الشيخ الدكتور خالد بن عثمان بن علي السبت وُلد عام 1384هـ (1964م) في مدينة الدمام، المملكة العربية السعودية. حصل على درجة البكالوريوس في أصول الدين من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1405هـ (1984م)، ثم نال درجة الماجستير في التفسير وعلوم القرآن من كلية القرآن بالجامعة الإسلامية عام 1412هـ (1991م) عن بحثه “دراسة تقويمية لكتاب مناهل العرفان للزرقاني”. وفي عام 1416هـ (1995م)، حصل على درجة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن من نفس الكلية بأطروحته “قواعد التفسير جمعًا ودراسة» .
يعمل الدكتور خالد السبت حاليًا أستاذًا مشاركًا في كلية التربية (قسم الدراسات القرآنية) بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل في الدمام . له العديد من المؤلفات، أبرزها: “قواعد التفسير” ، “مناهل العرفان (دراسة وتقويم)” ، “العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير” “فقه الرد على المخالف” ، “أعمال القلوب” ، “الخلاصة في تدبر القرآن الكريم” ، “القواعد والأصول وتطبيقات التدبر” ، تحقيق كتاب “نور البصائر والألباب في معرفة الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب” للشيخ السعدي ، تحقيق كتاب “القواعد الحسان” للشيخ السعدي
يواصل أ.د خالد بن عثمان السبت ،شروح بعض الكتب ذات العلم النافع للمسملين، ومن تلك الكتب معاني الأذكار - حصن المسلم- يقول الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36] في هذه الشهور العظيمة نتحدث في بقعة هي من أحب البقاع إلى الله -تبارك وتعالى- وهي المساجد، عن مطلب يُعد من أجل المطالب وأشرفها، وهو الكلام على معاني الأذكار؛ وذلك أن الذكر هو من أجل الأعمال، وأفضلها، وأحبها إلى الله ، فالاشتغال به اشتغال بمطالب جليلة، والتعرف على معانيه يُعد من أشرف العلوم وأفضلها.
وطلاب العلم يستشرحون كلام المصنفين من العلماء وهم بشر يصيبون ويخطئون، ويحصل لهم من السهو والغلط ما لا ينفك منه البشر، وهذا كلام الله وكلام رسوله &o5018; الذي فيه جوامع الكلم، وهو الحق والهدى والصواب الذي متى ما ثبت فإنه لا يتطرق إليه خطل ولا خلل ولا غلط، وإنما هو الهدى بحذافيره.
فالاشتغال بهذا يبصرنا بمعاني هذه الأذكار الجليلة العظيمة التي نرددها صباح مساء، وفي صلاتنا، وفي تحولنا وتنقلنا، ولكننا في كثير من الأحيان نقولها من غير حضور القلب، كما أننا نرددها في أحيان كثيرة، ونحن لا نتفطن لما في مضامينها من المعاني العميقة، والدلالات العظيمة، بل لربما يصدر من الواحد منا ما يقتضي خلاف ما يردده، وهذا شيء مشاهد تجد الرجل لربما يركب الطائرة، أو يركب السيارة وهو يسافر إلى بلاد لا يحل له السفر إليها، أو إلى مقاصد لا يجوز له أن يقصدها من الأمور المحرمة، ثم هو يقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى[1].
ولربما وضع في أذنيه سماعة يسمع الأغاني والمعازف، وهو يردد بلسانه هذا الدعاء، وهذا الذكر الذي يقال في السفر، بل لربما يُذكر في بعض الطائرات، ويعقبه من أصوات المعازف أو يسبقه ما يدل على استخفاف واستهتار وجهل بالغ، وغفلة عظيمة عن مضامين هذا الذكر الذي يردد على مسامع الناس، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، وأي عمل ذاك الذي يرضاه على هذه الحال التي يكون عليها هذا المسافر الذي سافر ليعصي الله -تبارك وتعالى-؟! هذه غفلة.
