في عالم يزداد تعقيدًا وتسارعًا، يبرز العمل الخيري كقيمة سامية تحاول مواجهة التحديات والتخفيف من المعاناة. وفي جلسة جمعتني بصديقين عزيزين، لكل منهما تجربة في ميدان العمل الخيري، بدأنا نتساءل: هل يمكن تصنيف العمل الخيري على أنه عمل إنساني بحت، أم هو في جوهره عمل خلاقي يرتبط بالأخلاق والمبادئ الإيمانية؟ هذا السؤال قادنا إلى نقاش أعمق حول المصطلحات والدلالات، وما إذا كانت هذه الفروق النظرية تؤثر على ما نقوم به في حياتنا العملية.

العمل الإنساني… الخدمة والتخفيف من المعاناة

يُعرف العمل الإنساني بأنه العمل الذي يهدف إلى تقديم المساعدة المادية والمعنوية للإنسان المحتاج، بغض النظر عن خلفيته الثقافية أو الدينية أو العرقية أو الإثنية. ويركز هذا النوع من العمل على تلبية الاحتياجات للأفراد والمجتمعات، وهذا ما يُسمى بالاستجابة الإنسانية السريعة مثل الغذاء، الماء، المأوى، والرعاية الصحية. والتعليم والمنظمات الإنسانية  تضع “الإنسانية” في صلب أنشطتها.

فالهدف من العمل الإنساني هو مساعدة الإنسان بوصفه إنسانًا، ورفع المعاناة عنه. في هذا الإطار، أشار أرسطو إلى أن “الإنسان هو الحيوان الاجتماعي”، ما يعني أن هناك مسؤولية اجتماعية تقع على الأفراد تجاه مساعدة بعضهم البعض. ولكن هذا العمل الإنساني غالبًا ما يتمحور حول معالجة الاحتياجات المادية والظروف الحياتية.

العمل الخلاقي… الأخلاق والقيم في العمل الخيري

على النقيض من العمل الإنساني الذي يركز على تلبية الاحتياجات العاجلة، يرتبط العمل الخلاقي بمجموعة من القيم والمبادئ التي تحكم تصرفات الفرد. يرى الإمام الغزالي، أن العمل الخلاقي يستند إلى نية الفرد الخالصة لوجه الله، بغض النظر عن المردود المادي أو الاجتماعي. وقد قال: “الإخلاص هو ألا ترجو من عملك شيئًا سوى مرضاة الله”. في هذا السياق، فإن العمل الخلاقي أعمق، إذ يتجاوز المستوى الظاهري للعمل إلى مستوى أكثر روحية وأخلاقية.

فالعمل الخلاقي ليس فقط فعل الخير، بل فعل الخير بالنية الصحيحة. إنه الالتزام بالقيم العليا مثل العدالة، الأمانة، والإحسان. يقول ابن القيم: “العمل بغير نية لا قيمة له في الدنيا ولا في الآخرة”، مشيرًا إلى أن النية هي ما يميز بين العمل الخلاقي والإنساني.

موقف واقعي… بين الإنساني والخلاقي

في إحدى القرى الأفريقية، شهدنا التداخل بين العمل الإنساني والخلاقي. كانت هناك منظمة  تعمل على حفر آبار مياه للشرب، وفي نفس الوقت كان هناك شيخ من اهل القرية يدعو الشباب  لمساعدتهم في حفر الآبار، ولكنه كان يؤكد أن العمل يجب أن يتم بنية صافية، ويقول لهم: “لا تحفروا هذه الآبار فقط من أجل ماء الشرب، ولكن ليكن عملكم خالصًا لله، فهو وحده الذي يجزي المحسنين”.

ما حدث هو أن الشباب قاموا بعملهم بكل إخلاص وهمة، ليس فقط لتوفير الماء، ولكن بدافع ديني وأخلاقي. عند اكتمال المشروع، لم يشعروا بالرضا فقط من النتائج المادية، بل شعروا بأنهم قد أتموا واجبًا أخلاقيًا تجاه مجتمعهم وربهم.

تداخل المصطلحين… هل يمكن الفصل بين الإنساني والخلاقي؟

من الصعب في بعض الأحيان الفصل بين العمل الإنساني والخلاقي. فالعمل الخيري، بمفهومه العام، يشمل كليهما. إذ أن الكثير من الأعمال الإنسانية تستند إلى دوافع أخلاقية وإيمانية. وقد قال د القرضاوي، في كتابه “فقه الزكاة”: “العمل الإنساني إذا لم يقترن بالنية الخالصة، فهو عمل ناقص، لأن الغاية الحقيقية ليست في النتيجة المادية، بل في السعي لإرضاء الله”.

وفي عالم اليوم، نجد أن المنظمات الإنسانية تتبنى أيضًا جوانب خلاقيّة، حيث تسعى إلى تطبيق معايير أخلاقية صارمة في جميع أنشطتها، من احترام الكرامة الإنسانية إلى التعامل بشفافية ومصداقية.

الخلاصة: تكامل الأبعاد الإنسانية والخلاقية في العمل الخيري

بعد تأمل عميق في النقاش الذي انبثقت منه فكرة هذا المقال، يمكننا الجزم بأن العمل الخيري لا يمكن أن يكتمل إلا بدمج البعدين الإنساني والخلاقي. فالعمل الإنساني يركز على تلبية الاحتياجات المادية والضرورية، في حين أن العمل الخلاقي يرتقي بهذا الجهد ليضيف إليه قيمة معنوية، تقوم على النية الصافية والمبادئ الأخلاقية الراسخة، يقول الشيخ محمد الغزالي: “الإنسانية هي قلب العمل، ولكن الأخلاق هي روحه”.

وكذلك يشير د عبد الرحمن السميط، قائلاً: “الأثر الحقيقي للعمل الخيري لا يُقاس بعدد المشاريع أو الإنجازات المادية فقط، بل في القدرة على إحداث تغيير عميق ومستدام في حياة الأفراد والمجتمعات”.

وفي نفس السياق، يُضيف بيل غيتس، مؤسس مؤسسة “بيل وميليندا غيتس”، في حديثه عن قياس الأثر: “الأعمال الخيرية لا تقتصر على الأرقام والإحصائيات، بل هي قصص حياة تمسها اليد الخيرية، فتُعيد الأمل لمن فقدوه”.

لذا، فإن التحدي الأساسي هو إيجاد توازن بين الجوانب الإنسانية والخلاقية في كل عمل خيري نقوم به، بحيث لا يقتصر دورنا على تقديم العون المادي فقط، بل نسهم في إحياء القيم الأخلاقية وبناء مجتمعات أكثر تماسكًا ورقيًا، تستند إلى رؤية شاملة ترتكز على النية الطيبة وتجمع بين الإحسان إلى الناس والإخلاص لله.