الشيخ الدكتور خالد بن عثمان بن علي السبت وُلد عام 1384هـ (1964م) في مدينة الدمام، المملكة العربية السعودية. حصل على درجة البكالوريوس في أصول الدين من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1405هـ (1984م)، ثم نال درجة الماجستير في التفسير وعلوم القرآن من كلية القرآن بالجامعة الإسلامية عام 1412هـ (1991م) عن بحثه «دراسة تقويمية لكتاب مناهل العرفان للزرقاني». وفي عام 1416هـ (1995م)، حصل على درجة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن من نفس الكلية بأطروحته «قواعد التفسير جمعًا ودراسة» .
يعمل الدكتور خالد السبت حاليًا أستاذًا مشاركًا في كلية التربية (قسم الدراسات القرآنية) بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل في الدمام . له العديد من المؤلفات، أبرزها: “قواعد التفسير” ، “مناهل العرفان (دراسة وتقويم)” ، “العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير” “فقه الرد على المخالف” ، “أعمال القلوب” ، “الخلاصة في تدبر القرآن الكريم” ، “القواعد والأصول وتطبيقات التدبر” ، تحقيق كتاب “نور البصائر والألباب في معرفة الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب” للشيخ السعدي ، تحقيق كتاب “القواعد الحسان” للشيخ السعدي
يواصل أ.د خالد بن عثمان السبت ،شروح بعض الكتب ذات العلم النافع للمسملين، ومن تلك الكتب معاني الأذكار - حصن المسلم- يقول الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36] في هذه الشهور العظيمة نتحدث في بقعة هي من أحب البقاع إلى الله -تبارك وتعالى- وهي المساجد، عن مطلب يُعد من أجل المطالب وأشرفها، وهو الكلام على معاني الأذكار؛ وذلك أن الذكر هو من أجل الأعمال، وأفضلها، وأحبها إلى الله y، فالاشتغال به اشتغال بمطالب جليلة، والتعرف على معانيه يُعد من أشرف العلوم وأفضلها.
وطلاب العلم يستشرحون كلام المصنفين من العلماء وهم بشر يصيبون ويخطئون، ويحصل لهم من السهو والغلط ما لا ينفك منه البشر، وهذا كلام الله وكلام رسوله &o5018; الذي فيه جوامع الكلم، وهو الحق والهدى والصواب الذي متى ما ثبت فإنه لا يتطرق إليه خطل ولا خلل ولا غلط، وإنما هو الهدى بحذافيره.
فالاشتغال بهذا يبصرنا بمعاني هذه الأذكار الجليلة العظيمة التي نرددها صباح مساء، وفي صلاتنا، وفي تحولنا وتنقلنا، ولكننا في كثير من الأحيان نقولها من غير حضور القلب، كما أننا نرددها في أحيان كثيرة، ونحن لا نتفطن لما في مضامينها من المعاني العميقة، والدلالات العظيمة، بل لربما يصدر من الواحد منا ما يقتضي خلاف ما يردده، وهذا شيء مشاهد تجد الرجل لربما يركب الطائرة، أو يركب السيارة وهو يسافر إلى بلاد لا يحل له السفر إليها، أو إلى مقاصد لا يجوز له أن يقصدها من الأمور المحرمة، ثم هو يقول: اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى[1].
ولربما وضع في أذنيه سماعة يسمع الأغاني والمعازف، وهو يردد بلسانه هذا الدعاء، وهذا الذكر الذي يقال في السفر، بل لربما يُذكر في بعض الطائرات، ويعقبه من أصوات المعازف أو يسبقه ما يدل على استخفاف واستهتار وجهل بالغ، وغفلة عظيمة عن مضامين هذا الذكر الذي يردد على مسامع الناس، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، وأي عمل ذاك الذي يرضاه على هذه الحال التي يكون عليها هذا المسافر الذي سافر ليعصي الله -تبارك وتعالى-؟! هذه غفلة.
 

- مراقبة العبد لربه في أعماله بالسر والعلن تدخله في مرتبة الإحسان
- الجنة طيبة التربة عذبة الماء وغراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر 

 
فإن ما نعانيه من قسوة في القلوب حيث نسمع كلام الله، نسمع أوصافه وعظمته نسمع الآيات الدالة على جلاله وعظمته، ونسمع الآيات التي تتحدث عن اليوم الآخر، والجنة والنار، وما إلى ذلك، ولا تتحرك قلوبنا، والله -تبارك وتعالى- قد ضرب المثل بالجبل الذي هو في غاية الصلابة: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]، ونحن نجد ما نجد ونعاني ما نعاني في هذه القلوب من القسوة التي تكون لأسباب مجتمعة أعظمها الغفلة عن ذكر الله -تبارك وتعالى-، وما ينضم إلى ذلك وينضاف إليه من فضول النظر، وفضول الكلام، وفضول الخلطة، وفضول الأكل والشرب، وفضول النوم، هذا في المباح، فكيف بالمعاصي التي يعافسها من يعافسها صباح مساء؟!
