عندما تجرّبُ بنفسك وتدخل إلى (لحن سبتمبر) وترى تفاصيلها، حينها فقط لن تتردد أن تعترف أنك خضت التجربة بنفسك.
(( وراحت السماء تمطر فتنة وغيثًا مُنهلًّا.. والماء رواء.. تلك السنة أشبه بالخيال؛ غيوم من رسائلنا السحابية تنقل بيننا المشاعر والأسرار.. عرفتُ من خلالها أن زواجها أثمر ابنة واحدة فقط، فكلما تحدثتْ عن حياتها الزوجية تكتفي بإجابات مقتضبة، ثم تلوذ بالصمت..)). إنها كلمات (سلطان) بطل روايتنا (لحن سبتمبر) بعد ثلاثين عامًا يلتقي بحبيبته (رؤى) على منصة تويتر.. هكذا تقدم لنا الكاتبة ريم الجمعة فيضًا من المشاعر والأحاسيس التي تبادلاها المحبوبان ليستحضرا حبًا ضربت جذورُه في الماضي؛ حين تعرف الشاب سلطان على رؤى قادمًا من السعودية إلى مصيفٍ في بلد رؤى (بلد اللوز) ليتبادلا الإعجاب والحب، قرر سلطان التقدم لخطبة رؤى فلم تحالفه الظروف بين وفاة والدته ومرض والده، وأقنعه أخوه غير الشقيق (كايد) -وكان حاسدًا له- ليرافقه للقيام بخطبة رؤى له، وهناك أفسد عليه خطبته لصالح صديقه نايف الذي يرغب الزواج من رؤى وقد حصل!هكذا فرق بينهما الغدر والحسد ليشقَّ كل منهما طريقه؛ (سلطان) في مجال عمله الطبي، أما (رؤى) فتزوجت وصار عندها ابنةٌ صغيرة! نعم.. تحكي لنا الكاتبة معاناة تتكرر مرارًا في كل زمان ومكان يحاول فيها الحسد النيل من قداسة الحب، وتبذل فيها الضغينة جهودًا لتحطم مشروعًا من الجمال والوفاء بين المحبوبيْن، لكن (رؤى) تستفيد من خطوات المملكة العربية السعودية في رؤيتها لعام 2030م والانطلاق نحو الانفتاح؛ وبعد انزلاق زوجها نايف في تعاطي المخدرات وضياع حياته، تهتم رؤى موهبتها في الرسم والفنون الجميلة بعد فترة من الكبت والتقييد، وبعد شروق مرحلة الانفتاح في المملكة تدرس رؤى الماجستير، وتتبلور شخصيتها وتصقل هوايتها. وهنا الصدمة حين التقت هي وسلطان على (تويتر)، ورغم زخم المشاعر بين العاشقيْن، وعمق الحكاية الجميلة بينهما، لكن صراعًا بين الفضيلة وهوى النفس يتملك كلًا من سلطان ورؤى، ليكرس الواقعُ مزيدًا من الفرقة الجسدية، لكنه في آن الوقت يعزز التمسك بالحب ويُخلّد قداسة العشق بين المحبوبيْن.
لا يمكننا الحديث عن (لحن سبتمبر) بمعزل عن القلم الذي رسم عدة أعمال سبقت هذا النتاج الجديد، رغم أن كل عمل قامت به الأديبة ريم الجمعة له بصمته التي تميزه عن غيره، لكننا نستطيع ودون تردد أن نلمس الفرق الشاسع في أسلوب العرض لكل نتاج بشكل مستقل. لحن سبتمبر.. الطرح العصري الجديد المولود من بنات أفكار الكاتبة والذي ألبسته اليوم ثوب المواءمة لأحداث الساعة، وعندما نفتح النقاش أو التحليل في هذا النتاج المميز نقف مشدوهين أما القدرة الأدبية بعيداً عن المجاملات والتي تطرح من خلالها كاتبتنا أعمالها وكأنها تغرف من معين لا ينضب؛ المفردات تتسابق في الوصف، بل أحيانا نجد تزاحمًا لا يمكننا عدم إلقاء الضوء عليه؛ فعلى سبيل المثال: (في لحظات ساحرة تلاشى فيها الزمن وعجزت الكلمات عن وصف جمال اللحظة، هناك.. في ذلك العالم الساحر، تجلّى العشق بأبهى حلله وتلاطمت المشاعر كأمواج البحر في قصيدة موسيقية من وتر ورؤى، انطلقت الأحاسيس بألحانها الناعمة تحمل بين شطحات صوفية تناغم الروح والجسد في عرس الحب الخالد)؛ لنرَ في هذه الجملة السابقة كيف انتقت الكاتبة مفرداتها لتقدم للأعين كلمات تجذبك في سكبها ومعانيها العامة قبل أن تلحظ بعين المتفحص كما نفعل الآن أن كل زاوية من زوايا (لحن سبتمبر) تزخر بل تعجُّ بكمٍّ هائل بالمفردات السخية التي تتسابق كي تقدم لك المعنى الأكثر دلالة في سياق الفهم للعرض.
