الوقفة الأولى: التذكير بأن في هذا الشهر الكريم ثلاث فرص للمغفرة ينبغي أن يستحضرها المؤمن، وهو يستقبل هذا الشهر.
- من قام رمضان إيماناً، واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه[1].
- من صام رمضان إيماناً، واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه[2].
- من قام ليلة القدر إيماناً، واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه[3].
فهذه ثلاث فرص لا يصح بحال من الأحوال أن يفوتها المؤمن، فإنه إن فاتته واحدة أدرك الثانية، فإن فاتته الثانية أدرك الثالثة، ومن ضيع الثلاث فهو مضيع بحق.
ولهذا لما قال جبريل : رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له، قُل: آمين فقال النبي &o5018; : آمين[4].
فينبغي على المؤمن أن يضع ذلك هدفاً، أن يسعى لتحصيل هذه المغفرة من أجل أن يسعد، وينعم، ويفوز، فإن المؤمنين يفرحون في نهاية هذا الشهر، واليوم الذي يعقبه يكون يوم عيد، وهذا الفرح، وذلك العيد إنما هو بطاعة الله - تبارك، وتعالى - إنه فرح على التوفيق، والهداية، وهذا الإفضال من الله - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - فيُظهر الناس البهجة، ويلبسون أحسن الثياب، إظهاراً لهذا السرور، والغبطة على ما وفق الرب وهدى.
وليس العيد للتفريط، وليس العيد للتضييع، وإنما هو فرحٌ بطاعة الله ، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] فهذه ينبغي أن نستحضرها، ومن ثَمّ يجعل الإنسان أوقات سفره، وأشغاله بحيث لا تكون مزاحمةً لهذه الصلاة، ولا قاطعةً لها مع أن المسافر يكتب له ما كان عليه من العمل، وهكذا المريض، ولكن إن كان عن ذلك مندوحة بحيث يستطيع الإنسان أن يلازم هذه الصلاة - صلاة الليل، قيام الليل - فإنه لا يفرط بها بحال من الأحوال ليتحقق فيه: من قام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه احرص على هذا، اجعل السفر قبله، أو بعده، وهكذا باقي الصوارف، والشواغل.
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، برقم (37) وبرقم (2009)، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، برقم (759).
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان، برقم (38)، وبرقم (1901)، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، برقم (760).
أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية، برقم (1901)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح، برقم (760).
أخرجه البخاري في الأدب المفرد، برقم (646)، والبزار في مسنده، برقم (6252)، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (1888)، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد: “حسن صحيح”، برقم (503).
الوقفة الثانية: لماذا الصوم؟ هل مقصود الشارع - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - أن يجوع الإنسان؟! أن يترك طعامه، وشرابه فحسب؟! أن يغير المألوف من غير علة؟!
النبي &o5018; كما في الصحيحين يقول: من صام رمضان إيماناً، واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وإذا أردنا أن نعرف لماذا نصوم فلنتأمل ألفاظ هذا الحديث، ومن رواياته إيماناً إيماناً بماذا؟.
إيماناً أي: اعتقاداً بحق فرضيته - فرضية الصوم - وأن يصومه مصدقاً بوعد الثواب عليه، بوعد الله - تبارك، وتعالى - وَعَدَ بالثواب، والأجر، فهو يؤمن بأن الله فرض ذلك، وأنه من شرائع الدين، فيذعن، وينقاد قلبه لذلك، وهو مؤمن أيضاً بأن الله يجزي على هذا العمل - الصوم - ويوفي الصائمين أجرهم إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به[1] فهذا كله داخل في قوله: إيماناً فلا يكون ذلك من باب الموافقة للناس، أو العادة، رأى أهل البيت يصومون فوافقهم، لا، وإنما يكون ذلك إيماناً، وقد قرأت في بعض المقابلات قبل سنوات مقابلات مع شباب نصارى في بعض البلاد العربية يصومون، فسُئلوا عن هذا؟
فقالوا: رمضان فيه تغيير فالمسلمون من جيراننا، وأهل حينا يصومون، ثم هناك الموائد على الإفطار، وذكروا صنوفاً من الأطعمة، والمشروبات، فهم يتمتعون بالجلوس على تلك الموائد، فيكون ذلك بالنسبة إليهم لوناً من التغيير للمألوف، وليس ذلك الصيام قد صدر من إيمانٍ بأن الله شرعه، وفرضه، أو أنهم يؤمنون بأن الله يجزي على هذا العمل إيماناً، واحتساباً.