 
 

- الإصلاح يبدأ بالنفس  فأعمى القلب لا يمكن أن يدل الناس ولا يمكن أن يبصرهم
- جند إبليس وحزبه يجتمعون على حرب المؤمن بإرسال سرية بعد سرية تغزوهم وتشككهم في دينهم

 
هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، كما تصدأ المعادن القابلة لذلك كالنحاس، والفضة، وغيرهما، فهذا الذكر يجلوه فيجعله كالمرآة، وإذا تُرك فإنه يعود إليه هذا الكدر، والصدأ إذا كانت المرآة تصدأ ويعلوها ويعتريها ما يعتريه من الأكدار فتتشوش الرؤية ولا تكون واضحة، فهكذا هذا القلب يصدأ، يصدأ ويعتل بأمرين: بالغفلة، والذنب كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[2]، وجلاؤه من الذنب بالاستغفار والتوبة، أن يكثر الإنسان من الاستغفار الذي يتضمن توبة حقيقية، وليس الاستغفار الذي يكون جاريًا على اللسان بمجرده من غير قصد التوبة، والرجوع والأوبة من الذنب.
وأما هذه الغفلة فإنه يجلو قلبه منها بذكر ربه وفاطره، وخالقه ، من كانت الغفلة غالبة عليه وهو كرار الذنوب، ينظر إلى ما لا يحل، ويتعاطى ما لا يحل، ويأكل ما لا يحل، ويتفوه بما لا يحل، ويمشي إلى ما لا يحل، فما حال ذاك القلب الذي صار صاحبه بهذه المثابة؟
قليل الذكر، كثير الذنوب، فاجتمع عليه أسباب الغفلة، اجتمعت الغفلة من أطرافها، فهذا القلب يكون صدأ فيحتاج إلى جهد مضاعف من كثرة ذكر وتوبة واستغفار، هذا الصدأ الذي يقع على القلوب هو بحسب غفلتها وبحسب مقارفتها من الشهوات والمعاصي، المشكلة أن هذه الصدأ كذاك الذي يعتري المرآة فلا تنطبع الصور على حقيقتها كما هي! فالقلب أشد حساسية وتأثرًا من المرآة، فإذا وجد فيه هذه الصدأ لم يعد القلب يرى الأمور على ما هي به، فيزين له الباطل، يزين له المنكر، لن تعد صور المعلومات على ما هي عليه فتنطبع بقلبه على حقيقتها، وذلك ما يعرف بضعف البصيرة أو انطماسها، البصيرة التي هي بصر القلب.
إذا وجدت هذه الغفلة معناها هذه مرآة مشوشة لا يرى فيها الأشياء بصورة واضحة، زجاج السيارة مرآة السيارة إذا كانت مليئة بالغبار مليئة بالصدأ من جوانبها وفي وسطها كيف يستطيع أن يرى الأشياء فيها؟ يراها مشوشة.
فالقلب يتأثر ويصدأ، ومن ثم فإنه قد يرى الباطل حقًّا، ويرى الحق باطلاً، ويرى المنكر معروفًا، ويرى المعروف منكرًا، تجادل بعض الناس وتحاول أن تقنعهم بدلائل الكتاب والسنة؛ لتبين لهم الحق، ولكن بلا جدوى؛ لأنه لم يعد يرى تلك الأشياء على صورتها الحقيقية، فهو يرى المنكر أنه معروف، وأنه حق، فإذا كان العبد بهذه المثابة وازداد ذلك على قلبه وأغفله وأهمله هنا يحصل الران، يتكدس، تكون الطبقة غليظة كثيفة كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
وإذا حصل مثل هذا الران يكون القلب مطموسًا مغموسًا بالباطل والهوى فلا يفيق من غفلته، ولا يرجع عن ضلالته، ولا يرعوي من ذنب ومعصية ومقارفة محرمة، وإنما يسترسل في ذلك إلى الممات إلا من رحم الله -تبارك وتعالى-، فقد يبلغ من العمر عتيًا، قد يصيبه من الأمراض الخطيرة، ويقول له الأطباء: أيامك باتت معدودة، ومع ذلك على نفس الباطل، لا توبة، لا رجوع، لا بيان للحق، لا تكفير عن تلك الذنوب والسيئات والجرائر، أبدًا، إصرار إلى الممات هذا تفسير لحالات نراها ونشاهدها من البقاء على الفساد والشر والضلال إلى آخر رمق، هذا إذا وصل القلب إلى هذا المستوى الران، حجب كثيفة على هذا القلب فلا يصل إليه موعظة، لا يقبل النصيحة، لا يتأثر ولو سيقت له الدلائل، وجاءته أنواع النذر الحسية والمعنوية فإنه لا يمكن أن يقبل، أو يرجع، أو يتوب، أو يتأثر فهذا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا؛ كما قال النبي &o5018; في الحديث المشهور: تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا[3].