هذا لا شك أنه يؤثر في هذه القلوب تأثيرًا بليغًا.
إن جلاء ذلك يكون: باليقظة، بالتوبة، وبكثرة الذكر بالقلب واللسان، فتعود للقلب حياته وصفاؤه ورقته وشفافيته، وتزول عنه تلك الأكدار، هذه الغفلة هذه القسوة ينبغي على كل عبد أن يداويها بذكر الله -تبارك وتعالى- وهو من أعظم الملينات، وهناك أمور أخرى من زيارة المقابر، التفكر، عيادة المرضى، امسح رأس اليتيم، أطعمه من طعامك، كل ذلك يلين القلب، لكن الذكر ويدخل في الذكر قراءة القرآن بالتدبر، هذا من أعظم ما يلينه ويذيب قسوته، وقد قال رجل للحسن البصري -رحمه الله-: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة القلب؟! قال: “أذبه بالذكر»[1].
 فهذا القلب القاسي يلينه ذكر الله -تبارك وتعالى-، فإذا اشتدت غفلتنا اشتدت قسوة قلوبنا فنحتاج إلى ذكر أكثر لا العكس، نحن في حال غفلتنا يقل ذكرنا، ويضمحل ويتلاشى فتزداد القسوة، ثم تزداد المعاناة بل قد يصير العبد إلى حال لا يشعر أن قلبه قاسي، ولا يلتفت إلى ذلك، فهو يعاني من الداء العضال دون أن يشعر، وهذه الأدواء المركبة التي تورث الإنسان غفلة متتابعة، الغفلة عن الله ، والغفلة عن نفسه وما يصلحه، والغفلة عن الداء، فإذا اجتمع هذا وهذا، فمتى يفيق الإنسان؟! ومتى يشعر؟!
فهذا الذكر كما يقول الحافظ ابن القيم: “يذيب ذلك كله، كما يذوب الرصاص في النار”[2]، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله تعالى، فهذا الذكر يذيب هذه القسوة وهو أيضًا شفاء لهذه القلوب من جميع أدوائها، حينما تمرض قلوبنا بالغفلة والشهوة تتشبث وتتعلق بهذا الحطام، قد يتحول المخلوق ذو الصورة الحسنة إلى معبود ومألوه يعلق به القلب ويحبه أعظم من محبة الله -تبارك وتعالى-، ولكن هذه المحبة كما لا يخفى سواء كانت لإنسان، أو لغيره إذا كانت هذه المحبة محبة تزاحم محبة الله في القلب فإن القلب يعذب بها ويتألم ولا بدّ جزاء وفاقًا؛ لأن هذا القلب لا يصلح بحال من الأحوال ولا يطمئن إلا بأن يقبل على الله وأن يتعلق به، فكيف يكون الشفاء؟ وما السبيل إلى الدواء؟ إنه الذكر.