وأما الاحتساب فهو أن يطلب الأجر من الله y وأن يحتسب الثواب، وذلك بأن يصومه عن معنى الرغبة في ثوابه، طيبة نفسه بذلك، غير مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه.
هذا حاصل عبارات أهل العلم في تفسير هذه الجملة في هذا الحديث الشريف واحتساباً وإذا أردنا أن نعرض واقعنا على هذه الجملة نجد أن بعضنا قد يخالفها، فهو لا يحتسب في هذا الصيام، يستثقل، فإذا أعلن دخول الشهر تثاقل ذلك، وظهر منه ما يدل على تبرمه، وتسخطه، وإذا أعلن عن إكمال العدة في آخر الشهر فهو أيضاً يستثقل ذلك، ويتبرم، فمثل هذا الله - تبارك، وتعالى - غني عنه، وعن عمله، فينبغي على الإنسان أن يتقي ربه، وأن يعلم أن الله - تبارك، وتعالى - يعلم السر، وأخفى، لا يخفى عليه شيء فإذا ظهرت مثل هذه الكلمات فقد تأتي على عمله، ولا يكون له من صيامه إلا الجوع، والعطش، إنسان يستثقل العبادة، ويتكلم بلسانه، ويُظهر ذلك أمام الآخرين يتأفف من الصيام، ومن اقتراب شهر الصوم، ويتذمر، ويضيق صدره بسبب ذلك، فهذا ليس ممن يصدق عليه قوله: واحتساباً ولو كان عنده من الإيمان ما يكفي، ويفي فإنه لا يمكن أن يصدر منه مثل هذا السلوك، وأن يتفوه بمثل هذه الكلمات، ولكن إذا ضعف اليقين بوعد الله أو بشرعه فإن الإنسان يتبرم، ويستثقل الطاعة، والعبادة، وشرائع الإسلام.
الوقفة الثالثة: ما هي حقيقة الصيام؟ النبي &o5018; يقول: الصيام جُنة، وحصن حصين من النار[1] الصيام جُنة، كجُنةِ أحدكم من القتال[2] جُنة أي تُرس، ووقاية كجُنةِ أحدكم من القتال كالترس الذي يتقي به الإنسان النبال، وطعن الرماح، وضرب السيوف، فلا يصل إلى جسده منها شيء، فهكذا الصيام، جُنة، وحصن حصين من النار.
فهذه الجملة في كلام المصطفى &o5018; يتبعها أمور في مضامينها، فإن الأسباب التي توصل إلى النار يكون الصوم جُنةً منها أيضاً، كما يدل عليه روايات الحديث الأخرى، ولا منافاة، ومن ثَمّ جاء في بعض الروايات: الصيام جُنة ما لم يخرقها[3] لو كان مع أحدنا ترسٌ مخرق مشقق فإنه لا يقيه، ولا يحصل مطلوبه، ومقصوده من حمله، هنا: الصيام جُنة ما لم يخرقها يخرقها بماذا؟
جاء في بعض رواياته الصحيحة: ما لم يخرقها بالغيبة[4] فدل ذلك على أن هذا الصوم يكون حرزاً لصاحبه ما لم يُخرق، فإذا خُرق بالغيبة فإن هذا الصوم يكون ناقصاً لا تحصل منه مقاصده، وآثاره التي أراد الشارع أن تحصل، وتتحقق.
فالمراد أن هذا الصوم سترة من النار، ومن الأسباب التي توصل إلى النار، وما هي الأسباب التي توصل إلى النار؟
الآثام؛ لما فيه من الإمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، فمن كف نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساتراً له من النار، ومن ثَمّ كان الصوم جُنة.
