؤلفين المُستشهد بأعمالهم البحثية في عام (2022) حوالي (44.800) مؤلف، وهو ما يُمثل 19.5% فقط من جملة الباحثين بالعينة، وهى نسبة تُعد منخفضة وفقاً لمستويات جودة النشر العلمي العالمي، غير أنه أفادت مؤشرات (27 ) دولة في عام (2022)، منها (19) دولة عربية وثماني دول غير عربية منتجة لمقالات مكتوبة باللغة العربية من خلال (814) مؤسسة إنتاج بحثى، أن عدد المجلات العلمية التي نجحت في تحقيق معايير معامل تأثير أرسيف وصلت إلى (1000) مجلة – من ضمنها مجلتنا بحوث - من (5.333) تم فحصها أي بمعدل 19% فقط، وهى نسبة منخفضة تتطلب رسم سياسات أكثر تأثيراً من شأنها تعزيز قدرات النشر العلمي باللغة العربية وضمان جودته العلمية ، فما أحوج العالم العربي لاستفاقة باحثيه ، أيها الباحثون العرب ، مسؤوليتكم عظيمة لخروجنا من النفق المظلم .
وختم الزميل عبد العزيز تصريحه قائلًأ : بظهور هذا العدد - 52 - أكون قد أتممت إدارة 36 عددًا من مجلة بحوث العلمية المحكمة بجهود جماعية من فريق عمل علمي مخلص ومتميز ، منذ شرفني رئيس مركز لندن للبحوث أ.د ناصر الفضلي شهر يوليو 2017 بإدارة تحرير المجلة فبدأنا آنذاك بإنتاج العدد رقم 16 في شهر أكتوبر نفس العام ، ثم توالت الأعداد في الظهور ، وعلى رأس كل ثلاثة أشهر من العام كنت أسعد بمولود جديد من مجلة بحوث زادني شرفًا ، تعاطيت وتعلمت في هذه الأعوام الست من ما يربو على 300 باحث وباحثة من 20 دولة حول العالم هم من سطروا بأقلامهم ومن بنات أفكارهم مئات الأبحاث العلمية في مختلف العلوم الاجتماعية ، وسنظل على الطريق لتحقيق هدف النهضة العلمية العربية .