هذه الأشياء التي تعرض علينا، هنا مشهد وهناك مشهد، وهنا صفقة وهناك معصية أخرى تتصل بأكلة أو غير ذلك، فإذن كل ذنب منها هو في القلب نكتة سوداء، تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين أسود مربادًا، كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، مقلوب الكوز إذا كان مقلوبًا لا يمكن أن يستقر فيه الماء، إلا ما أشرب من هواه، وأبيض كالصفاة لا تضره فتنة ما قامت السماوات والأرض، السلامة من الفتن، السلامة من الفتن بجميع أنواعها ما الطريق؟
بعض الناس يتساهل في مثل هذه القضايا يقول الكلام على هذه الموضوعات، الكلام على قضايا تتعلق بالأذكار، الكلام على قضايا تتعلق بأعمال القلوب، الكلام على قضايا بل لربما يأتي من يقول الكلام على المنكرات الأخرى في إنكار المنكر ونحو ذلك هذه قضايا ينبغي أن لا يتشاغل بها الإنسان، يتشاغل بماذا؟
هو بزعمه الإصلاح العام القضايا العامة كيف يكون الإصلاح العام وهو مضيع لقلبه؟
كيف يكون الإصلاح العام وهو مفتون تتابع عليه هذه الفتن، وهذا القلب يتشرب، الذي قد أظلم قلبه، الذي لا يعرف ربه الذي لا يذكر ربه الذي لم يستنر قلبه بذكر الله -تبارك وتعالى- كيف يستطيع أن ينير للآخرين الطريق؟
كيف يستطيع أن يوجه؟ كيف يكون هاديًا وقلبه لم يهتد الاهتداء الصحيح المطلوب؟
ليست القضية عبارات وكلمات مزخرفة يركبها الإنسان من عند نفسه وينشرها هنا وهناك، عبر وسائل الإعلام الجديد، ثم هو يستخف بما جاء عن الله وعن رسوله &o5018; من هذه القضايا وأشباهها؛ بزعمه أنه يشتغل بأمور أعلى وأعظم وأهم، يبدأ الإصلاح بإصلاح هذه النفس، وإصلاح هذا القلب، والأعمى لا يمكن أن يدل الناس، ولا يمكن أن يبصرهم، ولكن قد علم كل أناس مشربهم.
فهذا الهوى هذه الغفلة هذه المعاصي كل ذلك يطمس القلب، ولهذا قال الله : وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28] مضيع مفرط الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يعلق على هذه الآية يقول: “الرجل إذا أرد أن يقتدي برجل انظر، -إذا أردت أن تقتدي بأحد من الناس- يقول: “فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين؟ هذا أول أمارة وعلامة، هل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ يقول: “فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطًا»[4]، هذا لا يستحق أن يقتدى به، هو غافل، فهذا مضيع للأمر الذي كان عليه أن يلتزمه وأن يقوم به فضيعه، فكيف يرجى من اتباعه فلاح ورشد وهدى؟
وهكذا يقول الحافظ ابن القيم: “ينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه، فإن وجده كذلك وإلا فليبعد عنه»[5]، وجد قلبه عامرًا بذكر الله  ووجد لسانه لاهجًا بذكره، إنسان حي القلب، كثير الذكر، صلته بربه قوية، فهذا الذي يستنير قلبه، مثل هذا يقول الحافظ ابن القيم فليستمسك بغرزه، يستمسك بغرزه فهذا يكون على الطريق يكون على هدى، وسبيل مستقيم.