ومن ذلك قول النبي &o5018; : فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يسخط، فإن سابه أحدٌ، أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم[5].
والرفث يدخل فيه الكلام البذيء، الكلام الفاحش، ويدخل فيه الجماع، ومقدمات الجماع في لغة العرب، وإن كانت المباشرة، والقبلة للصائم تجوز إذا أمن من مواقعة الجماع، ويدخل في الرفث الكلام في شيء من ذلك - يعني الجماع - مع النساء، وذلك في قوله - تبارك، وتعالى - عن الحج: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] ففي الحج يدخل فيه الجماع، ومقدمات الجماع، والحديث عن الجماع بحضرة النساء.
أما فيما يتصل بالصوم فإنه يدخل فيه الكلام الفاحش، والبذيء، والجماع، كل ذلك داخلٌ فيه، وهكذا التشاتم، والتلاعن، ويدخل فيه الباطل، واللغو، والزور بجميع صوره، وأنواعه، وأشكاله سواء كان ذلك من المقاولة بالكلام، أو كان ذلك من حضور مجالسه - مجالس الباطل، والزور - أو كان ذلك من معافسته، وملابسته بأي لون كان، ومن ثَمّ فإن النبي &o5018; قد جاء عنه في بعض روايات هذا الحديث: الصيام جُنة فلا يرفث، ولا يجهل[6] وفي رواية: فلا يرفث، ولا يجادل[7].
إذن لا يرفث، ولا يجهل، ولا يجادل، ولا يسخط، كل ذلك ممتنع فيه، ومعنى: لا يجهل أي: لا يفعل شيئًا من أعمال أهل الجهل، وقد ذكر تحته العلماء الصياح - رفع الأصوات - إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 19] والسفه، ويدخل فيه أيضاً الاعتداء على الناس، وأذية الناس بأي لونٍ كان، كما يدل عليه بعض الروايات فيما سيأتي.
العدوان على الناس، أذية المسلمين، والأذية اليوم صار لها أبواب سهلة مشرعة، يقارفها الإنسان بأيسر الأسباب، وهو في بيته، هذه الكتابات التي أصبحت في متناول الجميع يكتب في هذا، ويتكلم في هذا عبر وسائل الاتصال، والإعلام الجديدة، يكتب ما يشاء، يلمز هذا، ويطعن في هذا، ويقع في عرض هذا، ويشكك في نزاهة هذا، وينتقص هذا، المهم أن يتحدث، وأن يكتب، وأن يقول: أنا موجود، فإذا كان لا يملك من المقومات، والفضائل، والعلم الصحيح الذي يجعل الناس يتوجهون إلى كلامه، ومقاله، وكتابته فإنه يستدعي ذلك منهم بألوان الفجور، والقبيح من القول من غير خوف من الله - تبارك، وتعالى - ولا حياء من الناس، لاسيما إذا كان ذلك بأسماء مجهولة، ولكن الله - تبارك، وتعالى - يعلم ذلك مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18].
وأما السخط فيدخل فيه الخصام، والصياح، وكثير من الناس ينفرط صبره، وتتغير أخلاقه مع الصوم؛ لأنه قد فطم من بعض مألوفاته، وشهواته، ولذاته، فإذا كلمه أحد أو وقع له شيء مما لا يروق له فإنه لا يتورع من إطلاق لسانه، ورفع صوته، والمخاصمة، فيتكلم بكلام لا يليق بحال من الأحوال أن يصدر من الصائم، ولا من غير الصائم، ولكنك تعجب حينما ترى ذلك هنا، أو هناك حينما تراه يصدر من الصائمين.
ليست الأحلامُ في حال الرضا
إنما الأحلامُ في حال الغضب[8].
ليس الإنسان الحليم هو الذي حُققت له مطالبه، وعامله الناس بأحسن الوجوه، وأكملها فعند ذلك يبدي لهم بشاشةً، وتبسماً، إنما الأحلام الحقيقية هي في حال الغضب، والاستفزاز، فانظر إلى حال بعضنا حينما يشعر أن بعض حقه قد انتقص، أو أن الطائرة تأخرت، أو غير ذلك من الأسباب، فترى من الحماقات، والتصرفات، والجهالات ما يذكرك بقول النبي &o5018; هنا: من لم يدع قول الزور، والجهل، والعمل به فليس لله حاجةٌ بأن يدع طعامه، وشرابه.
