كلما وُضعت أمام خيارين، أو طُلب مني رأي في مسألة حُصرت في مسارين متقابلين، يتوقف ذهني تلقائيًا عند سؤال واحد قبل الإجابة:
هل هذه فعلاً كل الخيارات؟ أم أن هناك خيارًا ثالثًا لم يُر بعد؟
هذا السؤال، في ظاهره، يبدو بسيطًا. لكنه في حقيقته موقف قيادي، لا مجرد حيلة ذهنية. فالكثير من القرارات لا تُقيدنا بقسوتها، بل بصيغة السؤال الذي تُطرح به. حين نقبل الثنائية كما هي، نكون قد قبلنا الإطار الذي صاغه غيرنا، وغالبًا لمصلحته.
في التجربة العملية، اكتشفت أن أخطر ما في الثنائيات أنها تُوهمنا بأن الاختيار محصور، بينما الواقع أوسع. “إما هذا أو ذاك” ليست دائمًا حقيقة، بل أحيانًا أداة ضغط: ضغط الوقت، ضغط السياسة، أو ضغط الخوف من التعقيد.
لكن البحث عن خيار ثالث لا يعني الهروب من القرار، ولا التعلق بالحلول الرمادية. على العكس، هو محاولة واعية للانتقال من ردّ الفعل إلى إعادة تعريف المشكلة. فالخياران المطروحان غالبًا ينتميان إلى المستوى نفسه من التفكير الذي صنع الإشكال أصلًا، بينما الخيار الثالث يظهر عندما نرتفع مستوى واحدًا فوقهما.
في كثير من المواقف القيادية، لا يكون الخيار الثالث قرارًا إضافيًا، بل سؤالًا مختلفًا:
• هل المشكلة فعلًا في التوسّع أو التوقف؟
• أم في النموذج الذي نعمل به؟
• هل الخلاف حول الوسيلة أم حول الغاية؟
• وهل المطلوب اختيار موقف، أم إعادة ترتيب الأولويات؟
هنا تتغير المعادلة. لا نعود أسرى خيارين، بل صُنّاع إطار جديد.
ومع ذلك، من المهم الاعتراف بحقيقة لا تقل أهمية:
ليس في كل موقف خيار ثالث.
وأحيانًا يكون الإصرار على البحث عنه نوعًا من التردد المقنّع، أو محاولة راقية لتأجيل الحسم. القيادة لا تُقاس بعمق التفكير فقط، بل بالقدرة على تحمّل كلفة القرار عندما يتضح أن البدائل استُنفدت.
القيادة الناضجة تميّز بين ثلاث حالات:
1. ثنائية زائفة تحتاج إلى كسر الإطار.
2. ثنائية حقيقية يمكن تحسين أحد طرفيها، لا إلغاؤها.
3. موقف لا يحتمل إلا خيارًا واحدًا شجاعًا، مهما كانت كلفته.
في الحالة الأولى، يكون الخيار الثالث ضرورة.
وفي الثانية، يكون تحسين الاختيار هو الحكمة.
أما في الثالثة، فالتأخير خطأ، والوضوح واجب.
ما تعلمته عبر التجربة أن السؤال عن الخيار الثالث ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة لضمان أننا لا نتحرك داخل افتراضات لم نختبرها. وعندما نتأكد أن السؤال صحيح، والإطار عادل، والبدائل حقيقية، فإن الاختيار الواضح يصبح فضيلة، لا تهورًا.
القيادة ليست أن تقول دائمًا: “هناك خيار آخر”.
القيادة أن تعرف:
• متى تُعيد صياغة السؤال
• ومتى ترفض اللعبة
• ومتى تختار… وتمضي
وفي عالم يتغير بسرعة، تبقى هذه المهارة — مهارة اختبار الإطار قبل الاختيار — من أكثر المهارات القيادية إلحاحًا. لأنها ببساطة تفصل بين من يختار بين الخيارات، ومن يصنعها.