هذا الذكر يورثنا حياة هذا القلب، يزيل صدأه وهو كالماء للزرع، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: “الذكر للقلب مثل الماء للسمك»[6]، فكيف يكون حال السمك إذا فارق القلب؟
يتلبط ثم ما يلبث أن يبرد ويفارق الحياة، وهكذا القلب فهذا الذكر قوت للقلوب والأرواح فإذا حيل بينه وبين الذكر أو تركه أو أغفله وأهمله صار بمنزلة الجسم إذا حبس عنه القوت، ما الذي يحصل له؟
هزال، شحوب، ذبول، ثم بعد ذلك الموت المحقق؛ فالذكر للقلب أعظم من الغذاء للبدن، ابن القيم يقول: “حضرت شيخ الإسلام مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله -تعالى- إلى قرب من انتصاف النهار”، يعني إلى قريب من الظهر هذه جلسة ذكر يقول: “ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي»[7].
هذا شيخ الإسلام الذي هو شيخ الإسلام إمام الدنيا في زمانه، ولا زال العلماء ممن هم على الطريق الصحيح في الاعتقاد ولزوم السنة ينهلون من علمه إلى اليوم، كما قال بعض تلامذته لما حبس وأوذي كان يوصي تلامذته -هذا العالم- بنشر كتبه، وعلمه، يقول: وسيأتي رجال وهم في أصلاب آبائهم الآن ينتفعون من هذه الكتب، يوصيهم بكتب شيخ الإسلام، فكان يجلس إلى نصف النهار، يذكر الله  ويقول: لو لم أفعل لسقطت قواي.
إذن ماذا نقول: نحن معاشر المساكين الضعفاء المفرطين كم الوقت الذي نقضيه في الذكر؟ كم الوقت لربما الأكثر منا هو الذي يجلس نصف ساعة بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر، وهذا يفسر بكل بساطة ما نعانيه من ضعف حال المصائب، فلا نتمالك، من ضعف أمام الشهوات فنقدم على مقارفتها، ونعصي الله  صباح مساء، هذا الذي يفسر لنا هذه الوحشة التي نجدها في صدورنا في قلوبنا، هذا الذي يفسر لنا تلك المخاوف مجهولة المصدر أحيانًا التي توجد في النفوس.
شيخ الإسلام يقول: “لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة للذكر إلى ذكر آخر»[8]، إذن كيف الذي كل وقته إجمام في الليل كل يوم دورية، كل يوم مطاعم، وفي الأوقات الأخرى هنا وهناك فهو بين نوم وترويح وجاءت هذه الأجهزة التي أكملت على الباقي من الأوقات.
وهذه الوسائل فمتى يكون هذا الذكر؟ تجد الإنسان قد جف لسانه ولا يكاد يذكر ربه -تبارك وتعالى- ثم يقول: أعاني؛ طبيعي ستعاني، يا إخوان هذا الأكل والشرب والمتع واللذات والجماع والنزه وما إلى ذلك كل هذا، هذا إجمام تنعيم للجسد دم ولحم وعظم وعصب، أما الروح هذه لا يمكن أن يكون لها راحة ولذة وسرور وعافية إلا بأن تتصل بربها وخالقها  صلة قوية على قدر هذه الصلة لا يضره شيء بإذن الله ، لا يضره شيء ما قامت السماوات والأرض بإذن الله، وتتبدد عنه تلك المخاوف، تتبدل عنه تلك الأوهام.