القلوب العليلة القلوب المريضة تداوى بالذكر، فهذا أنجع العلاج، والله -تبارك وتعالى- قد سمى القرآن ووصفه بأنه شفاء: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وهنا ما قال دواء؛ لأن الدواء قد يصيب وقد يخطئ وقد يلائم بعض الناس، ولكنه لا يلائم آخرين وقد يكون هذا الدواء سببًا للهلاك أما القرآن فأعطاك النتيجة: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ، ولم يقل دواء هذا هو القرآن الذي هو أعظم الذكر وأجل الذكر، وحينما نتحدث عن الذكر والاشتغال بالذكر ينبغي أن لا نغفل هذا المعنى، فإن قراءة القرآن داخلة فيه بل هي من أعظمه، والذين يعانون ما يعانون وكلنا يعاني، وإنما يعظ العبد نفسه بما يقول؟
أقول: هذه المعاناة التي نعانيها الكلام الكثير الذي يقال فيما يكون به العلاج، وما يذكر من خطوات وأنواع وما إلى ذلك كل هذا يجمعه قراءة القرآن بتدبر، وكثرة الذكر، فيحصل بذلك الحياة بأكمل وجوهها وأعظم حالاتها وصورها هذا باختصار، كل من يعاني من تعلق القلب بغير الله، الذي يعاني من القسوة، الذي يعاني من العشق، الذي يعاني من أمراض وأدواء، عليه بهذا الدواء الجامع النافع الذي يحصل به غسل القلوب وإزالة جميع تلك العوالق، وما نقوله من وراء ذلك فنحن نتفلسف، ونطول الكلام ونشققه هذه هي الحقيقة، ولكني وجدت جماع ذلك إقبال حقيقي على القرآن بتدبر، والاشتغال بذكر الله -عز وجل- مع تعقل معانيه، هذا هو العلاج الحقيقي لكل هذه العلل والأدواء والمشكلات التي نعاني منها، فهذا له أثر عجيب في هذه الحياة لهذه القلوب، وفي زكائها، وصلاحها، ونمائها، ويبدد عنها الأوهام والمخاوف جميعًا، فهذه المخاوف إنما تكون بسبب ضعف القلب، كما أن التعلقات بالمخلوقين تكون بسبب ضعف القلب، فهو تارة يحبهم محبة تزاحم محبة الله، وتارة يخافهم مخافة لا تصلح للمخلوق فيبقى هذا القلب مشوشًا، يبقى قلقًا، دائم الترقب، فيكون المخلوق أعظم عنده من الله -تبارك وتعالى-، وهذه لا تصلح لأهل الإيمان، وإنما ذكر الله ذلك في صفات غيرهم من المنافقين: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ [الحشر:13].
هذا لا يكون للمؤمن بحال من الأحوال فهذه المخاوف تارة تكون لأمور مدركة وتارة لأمور مبهمة، يعني هو يشعر بالخوف دائمًا، بالخوف على رزقه، الخوف على نفسه الخوف على ولده، الخوف من مكاره متوقعة متوهمة، الرجحان في الوقوع كبير أو أنه موهوم لكنه يتخوف، وأحيانًا يخاف ولا يدري من أي شيء يخاف، لكنه يعلم أن هذا الخوف ليس من الله؛ لأنه الخوف الذي يكون من الله يحصل للقلب معه الطمأنينة والراحة ويعظم الإيمان فإذا فاض ذلك حتى بلغ العين فبكى من خشية الله  كان ذلك كالغسيل للقلب، ولكننا نغفل عن هذا كثيرًا، ولذلك تجد بعض الناس يلجأ إلى إشباع هذه الرغبة في غسل قلبه والشعور بحاجته إلى البكاء مثلاً وقد سمعت هذا من بعضهم، يسمع قصائد حزينة يحاول أن يقرأ بطريقة حزينة لبعض الأشعار، يحاول أن يتذكر ذكريات حزينة من أجل أن يبكي، ويشعر برغبة في البكاء هذا ضعف وهذا كالذي يقول: داوني بالتي كانت هي الداء.
إنما ينبغي أن يكون اللجوء إلى هذا المعبود بذكره بالقلب واللسان فهنا يحصل له الأمان، أما الغافل فكما يقول الحافظ ابن القيم يقول: “والغافل خائف مع أمنه حتى كأن ما هو فيه من الأمن كله مخاوف، ومن له أدنى حس قد جرب هذا وهذا”[3]، حتى إن بعضهم يتعاظم به هذه الخوف مما يسميه الأطباء يتحول إلى حالة مرضية يسمونه الرُهاب الاجتماعي، بحيث يصير الإنسان لا يستطيع مخالطة الناس، ولا حضور المناسبات، بل بعضهم يصل إلى باب الكلية -نسأل الله العافية للجميع- ويرجع ما يستطيع الدخول يطوي قيده، يترك دراسته يذهب إلى العمل يصل إلى باب المؤسسة، ثم يرجع لا يستطيع يخاف.
وبعضهم يظهر ذلك عليه، على أطرافه، على وجهه، يجف لسانه ولم يوجد سبب لهذا أصلاً، لكنه يتحول إلى نوع من الاعتلال والمرض، فأين نحن من هذا المعين؟! وهذا الدواء؟! وهذا الطود الشامخ الذي من تمسك به واعتصم به فإنه يكون في غاية الاطمئنان والثقة والراحة والأمن الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، ومتى يكون الإنسان يكون قلبه عامرًا بالإيمان؟
إنما يكون ذلك لمن كان قلبه عامرًا بذكر ربه -تبارك وتعالى- ولسانه لاهجًا بذكره، وقراءة كلامه.
إن هذا الذكر ينبه هذه القلوب أيضًا من غفلتها من نومها، يوقظها من سنتها، فالقلب قد يكون في غطيط، وقد يكون في سنة فتفوته الأرباح والمتاجر، ويكون الغالب عليه الخسران كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[4].
