تُعد المساجد من أبرز المعالم الدينية والثقافية في العالمين العربي والإسلامي، حيث لا تقتصر أهميتها على كونها أماكن للصلاة فحسب، بل تمتد لتكون مراكز للتعلم والتوجيه الاجتماعي والديني.
وتعد المساجد بمثابة قلب المجتمع المسلم، إذ تجمع بين الأفراد في أوقات الصلاة لتوحدهم في عبادة الله وتذكيرهم بالقيم والمبادئ الإسلامية.
وفي الدول العربية والإسلامية، تعتبر المساجد من الأماكن التي يعكس فيها الفرد ارتباطه العميق بالإيمان وحرصه على ممارسة شعائر دينه. بالإضافة إلى دورها الروحي، تلعب المساجد دوراً اجتماعياً وثقافياً مهماً، حيث تشكل بيئة مناسبة للتعليم، كدروس القرآن الكريم والحديث النبوي، فضلاً عن كونها مكانًا للتضامن المجتمعي من خلال تقديم الدعم والمساعدة للفقراء والمحتاجين. كما أن المساجد تعد منابر لتمرير القيم الإنسانية النبيلة، مثل العدالة والمساواة، وتعزيز روح التعاون بين المسلمين. لذلك، تشكل المساجد حجر الزاوية في بناء المجتمعات الإسلامية، وتسهم بشكل مباشر في تعزيز الهوية الدينية والثقافية للأفراد والمجتمعات. وفي هذه المساحة سنسلط الضوء على أهم المساجد في الدول العربية والإسلامية ودورها في بناء المجتمعات الإسلامية.
 
اشتهر جامع الزيتونة في تونس، باعتباره من أوائل الجوامع في العالم وبكونه رمزاً للعلم والدين ومقاومة الاستعمار في مختلف الحقب التاريخية، فضلاً عن جمالية معماره.
ويعتقد أغلب المؤرخين أن الجامع «الأعظم»، كما يصفه التونسيون أنه تم تشييده عام 732 ميلادية على مساحة خمسة آلاف متر مربع من بينها 1344 متراً مربعاً مساحة مغطاة في قلب المدينة العتيقة.
وهو ثاني أقدم مسجد في تونس بعد جامع عقبة بن نافع وأسست في رحابه أول مدرسة فقهية. وإضافة إلى دوره الديني والعلمي كان للجامع منذ إنشائه دور وطني حيث استخدمت صومعته المطلة على البحر مدة طويلة موقعا للدفاع عن مدينة تونس.
كما كان معقلاً للمناضلين ضد الغزاة والمستعمرين على مر التاريخ على غرار البيزنطيين والنورمانديين والإسبان والفرنسيين وشهد ملاحم عديدة ضد الغزاة من البحر حتى بات في الوجدان عنوانا للدفاع عن الهوية التونسية.
 يمتد الجامع على مساحة 5 آلاف متر مربع ويحتوي على تسعة أبواب. وجاء تخطيط المسجد على شكل مستطيل غير متساوي الأضلاع وهو يشبه إلى حد كبير جامع عقبة بن نافع  بالقيروان. 
ويحيط بفنائه رواق يرتكز على أعمدة ذات تيجان قديمة، بينما الأروقة الثلاثة الأخرى ترتكز على أعمدة من الرخام الأبيض المجلوب من ايطاليا خلال القرن التاسع عشر. وتتوسط هذا الفناء المزولة. وتحتل الصومعة المربعة الزاوية الشمالية الغربية للفناء. ويبلغ ارتفاعها 43 متراً وهي تشبه كثيراً صومعة جامع القصبة.