القلب فيه فقر ذاتي، فيه خلة كما يقول شيخ الإسلام، وكما يقول ابن القيم -رحمه الله-[9] لا تسد إلا بهذا الذكر الذي يكون منشأه وأصله في القلب، ثم هو بعد ذلك يجري على اللسان فهذا الذي يفني الفاقة ويسد الخلة فيكون صاحبه غنيًّا بلا مال، عزيزًا بلا عشيرة، مهيبًا بلا سلطان، أما ذاك الغافل فهو على الضد فقير مع كثرة الجدة، ذليل مع السلطان، حقير مع كثرة العشيرة، وهكذا أيضًا أمور أخرى تتصل بالقلب لكن الوقت لا يسع لذكرها في هذا المجلس، والليلة القادمة -إن شاء الله تعالى- لأهمية هذا الجزئية سأتحدث عن معاقبات لهذا الحديث -إن شاء الله تعالى-.
جند إبليس وحزبه
فإن ذكر الله -تبارك وتعالى- يفرق عن العبد تلك الجموع من جند إبليس وحزبه، وأتباعه وأوليائه، فهم يجتمعون على حربه، ويُألب هؤلاء الجنود على عباد الله -تبارك وتعالى-، فهو يرسل سرية بعد سرية تغزوهم، تشككهم، توسوس لهم، تزين لهم المنكر، تلقي في قلوبهم الخواطر السيئة، وإذا كان العبد في حال أكمل وأتم في علاقته مع ربه -تبارك وتعالى- فإن إبليس يشتد كيده، وهذه الجنود يتتابع تواردها على العبد فتلقي في قلبه ما تلقيه؛ لأن هؤلاء قد عجزوا عن إيقاعه في الكفر كما سبق، عجزوا عن إيقاعه في الكبائر، عجزوا عن إيقاعه في البدع والضلالات والأهواء، ومن ثم عجزوا أيضًا أو قد يعجزون عن إغرائه بالصغائر أو بالإصرار على الصغائر، فيجدون ويجتهدون في اليقظة بتشويش فكره، وبعث القلق في نفسه، ويجتهدون منامًا بالرؤى السيئة التي تزعجه، فهذا كما يقول الحافظ ابن القيم[1]: “كلما كان العبد أقوى طلبًا لله تعالى، وأمثل تعلقًا به وإرادة له، كانت السرية أكثر وأكثف”، ولهذا بعض الناس يسأل يقول إنه كان في حال من البعد من الله -تبارك وتعالى- وعن طاعته، فلم يكن يرد عليه ما يرد بعد هدايته وتوبته، والسبب أن هؤلاء الشياطين كانوا يتلاعبون به وهو لا يشعر، فكان ينغمس في الوحل، ولا يحس فلما عجزوا عنه صاروا يقلقونه بمثل هذه الأمور، فلا سبيل إلى تفريق هذه الجموع البائسة من هؤلاء الشياطين إلا بذكر الله -تبارك وتعالى-.
فهذه الشياطين كما يقول الحافظ ابن القيم: “قد احتوشت العبد، واجتمعت عليه، وتضافرت على الكيد له، فهم أعداؤه فما ظنك برجل قد احتوشه أعداؤه الحانقون عليه الذين يطلبون له الردى والمكروه بكل طريق مستطاع، يحاولون أن يوصلوا إليه الضر والأذى فلا يمكن أن يفرقهم إلا بهذا الذكر، وهو الذي يفرق جمعهم، ويشتت شملهم”[2]، وينجو العبد بإذن الله u من هذا الكيد والمكر، تأملوا في هذه النصوص الثابتة عن رسول الله &o5018; كما في حديث أنس t من قال يعني إذا خرج من بيته: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت وهديت ووقيت[3].