من لم يدع قول الزور يدخل في الباطل في جميع صوره من الكذب، والغيبة، ولمز الناس، والكلام في أعراضهم، والتكلم بلا علم، والقول على الله بلا علم، ونشر الفاحشة في الذين آمنوا، كل ذلك داخل في قوله: من لم يدع قول الزور، والجهل.
والجهل: بالعدوان على الناس، والعمل به: والعمل بالزور، والعمل بالجهل، وانظر إلى صنوف المزاولات، والتصرفات في أيامنا هذه مما يدخل في الجهل، والزور، والعمل بهما.
فهذا الزور قد يكون عبر مسلسل تشوه فيه الحقائق، والرموز الكبار العظيمة، فتعرض بطريقة ممسوخة، وغالباً ما يكون من يعرضها قومٌ لا خلاق لهم، عُرفوا بألوان الفجور، والبعد عن الفضائل، ثم يأتي الواحد منهم يحاول أن يحاكي كذباً، وزوراً، وتصنعاً تمجه القلوب، والفطر السليمة أن يحاكي أولئك القامات الكبار، فهذا من الزور.
ويدخل في الزور، والعمل به حضور مشاهد، ومجالس الزور، هذه كما قال الله - تبارك، وتعالى - : وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان: 72] فيدخل فيه جميع مجالس الباطل، فعجباً لمن يصوم، ثم يفطر على الزور، ومجالس الزور، وأقبح من ذلك ما عوَّدنا بعض أهل الزور، والجهل من برامج هابطة يعدونها لشهر الصيام، والقرآن، يستهزئون بها بأهل الإيمان، وبشرائع الإسلام، وينقضون ذلك، في كل عام يروجون زوراً جديداً.
فمثل هذا لا يجوز لأحد أن يشهده، فيكون مشاركاً لهؤلاء في باطلهم من لم يدع قول الزور، والجهل، والعمل به فليس لله حاجةٌ بأن يدع طعامه، وشرابه.
وفي حديث أنس : من لم يدع الخنا، والكذب فلا حاجة لله أن يدع طعامه، وشرابه[9].
الكذب بكلمة يقولها، يخاطب صاحبه، فيكذب، أو كان يكتب ذلك، وينشره، ويذيعه، فينتشر في الآفاق.
ويدخل في هذا الكذب ما ينشره بعضنا من أمور لا نتحقق منها فيبادر إلى نشر ذلك، ولو قيل له: أثبِتْ هذا لا يستطيع، هل شهدت ذلك؟ هل عندك فيه برهان؟ فإنه لا يستطيع أن يثبته بحال من الأحوال، إنما هي رسالة وصلت إليه فبادر إلى نشرها، وهذا كله داخل في الكذب، وهو مشارك فيه، وفي إشاعته في المجتمع.
من لم يدع الخنا، والكذب ويدخل في الخنا أيضاً، والزور تلك المشاهد التي تهدم الفضيلة في نفوس مشاهديها في مواقع الرذيلة عبر الشبكة، فهذا داخل فيه، وهكذا النساء الكاسيات العاريات في القنوات، وفي غير القنوات حيث أصبحت وسائل ذلك كثيرة كما تعرفون من لم يدع الخنا، والكذب فلا حاجة لله أن يدع طعامه، وشرابه.
وهذا يدل على أنه لا يراد من الصوم مجرد الجوع، والعطش، ليس هذا هو المقصود، إنما المقصود ما وراء ذلك من المعاني، والتزكية، والتهذيب لهذه النفوس، وكسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة، فيحصل للإنسان شيءٌ من الترويض، والإقبال على ربه - تبارك، وتعالى - والاستجابة لأمره، ولأمر رسوله - عليه الصلاة، والسلام -.