وتنوعت سقوف الجامع، فجاء سقف بيت الصلاة مغطىّ بعوارض خشبية بارزة من الداخل ومنبسطا مسطحا من الخارج. وترتكز هاته السقوف على أعمدة من الرخام جُلب أغلبها من المواقع الأثرية الرومانية والبيزنطية بالبلاد التونسية. وتعلو المحراب قبة مبنية بحجارة الحرش مرصفة بإتقان ذات قاعدة مربعة يعلوها افريز وتحتوي على زخارف صغيرة ذات أشكال مقوسة. ويبرز من القاعدة شكل أسطواني مزخرف بعشرة أعمدة ذات تيجان مورّقة، ويوجد بها عشرة نوافذ مقوّسة، يعلوها شكل نصف كروي مضلّع.
 وتشتمل قبة المحراب على نقيشة تضم اسم المؤسس وتاريخ البناء، وتتمثل زخرفة المحراب في لوحة رخامية منحوتة ونقوش جصية مختلفة في غاية الإتقان.
أقدم جامع
يعد جامع الزيتونة، أول جامعة في العالم الإسلامي وهو جامعة وجامع بمدينة تونس، وهو أقدم جامع في تونس بعد المسجد الجامع في القيروان. يعد ثاني الجوامع التي بنيت في “إفريقية” بعد جامع عقبة بن نافع في القيروان، يرجح المؤرخون أن من أمر ببنائه هو حسان بن النعمان عام 79 هـ وقام عبيد الله بن الحبحاب بإتمام عمارته في 116 هـ736م.
وكان جامع الزيتونة محور عناية الخلفاء والأمراء الذين تعاقبوا على إفريقية، إلا أن الغلبة كانت للبصمات الأغلبية ولمنحى محاكاته بجامع القيروان وقد منحته تلك البصمات عناصر يتميز بها إلى اليوم.
وتتمثل أهم هذه العناصر في بيت صلاة على شكل مربع غير منتظم وسبع بلاطات مسكبة معمدة تحتوي على 15 متراً مربعاً وهي مغطّاة بسقوف منبسطة. وقد اعتمد أساسا على الحجارة في بناء جامع الزيتونة مع استعمال الطوب في بعض الأماكن.
وتتميّز قبّة محرابه بزخرفة كامل المساحة الظاهرة في الطوابق الثلاثة بزخارف بالغة في الدقة تعتبر النموذج الفريد الموجود من نوعه في العمارة الإسلامية في عصورها الأولى.
ومثلما اختلف المؤرخون حول باني المسجد الجامع، فقد اختلف الرواة حول جذر تسميته، فمنهم من ذكر أن الفاتحين وجدوا في مكان الجامع شجرة زيتون منفردة فاستأنسوا بها وقالوا: إنها لتؤنس هذه الخضراء وأطلقوا على الجامع الذي بنوه هناك اسم جامع الزيتونة.
أول جامعة إسلامية
لم يكن المعمار وجماليته الاستثناء الوحيد الذي تمتّع به جامع الزيتونة، بل شكّل دوره الحضاري والعلمي الريادة في العالم العربي والإسلامي إذ اتخذ مفهوم الجامعة الإسلامية منذ تأسيسه وتثبيت مكانته كمركز للتدريس وقد لعب الجامع دورا طليعيا في نشر الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب وفي رحابه تأسست أول مدرسة فكرية بإفريقية أشاعت روحا علميّة صارمة ومنهجا حديثا في تتبع المسائل نقدا وتمحيصا ومن أبرز رموز هذه المدرسة علي ابن زياد مؤسسها وأسد بن الفرات والإمام سحنون صاحب المدوّنة التي رتبت المذهب المالكي وقننته.
وكذلك اشتهرت الجامعة الزيتونية في العهد الحفصي بالفقيه المفسّر والمحدّث محمد بن عرفة التونسي صاحب المصنّفات العديدة وابن خلدون المؤرخ ومبتكر علم الاجتماع. إلا أن الجامع عرف نكسة كبرى عندما دخله الجيس الإسباني في صائفة 1573 فيما يعرف بوقعة الجمعة، واستولوا على مخطوطاته، ونقلوا عددا منها إلى إسبانيا وإلى مكتبة البابا .