الذكر وثمرته في القلب وغراسه في الجنة
فهذا الذكر يكون به حياة القلب وعافيته، وبه يصقل هذا العضو الذي هو ملك الجوارح، فهي تأتمر بأمره، وتقف عند حركته، وتوجهه، فحيثما وجهها توجهت، ومن ثم فإن ذلك ينعكس على الجوارح كما أنه يثمر في هذا القلب الأعمال القلبية الزاكية، فإن صلاح هذا القلب وزكائه، يعني ويقتضي أن تزكو فيه وتنمو الأعمال التي هي أشرف من جنس أعمال الجوارح، تزكو فيه الأعمال التي جنسها أشرف من جنس أعمال الجوارح، وهي أعمال القلوب.
فالذكر إذا أكثر منه العبد فإن ذلك يورثه محبة المعبود y، وهذه أمور لا تخفى، كما أن من أحب شيئًا فإنه يكثر من ذكره، ويلهج بإطرائه والثناء عليه، وذكر محامده، وفضائله وكمالاته، والله -تبارك وتعالى- هو العظيم الأعظم، ذو الصفات الكاملة الذي يستحق الحمد من كل وجه، ويستحق الشكر من كل وجه، ويستحق الثناء والتمجيد من كل وجه.
فإذا اشتغلنا بذكر الله -تبارك وتعالى- حصلت لنا المحبة، وتحققت في قلوبنا، وهذه المحبة كما يصفها الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: “هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين، ومدار السعادة”[1]، فإذا أحب العبد ربه وأحب الرب عبده فلا تسأل عن حاله من الإقبال على الطاعة، والانكفاف عن المعصية، والفرح والسرور والانشراح بذكره، فيجد قلبه وأنسه وراحته في هذه المجالس التي يذكر الرب -تبارك وتعالى- فيها، كما أن ذلك يورثه مراقبة الله -تبارك وتعالى-، فلا يغيب ذلك عن قلبه، وإذا حصلت هذه المراقبة دخل العبد في مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك[2].
هذه المراقبة يأتي معها العبد بالأعمال الصالحة على الوجه الأكمل فإذا صلى كان قلبه حاضرًا في صلاته، فيأتي بها على وجه وحال من الخشوع مرضية، كما أنه حينما يعمل شيئًا من الأعمال الصالحة فإنه يراقب الله ولا يلتفت إلى المخلوقين، ومن ثم فإن نيته وقصده إنما هو إرادة ما عند الله -تبارك وتعالى- دون التفات إلى ما لا يحل الالتفات إليه من الرياء والسمعة.
إذا كان العبد يراقب ربه فإن حالته في الخلوة والجلوة تكون على حال سواء لا فرق بين خلوته وجلوته؛ لأنه يعلم أن الله يراه، أما الغافل فلا سبيل له إلى تلك المنازل والمراتب العالية، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى بيت الله الحرام، وهذان مثالان مما يتصل بأعمال القلوب، ولك أن تستحضر هذه المعاني في سائر الأعمال القلبية من الخوف والرجاء، وما إلى ذلك.
كما أن من فوائد هذا الذكر: أنه يصرف صاحبه عن الاشتغال بما لا ينفعه، يصرفه عن الاشتغال بالباطل واللهو بجميع أنواعه، فالعبد لا بدّ له من أن يتكلم، لا بدّ لهذا اللسان من حركة، فإن لم يتكلم بذكر الله وذكر أوامره تكلم بهذه الأمور التي تضره ولا تنفعه من الغيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والباطل، وصار لسان حاله في مجالسه: تعال بنا نغتب ساعة، تعال بنا اجلس نلغو ساعة، أما أهل الذكر فإنهم بمنأى عن ذلك، وفي شغل شاغل عنه، فلا سلامة من هذه الأمور إلا بأن يشغل هذا اللسان بذكر بربه وخالقه وفاطره i.
قال ابن القيم -رحمه الله-: “فمن عود لسانه ذكر الله صان لسانه عن الباطل واللغو، ومن يبس لسانه عن ذكر الله ترطب بكل باطل ولغو وفاحش، كما هو مشاهد»[3].