المقصود: أنه يدخل في الحديث ألوان الكذب في البيع، والشراء، أو الخصومات، أو في المجالس، أو الكذب لاستدرار العطف أحياناً من قبل بعض السُّؤَّال الذين يسألون الناس، ويتكففونهم، فقد يذكرون أموراً لا حقيقة لها، ويدخل في ذلك الإشاعات الكاذبة، وفي الحديث: ليس الصيام من الأكل، والشرب، إنما الصيام من اللغو، والرفث، فإن سابّك أحد، أو جهل عليك فقل: إني صائم، إني صائم.
أو جهل عليك الجهل بمعنى العدوان إن سابّك أحدٌ، أو جهل عليك قد ينفرط صبر الإنسان - كما سبق - فيرد بالمثل، ولكن كما قلت:
ليست الأحلامُ في حال الرضا
إنما الأحلامُ في حال الغضب
إذا جاء الاستفزاز فهنا تظهر التقوى، والتربية، والأخلاق، فيقول: إني صائم، إني صائم وفي الحديث: رُبّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع[10] يعني: لا أجر له، ولا أثر لهذا الصوم في التربية، والتزكية ورُب قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر - نسأل الله العافية - لماذا لم يكن من قيامه إلا السهر؟ إما أنه يرائي، وإما أنه لا حضور لقلبه في صلاته كلها من أولها إلى آخرها، والإنسان ليس له من صلاته إلا ما عقل منها، وانتبه أنك بحاجة إلى حضور القلب في هذه الصلاة، وإن من أعظم دواعي حضور القلب أن يتخفف الإنسان من الطعام، والشراب، فإن التخمة، وكثرة الأكل من أعظم الصوارف التي تصرفنا عن التدبر، والتعقل في صلاتنا، وقراءتنا، وعباداتنا كلها، نحن نسمع قراءة الإمام من أولها إلى آخرها، ولكن قلوبنا قد تكون منصرفةً من أول القراءة إلى آخرها بحيث لو سُئل الإنسان ماذا قرأ الإمام في هذه الصلاة؟ فإنه لا يدري، ماذا قرأ في صلاة العشاء؟ لا يدري؛ لأن القلب معطل، المقصود: أن هذه العبادة فيها امتحان لهذه النفس، هذه العبادة، هذا الصيام، هذا الشهر هو ترويض لهذه الشهوات الجسمانية، تروض به النفوس الجامحة، ويحصل به فطام عن شهوات البطن، والفرج، وليس ذلك فحسب، بل واللسان كما دلت عليه الأحاديث الأخرى، وذلك آكد من الطعام، والشراب، ولهذا قال النبي هنا: رُب صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع.
وقال في الحديث الذي قبله: ليس الصيام من الأكل، والشرب، إنما الصيام من اللغو، والرفث فدل على أن الصوم مطلوب أيضاً في هذه الأمور، فهناك فطام للنفوس من شهوة البطن، والفرج، وشهوة اللسان، والأذن، والعين، وما نقص من ذلك فهو نقص من حقيقة الصيام، فينبغي علينا أن نتعاهد هذا الصوم، وأن ننظر هل حققنا ذلك على الوجه الصحيح، أو أن الإمساك صار فقط عن الطعام، والشراب، والجماع، إذ إن الصوم ليس بإمساكٍ عن بعض الشهوات، ثم هو انفلات في باقي الشهوات، واللذات، ليس الصيام بإمساك عن الطعام، والشراب في النهار، ثم ينهمك الإنسان في جميع شهواته في الليل، ليس الصيام أن تجوع البطون، وأن تكون الأكباد ظامئةً في النهار، وتكون الأعضاء في حال من الفتور تنقبض معها الأسارير، ويظهر معها من سوء الخلق، وبذاءة اللسان ما يظهر، ليس هذا هو مقصود الشارع، وإنما لا يتحقق مطلوب الشارع إلا بفطام النفوس عن جميع الشهوات التي قد وزعت على الجوارح، فالأذن لها شهوات في الاستماع، والعين لها شهوات للنظر إلى ما حرم الله - تبارك، وتعالى - واللسان له شهوات جامحة، فالغيبة قد تكون في بعض الأحيان ألذ على بعض الناس من الطعام، والشراب.