فقوله: كفي حُذف المتعلق هنا، ووقي، وحذف المتعلق، وهدي حذف فيه المتعلق فيعمّ جميع ما يدخل تحت الوقاية والكفاية والهداية، يكون قد وقي من كل المكاره من كل الشرور؛ شياطين الإنس، وشياطين الجن، وقي مما يخاف ويحاذر، وكفي من كل شر وضر.
وهكذا هدي إلى كل خير ومعروف وفضيلة، هدي في لسانه، وهدي بجنانه، بقلبه، فهو صاحب لسان مسدد، وصاحب قلب قد هداه الله -تبارك وتعالى- فصار من الراشدين.
قال: وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟![4]، قد يشاهد الإنسان في طريقه بعض من يغريه بالمنكر فإذا كان بهذه المثابة فلا سبيل للمنكر على مثل هذا، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، الْمُخْلِصِينَ في القراءتين المتواترتين يخلصه الله u من ذلك كله.
وفي الحديث الآخر المشهور: من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، - ذكر ما له- ثم قال: وكانت له حرزًا من الشيطان حتى يمسي[5]، إذا كان الإنسان في حرز من الشيطان فإنه يسلم من هذه الشرور والآفات التي يعاني منها أكثر الخلق أول ذلك الغمّ، وآخره الوقوع في أنواع الشرور من الكفر فما دونه، هذا الإنسان الذي تكون له حرزًا من الشيطان إذا كان يعقل المعنى ويتفهم كيف يمكن أن يستجيب لدواعيه فيتفتح هذه الشبكة على أمور لا ترضي الله -تبارك وتعالى-؟!
 كيف يقع منه ما يكون من إغراء الشيطان؟! إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [المجادلة:10]، يعني من تسويله وتزيينه وإغرائه، ليحزن الذين آمنوا فهو يغري هذا ليناجي هذا فيحزن الثالث.
هذا الإنسان الذي لربما يتعرض لفتن في الشبهات أو الشهوات هو في حرز، وما أكثر الشبهات اليوم، وما أكثر الشهوات ومن الذي يسلم فما أحوجنا في مثل هذه الأوقات إلى مثل هذا، كثير من الناس يسأل يقول: ما الخلاص ما السلامة من هذه الشبهات التي في كل مكان؟ تأتيك الرسائل على الجوال وتأتيك في الواتس آب وتأتيك في مواقع في الإنترنت، وفي منتديات وفي غير ذلك فتعلق في القلب، ولا تكاد تخرج، وقل مثل ذلك بهذه الشهوات التي هي اليوم أقرب للواحد منا من اليد للفم، قريبة جدًا سهلة التناول، والنفس قد ركب فيها هذه الدواعي، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14]، حينما يغريه الشيطان بأخذ مال لا يحل، أو انتهاك عرض، أو غير ذلك.
وهنا أيضًا انظر إذا كان هذا الذكر في المسجد ما الذي يحصل؟ يقول أبو خلاد المصري -رحمه الله-: “من دخل في الإسلام دخل في حصن، ومن دخل في المسجد فقد دخل في حصنين”[6]، هذه بيوت الله أحب البقاع إلى الله لكن التي يغرز الشيطان فيها رايته الأسواق، المساجد على الضد من هذا، “دخل في حصنين، ومن جلس في حلقة يذكر الله u فيها فقد دخل في ثلاثة حصون”[7]، وهذا هو السبب حينما يقال حلقة يذكر الله فيها يدخل فيها كما قال شيخ الإسلام[8] مجالس الذكر البحت يدخل فيها، مجالس قراءة القرآن يدخل فيها، مجالس الفقه يدخل فيها، مجالس الحديث يدخل فيها، مجالس التفسير، كل هذا من حلق الذكر، ومن مجالس الذكر، وهذا هو السر الذي يبين عنه كثيرون حينما يقولون: حينما نحضر هذه المجالس قد لا يكون فيها وعظ، مجلس علم بحت، يحضرون درسًا في الفقه أو في الحديث أو في التفسير مثلاً أو في العقيدة، يقولون: نجد أن دواعي المنكر والشر تضعف.