تخريج آلاف العلماء
تخرّج من الزيتونة طوال مسيرتها آلاف العلماء والمصلحين الذين عملوا على إصلاح أمّة الإسلام والنهوض بها. إذ لم تكتف جامعة الزيتونة بأن تكون منارة تشع بعلمها وفكرها في العالم وتساهم في مسيرة الإبداع والتقدم وتقوم على العلم الصحيح والمعرفة الحقة والقيم الإسلامية السمحة، وإنما كانت إلى ذلك قاعدة للتحرّر والتحرير من خلال إعداد الزعامات الوطنية وترسيخ الوعي بالهوية العربية الإسلامية ففيها تخرج المؤرخ ابن خلدون وابن عرفة، والتيجاني والو الحسن الشاذلي وإبراهيم الرياحي وسالم بوحاجب ومحمد النخلي ومحمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير، ومحمد الخضر حسين شيخ جامع الأزهر ومحمد العزيز جعيط والمصلح الزعيم عبد العزيز الثعالبي وشاعر تونس أبو القاسم الشابي صاحب (ديوان أغاني الحياة (والطاهر الحداد صاحب كتاب (امرأتنا في الشريعة والمجتمع والتعليم الإسلامي وحركة الإصلاح في جامع الزيتونة) ومن حلقاته العلمية برز المصلح الجزائري ابن باديس والرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين وغيرهم كثير من النخب التونسية والمغاربية والعربية.
لقد تجاوز إشعاع جامعة الزيتونة حدود تونس ليصل إلى سائر الأقطار الإسلامية ولعلّ المفكر العربي الكبير شكيب ارسلان يوجز دور الزيتونة عندما اعتبره إلى جانب الأزهر والأموي والقرويين أكبر حصن للغة العربية والشريعة الإسلامية في القرون الأخيرة.
 لقد مرّت الآن أكثر من 1300 سنة على قيام جامع الزيتونة والذي شهد ومنذ بنائه تحسينات وتوسعات وترميمات مختلفة بدءا من العهد الأغلبي حتى الوقت الحالي، ومرورا بالحفصيين والمراديين والحسينيين، وهم آخر ملوك تونس قبل إقرار النظام الجمهوري لذلك حافظ هذا الجامع باستمرار على رونقه ليبقى في قلب كل المناسبات، وليكون شاهدا على تأصل تونس في إسلامها منذ قرون وقرون. ومع دوره كمكان للصلاة والعبادة كان جامع الزيتونة منارة للعلم والتعليم على غرار المساجد الكبرى في مختلف أصقاع العالم الإسلامي، حيث تلتئم حلقات الدرس حول الآئمة والمشايخ للاستزادة من علوم الدين ومقاصد الشريعة وبمرور الزمن أخذ التدريس في جامع الزيتونة يتخذ شكلاً نظامياً حتى غدا في القرن الثامن للهجرة عصر (ابن خلدون) بمثابة المؤسسة الجامعية التي لها قوانينها ونواميسها وعاداتها وتقاليدها ومناهجها وإجازاتها، وتشدّ إليها الرحال من مختلف أنحاء المغرب العربي طلبا للعلم أو للاستزادة منه. وقد ساهم جامع الزيتونة خلال فترة الاستعمار الفرنسي في المحافظة على الثقافة العربية الإسلامية لتونس، وقاوم بصلابة محاولات القضاء على انتماء تونس العربي الإسلامي، وكان جامع الزيتونة هو المدافع عن اللغة العربية في هذه الفترة الحرجة من تاريخ تونس بعد أن فقدت اللغة العربية كل المدافعين عنها تحت تأثير وسيطرة الاستعمار، مما جعل الحاكم الفرنسي لتونس يقول: ((عندما قدمت الي تونس وجدت أكثر من عشرين ألف مدافع)) وهو يقصد طلاب العلم في جامع الزيتونة.