دعونا نبين لكم ما وراء هذا العطاء اللامتناهي للمفردات! إنها الدافعية العارمة في اقتحام المجهول فيما وراء الكتابة، ويمكننا رصد ذلك في ثنايا الرحلة مع (لحن سبتمبر)، أعود لأقول: لا أدعوكم لقراءة (حي الحميدية) فحسب! بل أدعوكم إلى (بوح الزيزفون) كي تشموا عبقَه، نحن اليوم أمام طرح جديد وجميل في الكتابة نشاهد فيه أكثر مما نقرأ، ونرى فيه أكثر مما نسمع، ونتذوق من خلاله أكثر مما نتلمّس، وأكثر ما شدَّ الانتباه وأثَّرَ في الخيال تلك الصورة الروحانية الخالدة لمشهد الطواف حول بيت الله الحرام وتلك المشاعر الإيمانية الندية والتي أعطت بسخاء ما هدفت الكاتبة من خلاله في ربط دور إرادة الرب في عليائه بما يتعلق بقلوب الناس، لعلنا هنا نشعر أكثر مما نقرأ ونُحسُّ أكثر مما نشاهد، ومن قال أننا نشاهد؟! لقد برعت ريم الجمعة في نقل الفهم والشعور معًا من كلمات تُكتب على الأسطر إلى فصل ملون ومتحرك بأبعاده الحيّة، ثم بكل ما للصدمة من أثر تكشف الستار عن مشهد عجيب تبدأ به روايتها من حيث انتهت! ثم لتعصف بالقارئ وتزج به رغم أنفه -وهو محب لما يُفعل به- في خضم الرواية ليعيش تفاصيل رائعة؛ بعد كل ما قلنا لا يمكننا الاستسلام بأنها رواية، سيداتي آنساتي سادتي هذه ليس مجرد رواية، إنها الحياة كلها التي تتلخص بمشاعر الفتاة (رؤى) وما تلامس من أحاسيس في قلبها في مسلسل الانتقال بين فصول هذا العمل الدرامي الرائع! وهنا.. بل هناك على شواطئ لحاظك يا (سلطان) تراكمت كل معاني الشوق لمحبوبته، أما (كايد) العذول الحاسد، ها هي كاتبتُنا تبرز دوره في الرواية وهو يلبس اللون الاجتماعي للشخصية الحاقدة على الخير المعادية لمشروع الحب في كل زمان ومكان.
أمر صعب جدًا أن نحيط بكل ما باحت به ريم الجمعة في (لحن سبتمبر)! فما واجهه المحبوبان في سبيل عشقهما كان خلاصة ألمٍ خلَّفتْهُ حِقبةٌ من الكبت والتعنت الفكري. إن لحن سبتمبر تقدم للقارئ لونًا جديدًا لكل محب للقراءة متشوق لمتابعة دراما المكان والزمان، وتقدم في آن واحد فصولًا من التشويق لكل متلهف يبحث في ردهات الأيام عن أجوبة للعشق الذي يسكن فؤاده.
نحن أمام نتاج أدبي فكري اجتماعي لم يذهب بعيدًا عن حاجات الضمير فاتجهتِ الروايةُ لتعالج خلجات النفس وتوجيه الدوافع الإنسانية والسلوك الاجتماعي نحو الشعور السويّ، بثوب قصصي يفهمه الجميع رغم تلك اللغة العميقة للكاتبة والتي يجد فيها المتعمق حاجته.
نعم في خضم قراءتك في لحن سبتمبر لا يمكنك أن تضيف شيئًا على تعابيرها، بل في تفكُّرك بين خطواتها وفي طرقها الطويلة تصادفك مثلًا هذه الجملة للكاتبة فتقول: (قصتي هي قصة الوفاء والغدر، قصة الخير والشر وصراعهم الأبدي، وهي أيضًا قصة الفضيلة وهوى النفس..)، إنه ملخص تضعه ريم الجمعة بين يديك، فإليك (لحن سبتمبر).