وبعضهم يقول: كنا قد تخلصنا من كثير من المنكرات التي كنا نتعاطها ونفعلها فقط بسبب الحضور، وإن لم يكن الدرس يتناول ذلك مباشرة، فلما حصل الانقطاع يقولون: عدنا إلى ما كنا عليه.
وسمعت ممن يعانون من السحر وهذه الأمور وما شابهها، يقول: لا أكاد أدخل المسجد إلا بمكابدة، بمجاهدة حتى للصلاة، مدافعة عند باب المسجد، يقول: فإذا دخلتُ المسجد وحضرت مجلس العلم، يقول: الاستمرار على هذا يضعف أثر هذا البلاء جدًّا، وأعان على مقاومته ومدافعته فأجد من القوة، والثبات والصبر ما يكاد يتلاشى معه أثر هذا الاعتلال، وإذا انقطع رجع، وبدأ هؤلاء الشياطين يتلاعبون به تلاعب الصبيان بالكرة، يذهب إلى هذا وذاك، وهذا يقول له: كذا، وهذا يقول له كذا، ثم يلقي له أو لغيره رؤيا هذا الشيطان، ثم بعد ذلك يأخذه ما قرب وما بعد حتى يتحير لا يدري ما به، هل هو مسحور؟ أو فيه عين؟ أو فيه مس؟ وكل يقول له غير ما يقول الآخر.
فهذا حينما ينفرد به هؤلاء الشياطين ويتسلطون عليه، الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري حديث أبي هريرة t لما ولاه النبي &o5018; على الصدقة على تمر الصدقة، أو على الطعام، فلما قبض على ذلك الرجل الذي كان يأتي ليلاً ويحثو، ففي كل مرة يعتذر إليه بحاجته وعياله وفاقته، فيطلقه في الأولى والثانية ويتعهد أنه لا يعود، في الثالثة قال: لأرفعنّك إلى رسول الله &o5018; فقال: أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، من أولها إلى آخرها، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي &o5018; بهذا قال: صدقك وهو كذوب[9]، هذا الشيطان له ملابسات يتلاعب بالعبد يبيت على خيشومه، قد يبول في أذنه إذا نام عن الصلاة، له ملابسات أخرى غيبية لا ندركها، النبي &o5018; أمرنا إذا استيقظنا من النوم فلا نغمس يدنا في الإناء حتى نغسلها ثلاثًا[10]، قد يكون هذا لملابسة خفية مع الشيطان.
هذا الاحتلام الذي يقع للعبد إنما يقع بتلاعب الشيطان به وعبثه به، الرؤى التي يراها الرؤى السيئة الرؤى المزعجة هي من الشيطان، قد ينام العبد وليس به علة ويقوم وهو في غاية الضيق والاعتلال، والكدر يصبح متغيرًا ليس به بأس من أين جاء هذا الشيطان.
فالإنسان حينما ينام يتعطل من الذكر، فإذا كان في هذا الحصن، وفي هذا الحرز، وعليه حافظ من الله هنا الشيطان لا يأتيه، فيكون في حراسه، فهذه أمور في غاية الأهمية، لكن إذا كان ينام وهو غافل عن هذا كله؟ فالشيطان قد يجد مدخلاً يتسلل منه فيصل إلى العبد فيؤذيه.
وجاء من حديث جابر t، أن النبي &o5018; قال: إذا أوى الإنسان إلى فراشه ابتدره ملك وشيطان فيقول الملك: اختم بخير، -يعني اختم نهارك ويقظتك بخير-، ويقول الشيطان: اختم بشر، فإذا ذكر الله تعالى حتى يغلبه -يعني النوم-، طرد الملك الشيطان، وبات يكلؤه الملك، فإذا استيقظ ابتدره ملك وشيطان، فيقول الملك: افتح بخير، ويقول الشيطان: افتح بشر، فإن قال: الحمد لله الذي أحيا نفسي بعد موتها ولم يمتها في منامها، الحمد لله الذي يمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، الحمد لله الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده، الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، طرد الملك الشيطان وظل يكلؤه[11]، هذا الحديث صححه ابن حبان، والحاكم، والمنذري، وحسنه الحافظ ابن حجر.
