في صباح هادئ من شتاء عام 1994، استيقظت فتحية، فتاة أفريقية تبلغ من العمر اثني عشر عامًا، على أصوات طلقات نارية وأقدام تلهث في الأزقة الضيقة لقريتها الصغيرة، لم تكن تدرك آنذاك أن تلك الأصوات ستُعلن بداية فصل مظلم في حياتها، فصل من النزوح والجوع والخوف، حيث فقدت والديها في خضم الأحداث التي أودت بحياة مئات الآلاف، لكن ما لم تكن فتحية تعرفه أيضًا هو أن تلك البداية المأساوية ستكون الشرارة التي ستُعيد تشكيل مستقبلها، لتُصبح لاحقًا رمزًا للتحول من الألم إلى الأمل.
فتحية ليست مجرد اسم في سجل الناجين، بل هي شهادة حية على أن الإغاثة، رغم ضرورتها العاجلة في لحظات الكارثة، لا يمكن أن تكون النهاية، فقد تلقت فتحية في البداية مساعدات غذائية وملابس من منظمات الإغاثة الدولية التي تدفقت على المنطقة بعد الأحداث، لكنها سرعان ما وجدت نفسها في مأزق جديد: ماذا بعد المساعدات؟ كيف يمكن أن تستعيد حياتها في قرية أُحرقت، ومدرسة هُدمت، وأسرة تلاشت؟، في هذا المفترق، جاءت الإجابة من مبادرة أطلقتها منظمة خيرية كويتية تنموية، ركزت على تمكين النساء الناجيات عبر توفير برامج تدريبية على المهارات الزراعية والحرف اليدوية، التحقت فتحية بأحد هذه البرامج، حيث تعلمت الزراعة العضوية وتقنيات الري البسيطة، وحصلت على تمويل صغير لبدء مشروعها الخاص، وبعد خمس سنوات فقط، تحولت فتحية من فتاة مشردة تتلقى المعونات إلى سيدة أعمال صغيرة تزرع المحاصيل وتبيع منتجاتها في الأسواق المحلية، بل وأسست تعاونية نسائية تُشغل عشرات النساء اللواتي مررن بتجارب مشابهة.
قصة فتحية ليست استثناءً، بل هي نموذج يعكس كيف يمكن للتحول من التغذية إلى التنمية أن يُحدث فرقًا جوهريًا في حياة الأفراد والمجتمعات، وكما قال أتشيبي: "الأمل ليس رفاهية، بل هو استراتيجية للبقاء." إن مثل هذه القصص تُظهر أن التنمية المستدامة ليست مجرد مفهوم اقتصادي، بل هي رحلة إنسانية تستعيد بها المجتمعات قدرتها على الوقوف بعد السقوط.
التنمية المستدامة، بحسب تعريف اللجنة الدولية للبيئة والتنمية، تهدف إلى تلبية احتياجات الحاضر دون التفريط بحقوق الأجيال القادمة، لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب الانتقال من تقديم المساعدات إلى بناء القدرات، ومثلما تعلمت فتحية أن تحفر قنوات الري وتزرع الأرض، يحتاج العالم والمؤسسات الخيرية اليوم إلى استراتيجيات تُعلم الناس وتبني ثقافتهم كيف يزرعون مستقبلهم بأيديهم، بدلًا من انتظار الإغاثة في كل أزمة.
تُعتبر هذه المبادرة الكويتية التنموية مثالاً حيًا على كيفية تحقيق التحول في المجتمعات الفقيرة والنازحة، والتي قد تبنت نهجًا مشابهًا في مناطق مختلفة من أفريقيا، حيث توفر تمويلات للمشروعات الصغيرة وتدريبًا مهنيًا لتحفيز التنمية الاقتصادية، عبر مشروعات تطويرية تمكّن الأفراد والمجتمعات من بناء قدراتهم الخاصة على المدى الطويل، مثل مشاريع الري والزراعة المستدامة.
إن التحول نحو التنمية يبدأ ببناء الإنسان، لأنه المحرك الأساسي لأي تغيير مستدام، وقد أظهرت دول أفريقية، مثل رواندا، كيف يمكن للتعليم والتمكين الاقتصادي أن يُحوّل أمة مدمرة إلى قصة نجاح، فقد أنشأت الحكومة العديد من برامج التعليم المهني والتمويل الصغير للنساء والفتيات، ما ساعد في تعزيز الإنتاجية الاقتصادية وتمكين المرأة.
لكن التنمية لا تتوقف عند التعليم فقط، بل تشمل تحسين البنية التحتية، وتعزيز الأمن الغذائي، وتوفير فرص العمل، فلم تكن قصة فتحية لتتحقق لولا مشاريع الري التي مولتها المنظمة الكويتية التنموية، مما مكّن المزارعين من زيادة إنتاجهم وتقليل اعتمادهم على الظروف المناخية المتقلبة، هذا النهج المتكامل يثبت أن التنمية المستدامة لا تُبنى بمشروع واحد، بل بشبكة متكاملة من الحلول، إن تجارب مثل تجربة فتحية تُعيد تعريف دور المنظمات الإنسانية، لتتحول من موزعي معونات إلى شركاء في بناء مجتمعات مستقلة. وكما يقال: “الفقر ليس قدرًا، بل نتيجة لنظام يمكن تغييره.”
في النهاية، تُعلمنا قصة فتحية وغيرها أن الإغاثة تُنقذ الأرواح، لكن التنمية تُعيد بناء الحياة، إنها ليست مجرد استجابة لأزمة، بل هي استثمار في المستقبل، وفرصة لتحويل المعاناة إلى أمل، والانكسار إلى انطلاقة، وكما قيل: "لا يمكنك أن تبني أمة بأيدٍ فارغة، لكن يمكنك أن تُعيد الأمل إذا ملأت تلك الأيدي بالعمل." إن هذا التحول هو التحدي الأكبر الذي يواجه الإنسانية اليوم، حيث تتطلب التنمية المستدامة قيادة حكيمة، وشجاعة في التخطيط، وتضامنًا في التنفيذ، ورؤية تدرك أن بناء المجتمعات ليس مجرد مشروع مؤقت، بل هو رحلة طويلة نحو تحقيق العدالة والكرامة والازدهار، وفقًا لما قاله مهاتير محمد: “التنمية لا تعني فقط تحسين الظروف الاقتصادية، بل هي عملية مستمرة تهدف إلى تحسين حياة الناس على المدى الطويل.”
إن دمج هذه الاستراتيجيات في مختلف أنحاء العالم، باستخدام دروس من تجربتي فتحية وغيرها، يمكن أن يساعد في بناء مجتمع عالمي أكثر استدامة وقوة، مستعدًا لمواجهة التحديات الاقتصادية والإنسانية في المستقبل.