وهكذا أيضاً فإن شهوات اللسان قد تربو على شهوات الجوارح، فيحتاج الإنسان إلى مجاهدة كبيرة، ولا يقتصر في صبره، ومجاهدته على ترك الطعام، والشراب فحسب، ومن هنا يكون الصوم مدرسةً في المجاهدة، وترويض النفوس، وتزكيتها.
فينبغي أن نحدد الهدف في بداية هذا الشهر، هذا الصوم هل نريد منه القدر المجزئ فحسب؟ فإن ذلك يحصل بترك المفطرات من الطعام، والشراب، والجماع، وما إلى ذلك من ألوان المفطرات، فهذا الصوم المجزئ الذي لا يطالب صاحبه بالقضاء، وأما الصوم الذي يكون تربية تتحقق فيه مقاصد الشارع فإنه فوق ذلك بمراحل، فحدد الهدف منذ البداية ماذا تريد من هذا الشهر؟ هل تريد صوماً مجزئاً؟ فهذا أمر ميسور حتى البهيمة يمكن أن لا تُعطى الطعام، والشراب إلا من بعد المغرب إلى آخر الليل، ثم في النهار يُمنع عنها الطعام، والشراب، لكن هل حصل لها التهذيب، والتزكية فتتحول إلى شيء آخر؟
لا، ولذلك نحتاج إلى أن نتعقل، وأن نعرف ما نأتي، وما نذر، فلنحدد هدفنا منذ البداية، ولا زلنا في أول الشهر، فصوم هذا الشهر مدرسة عملية تربى فيها النفوس على أمور من الإيمان، والتقوى، والأخلاق، والفضائل من السخاء، والبذل، والشعور بالآخرين، وتربية الأمانة في نفس الإنسان، ومراقبة الله u وحده دون ما سواه، والإقبال على سائر الطاعات، وما يصحب ذلك من الاشتغال بالقرآن، وتدبره، فيجتمع للإنسان من ألوان الهدايات، والأنوار ما يحصل به الزكاء، والكمالات، وهذا من فضل الله u ونعمه على عباده أن يسر لهم هذا الشهر في كل عام، فالنفوس يحصل لها شيء من الشرود، والغفلة مع معافسة الشهوات، ومطالب الحياة بأنواعها، ثم بعد ذلك يأتي هذا الشهر ليصقلها، وليعيدها إلى جادتها، وطريقها الصحيح، فتستقيم على أمر الله - تبارك، وتعالى - وتحصل لها الذكرى، وتحصل لها اليقظة، ويكون للإنسان من الفكر، وحياة القلب ما يحمله على طاعة مولاه، والكف عن كل ما لا يليق، ولذلك نجد في قلوبنا في هذا الشهر من الرغبة في الخير ما لا نجده في غيره، وهذا لا يستطيع أحد أن يدفعه عن نفسه، كل أهل الإيمان يجدون ذلك لكن على تفاوت، فمن البداية فلنكثِّر هذه المعاني، ولنملأ النفوس بالإيمان، ومعاني الإيمان؛ لتحصل لنا هذه التقوى.
فهذا الشهر مستشفى يجد فيه كل مريض دواءه، فهذا يستشفي به من مرض البخل، والشح، وهذا يستشفي به من مرض البِطنة، وهذا يستشفي به من مرض الغفلة، وهذا يستشفي به من مرض قسوة القلب، وصلابته، وصدئه؛ ولهذا كان هذا الشهر متنقلاً تارة في الشتاء، وتارة في الصيف، وتارة في وقت الاعتدال؛ ليحصل الترويض لهذه النفوس بجميع هذه المواسم، والفصول، فإن من النفوس ما لا يحصل لها الترويض إلا بهذا، ومنها ما لا يحصل لها الترويض إلا بذاك، فكان دائراً لا يتفق مع أهواء الناس، وشهواتهم، ومطلوبات نفوسهم، فتارة في الشتاء، وتارة في الصيف، وتارة في غيرهما، وهكذا.