وفي رواية في آخره: فإن وقع من سريره فمات دخل الجنة[12]، وفي لفظ: كان شهيدًا[13]، فهنا يكلؤه في حال النوم، والحديث الأول يدل على هذا، ولا مطعن في ثبوته، وفي حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي &o5018; قال: أما إن أحدكم إذا أتى أهله، وقال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فرزقا ولدا لم يضره الشيطان[14].
هذا كله يكون العبد في حرز في حفظ من هذا العدو، الذي يتربص به يأتيه من كل ناحية، من أمامه، ومن هذا الجانب ، ومن هذا الجانب، ومن الخلف يرصده، يبحث عن غفلة، كم من إنسان لم يكن به علة، ولم يكن به بأس، وفجأة تغير -تغيرت ملامحه- ، تغيرت عيناه، تغير شعر وجهه، وقف صار بصورة وبهيئة بشعة بل لربما يتغير صوته تتغير أحواله كلها، فلم يعد ذلك الإنسان الذي تعرفه في لحظة! من أي شيء؟!
الله -تبارك وتعالى- بين حال المرابي في الآخرة: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] فهذا المصروع هذا الصرع تارة يكون المصروع بأورام بالدماغ، أو أبخرة تصعد إليه يعني له سبب طبي مدرك، وتارة يكون بسبب الشيطان يتخبطه، بنص القرآن: يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ يسقط يتلبط، ما السبيل إلى الخلاص منه؟
في كل الآيات التي يذكر فيها نزغ الشيطان يعقب كما قال الحافظ ابن كثير: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200]، الاستعاذة، وفي شياطين الإنس: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون:96] فكما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[15]: “الإنسي لأصله الطيب الكريم تنفع معه المصانعة والدفع بالتي هي أحسن، أما شيطان الجن فإنه لا سبيل إلى مصانعته والإحسان معه فلا يدفع إلا بالاستعاذة”؛ ولهذا أمرنا إذا أردنا أن نقرأ القرآن فاستعذ بالله، لماذا نستعيذ بالله؟
نحن نتطهر قبل القراءة استحبابًا ونستعيذ؛ ليجتمع لنا الطهارتان: الطهارة التي أمرنا بها بالماء أو ما يقوم مقامه، والطهارة الأخرى التي هي التخلص من خواطر الشيطان ووساوسه وما يلقيه ويمليه، فهو يشوش فكر هذا القارئ، يلبس على المصلي كما أخبر النبي &o5018; يذكره كذا، اذكر كذا، اذكر كذا، يلبس عليه طهارته، يتصرف معه بتصرفات يوهمه أنه قد انتقض وضوؤه، وتجد الكثيرين يعانون من هذا كيف نكون في حرز؟
قد يقول بعض الناس: أنا أقول الأذكار، أحافظ على الأذكار، نقول: نعم قد تحافظ على الأذكار ولكنك لا تعقل من هذه الأذكار، إما أنه لا يعرف المعنى، أو أنه لا يتعقله، يعني يقوله وقلبه شارد فيضعف الأثر، وإذا أتينا إلى الشرح -شرح الأذكار- سيتبين أن هذه الأذكار تحمل معاني عميقة ذات جذور أكثرنا لا يقف عندها، جذور عميقة ذات أثر بليغ لو أن الإنسان يستحضر هذه المعاني لتغيرت حياته من أولها إلى آخرها، فنسأل الله u أن يعصمنا وإياكم من الشيطان وشركه، وأن يلهمنا رشدنا، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعاف مبتلانا واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، -والله أعلم-، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.