فهذا الاشتغال بهذا الذكر يجعله من الذاكرين، والناس إما أن يكون ممن له لسان ذاكر أو ممن له لسان لاغ، ولا بدّ من أحدهما فهي النفس -كما هو معلوم- إن لم تشغل بالطاعة شغلت صاحبها بأضداد ذلك، تشغل صاحبها بالمعصية، تشغل صاحبها بالباطل، هو القلب إن لم تسكنه محبة الله -تبارك وتعالى- سكنته محبة المخلوقين، هو اللسان إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو لاسيما في مثل هذه الأوقات التي كثر انشغال الناس فيها بالقيل والقال، وصارت مجالسهم عامرة بالنقل والكلام والرد والمجادلة وما إلى ذلك مما ينقلونه ويتلقونه عبر هذه الوسائل الإعلامية، فإذا جلسوا صار هذا الاشتغال هو ديدنهم، فمن الذي يشتغل في هذه الأيام بذكر الله  ويعمر هذه المجالس بهذه الأمور النافعة؟!.
إن تتابع الأحداث وكثرة ما ينقل من الحق والباطل ومما يثق به المرء ومما لا يثق به ويتناقله الناس على سبيل السرعة كل ذلك يجعلنا نمعن في هذا الاشتغال الذي يبعدنا كثيرًا عن ذكر الله  فتحصل الغفلة للعبد.
من فوائد هذا الذكر: أنه غراس الجنة، وهل تعلمون شيئًا مما يشتغل به الناس في مجالسهم يكون غراسًا للجنة سوى الذكر؟ النبي &o5018; كما في حديث ابن مسعود t يقول: لقيت ليلة أسري بي إبراهيم الخليل -عليه السلام-، فقال: يا محمد اقرئ أمتك السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وعذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر[4]، هذا غراس الجنة، فإذا قال الإنسان هذه الكلمات الأربع فقد غرس أربعًا من غراس الجنة، وإذا أكثر فإن ذلك يكون له أكثر وفضل الله  عليه أعظم، لكن حينما يريد الإنسان أن يغرس في هذه الحياة الدنيا بستانًا فقد يستنطف ذلك ما عنده من المال، وتلحقه الديون، ولا يدري ما الذي يكون له بقاء من هذه الغراس؟، وما الذي يثمر؟ وما الذي لا يثمر؟ ولكن هذا الغراس الذي يكون رابحًا بكل حال.
وفي حديث جابر t مرفوعًا من قال: سبحان الله وبحمده، غُرست له نخلة في الجنة[5]، هذه أمور يسيرة تغرس بها الجنان.
وهكذا أيضًا ما رتب عليه من عظم الجزاء مما لا يوجد في غيره من الأعمال فهنا في الصحيحين من حديث أبي هريرة t، أن النبي &o5018; قال: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل أكثر منه[6]، هذا ذكرته مختصرًا فيما يتصل بالحرز من الشيطان فقط وهذا سياقه كاملاً.
والشاهد هنا: ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه، إذًا هذا الذكر الذي يقوله الإنسان يكون به متقدمًا، يكون به فاضلاً على غيره من العاملين الذين يعملون سائر ألوان التطوعات.
ومن قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر[7].
وعند مسلم من حديث أبي هريرة t مرفوعًا: لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس[8]، ما الذي تطلع عليه الشمس؟
من الأحمر والأصفر، من الكنوز، من الزروع، من الدواب، من العقارات، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، وهنا ما قيد ذلك بعدد، لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، في ماذا يتسابق المتسابقون في هذه الحياة الدنيا؟ ما الذي يقضون به أوقاتهم؟ سواء من حصل منهم، أو لم يحصل إن الكثيرين إنما يتعلمون هذه السنين المتطاولة -رجالاً ونساء- من أجل أن يحصل عائدًا من مال يعود عليه في نهاية المطاف، لا يدري هل يجده أو لا يجده، وقل مثل ذلك فيمن تنأى به البقاع من أجل طلب لقمة العيش.
وهكذا أولئك الذين يقضون الساعات الطوال، ولو نظر العبد في مثل هذا لوجد أنه يفوت خيرًا عظيمًا على نفسه من غير أن يحتاج إلى بذل جهد، ولا كلفة، لا عيب في أن الإنسان يطلب الرزق، وهذه سنة الله  في هذا الخلق، وإنما المقصود لفت الأنظار إلى ما نغفل عنه، فنحن نغفل عن خير عظيم.
وهكذا في حديث ثوبان t مرفوعًا: من قال حين يمسي وإذا أصبح: رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد &o5018; رسولاً، كان حقًّا على الله أن يرضيه[9]، فمثل هذا معناه أنه يكون له الفلاح والفوز، وبذلك يحصل له الرضا.
هذا بعض ما جاء في فضله، وذلك يدل على غيره، وهو قليل من كثير.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، -والله أعلم-، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر، وأحيا بقية العمر، واستدرك ما فات، ولا تحصل يقظته إلا بالذكر فإن الغفلة نوم ثقيل، فهل نحن في نوم ثقيل؟!