في تلك الليلة التي خيم فيها الهدوء على الشوارع، كان اثنان من أعضاء مجلس إدارة إحدى المؤسسات الرائدة قد خلدا إلى النوم، بعدما شهد بينهما اجتماع المجلس بعض الخلاف في الرأي وتباينًا في وجهات النظر حول قضايا أساسية، بيد أن هذا التباين لم ينل من مكانة الود والاحترام المتبادل الذي طالما رسخاه في علاقتهما المهنية، وفي وقت متأخر من الليل، نهض كل منهما، وبإحساس طغت عليه النزاهة والمسؤولية، ارتدى كل منهما ملابسه وعزم أن يبادر الآخر، وكأن القدر نسج لحظة تجلي الأخلاق والمودة، إذ التقى الاثنان في الشارع، كل منهما يحمل في قلبه نية المصالحة ومبادرة الآخر بيد تمتد نحو السلام.
هذا المشهد، وإن بدا في ظاهره بسيطًا، إنما يعكس قيمًا وأخلاقيات عميقة، جوهرها إدراك عميق بأن نجاح المؤسسات لا يُبنى على الاتساق في الآراء بقدر ما يُبنى على احترام التباين والقدرة على تجاوز الخلافات عبر التواصل البنّاء، وكما قال الشافعي، “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، فالحكمة تكمن في احتواء الخلاف ورؤيته فرصةً للإثراء، لا للنزاع، فالعلاقة بين هؤلاء القادة لم تكن قائمة فقط على المصالح، بل كانت مرتبطة بأخلاق ثابتة تتجاوز قاعات الاجتماعات الرسمية لتتجلى في المبادرات الشخصية التي تعزز جسور التفاهم، وهذا السلوك يعبر عن التزام قوي بأخلاقيات القيادة ومبادئها النبيلة، حيث يقيم الفرد وزنًا عاليًا لقيمة المصالحة والتآلف، مصداقًا لقول ابن رشد: “الاختلاف في الرأي ينبغي ألا يُفسد للود قضية”.
تؤكد الدراسات الحديثة في علم الإدارة والسلوك التنظيمي على أن المؤسسات التي تتميز بقادة يتبنون سلوكيات مثل التسامح والاحترام والمبادرة الإيجابية تكون أكثر قدرة على النجاح والابتكار، ويستدل على ذلك قول الغزالي الذي أشار إلى أن “الأخلاق مثل الرياح، تسير السفينة إلى بر الأمان، وإن كانت الأمواج تتلاطم حولها”. فالأخلاق العالية التي يمتلكها القادة هي التي تضمن نجاح المؤسسات، حتى في أوقات التحدي والخلافات الشديدة، ليس غريبًا أن تأتي النجاحات الكبرى لأية مؤسسة عريقة من وجود مثل هذه القيم بين قياداتها؛ فالإدارة الفاعلة لا تتطلب اتفاقاً دائمًا في الرأي، بقدر ما تتطلب اتفاقًا على الثوابت الأخلاقية والروح النبيلة التي تدفع كل فرد فيها إلى التضحية بأنانيته من أجل الهدف الأسمى، ولعل التاريخ يشهد أن المؤسسات الرائدة لم تُحقق الريادة والتميز إلا حين آمنت بأهمية هذا النوع من القيم، فالعلاقات الإنسانية هي المحرك الأول لكل تطور وازدهار.

لقد كان هذا اللقاء في منتصف الليل، رمزاً لتلك القيم الراسخة، ودرسًا حيًا في قيادة النفس قبل قيادة الآخرين، حيث يظهر عمق الالتزام بالمسؤولية، وحيث يصبح التباين في الرأي وسيلة للتطور والنمو لا للتفرقة والنزاع، ولعل قيمة هذا السلوك تتجاوز حدود المؤسسة، فترسم نموذجًا رائدًا يحتذى به للآخرين في عالم الإدارة والعمل المؤسسي، وتعلم الأجيال القادمة أن التميز الحقيقي في المؤسسات لا يتحقق عبر الإنجازات المادية فقط، بل بتعزيز روح الفريق وبناء جسور الاحترام والتقدير بين أفرادها.
ختامًا، إن المؤسسات التي تحقق النجاح وتصل إلى مراتب الريادة هي تلك التي تستثمر في قيم قادتها قبل خططها الاستراتيجية، وكما قال الإمام أحمد بن حنبل: “إنما العلم الخشية”، كذلك القيادة، إنما النجاح فيها أخلاق والتزام، والقادة العظماء هم أولئك الذين يتخذون من الاختلاف فرصة للمبادرة، ومن المبادرة عنوانًا للتعاون، ومن التعاون طريقًا للإنجاز، إن هذا الموقف الذي جمع العضوين وسط الليل يختصر المعنى الحقيقي للأخلاق النبيلة، ويؤكد أن المؤسسات التي تؤسس على الاحترام، التقدير، والمسؤولية الأخلاقية، هي التي تستحق أن تٌصف بالريادة، وأن تنافس على جوائز التميز العالمية في أخلاقيات العمل، ليس في الحاضر فقط، بل لأجيال قادمة تستلهم منها دروسًا في القيادة والحكمة.