فهذا الصوم إذا كان على الطريق التي شرعها الله u وأرادها فإنه يحرر نفوسنا من أسر العادات التي تأسرنا أسراً، فلا يستطيع الإنسان الفكاك، والخلاص منها، فهذا يعتقنا من ذلك فيكون العبد حرًّا لربه، ومولاه، لا تؤسر نفسه، ولا تنقاد، ولا يكون له نوع عبودية لغير ربه، وفاطره، وخالقه، هذه العبودية قد تكون للبطن، وقد تكون للفرج، وقد تكون للسان، وقد تكون للمال، وقد تكون لغير ذلك.
ولهذا قال الله u: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم: 59] ما قال: وعافسوا الشهوات، إنما قال: “اتبعوا” فهذه الشهوات تكون معبودة لصاحبها أحياناً يتبعها، وينقاد لها، ويقدمها على محابِّ الله - جل جلاله، وتقدست أسماؤه - فبهذا الصوم نتحرر من رق الشهوات، وأسر العادات فتحصل بذلك الحرية الحقيقية التي ينبغي أن يطلبها الجميع، وهي الحرية من أسر الشيطان، وأسر الشهوات بجميع صورها، وأشكالها؛ لتكون العبودية لله u وحده دون ما سواه.
وهكذا أمور كثيرة تجمعها التقوى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، ولهذا ينبغي علينا أن نراعي هذا من أول شهرنا هل هذا الصوم، وهذه الحال في مثل هذه الأيام تربي التقوى في نفوسنا، أو لا؟ فإن كان ذلك لا يحصل، ولا يتحقق في حالنا التي نحن عليها الآن فينبغي أن نراجع، وأن نعيد النظر من أجل أن نصوم صوماً على الوجه الذي يرضيه عنا - تبارك، وتعالى -.
هذا معنى كبير يحتاج الإنسان أن يراجعه، وأن يتأمله، وأن ينظر فيه مع نفسه في خاصته.
والله - تبارك، وتعالى - يقول: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة: 14] الإنسان أعلم بنفسه، وواقعه، وخلجات نفسه، وأعماله، ومزاولاته.
أخرجه أحمد في المسند، برقم (9225)، وقال محققوه: “حديث صحيح، وهذا إسناد حسن”، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (3881).
أخرجه النسائي، كتاب الصيام، ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم، برقم (2230)، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب ما جاء في فضل الصيام، برقم (1639)، وأحمد في المسند، برقم (16278)، وقال محققوه: “إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن صحابيه لم يخرج له سوى مسلم”، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3879).
أخرجه النسائي، كتاب الصيام، ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم، برقم (2233)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (6438).
- قالها الدارمي -رحمه الله- مفسراً لرواية: الصوم جنة مالم يخرقها فقال: قال أبو محمد: “يعني بالغيبة” انظر سنن الدارمي، برقم (1773)، وعزاها الحافظ ابن حجر للدارمي -رحمهما الله- فقال: “زاد الدارمي بالغيبة”، فتح الباري لابن حجر (4/ 104)، وليس كما قال، وإنما قالها مفسراً كما تقدم.
أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم، برقم (1904)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، برقم (1151).
أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب فضل الصوم، برقم (1894)، ومسلم، كتاب الصيام، باب حفظ اللسان للصائم، برقم (1151).
عزاها الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/ 104)، لسعيد بن منصور.
انظر: ربيع الأبرار (2/225)، والدر الفريد وبيت القصيد (9/58)، وتفسير ابن رجب الحنبلي (2/235).
أخرجه الطبراني في الأوسط، برقم (3622)، وقال عقبه: “لم يرو هذا الحديث عن ابن جريج إلا عبد المجيد، تفرد به عبد الله بن عمر الخطابي، ولا يُروى عن أنس إلا بهذا الإسناد” والصغير، برقم (472)، وعبد الرزاق في المصنف، برقم (7455).
أخرجه ابن ماجه، كتاب الصيام، باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم، برقم (1690)، والنسائي في الكبرى، برقم (3236)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3488).