قصة أخرى من قصص القرآن الكريم، وهي قصة أيضاً لنبي الله سليمان عليه السلام قال عز وجل: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 15-19]، قصة عجيبة سليمان عليه السلام في واد النمل.
والريح تحمل سليمان وجنوده ولو كانوا ملايين، لذلك جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17]، يكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد على أحد في المنزلة والمرتبة، ولا يتقدمون في المسير على القادة، يُوزَعُونَ يكفون، يمنعون، يحبسون، يرتبون، لا أحد يتقدم على أحد، يصفون صفوفًا للحرب، وهذا من أحسن التنظيم، جيش كبير أعداده كثيرة أجناسه شتى، ليس إنس فقط، هناك جن، وليس من الثقلين فقط هناك طير، وهكذا التفاوت في أنواع القوة، وأنواع الجنود يحتاج إلى ضبط عند المسير، ويحتاج إلى تنظيم وترتيب وتنسيق، ولم يكن جيش سليمان -عليه السلام- فيه مكان للفوضى إطلاقًا، وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ [النمل: 20].
والقائد يكتشف غياب الجندي، ويسأله، ويحاسبه إذا رجع أين كان؟ لم يكن جنود سليمان نسيًا منسيًا، ولا مهملين، بل كان عسكرًا مرتبًا منظمًا ومنسقًا، فهم يوزعون يكفون، ويمنعون عن التقدم أو التأخر أو الاضطراب أو الخلخلة، ويمنعون من الفوضى، وهذا هو من أساسيات الحياة العسكرية وتحرك الجيش اتخاذ الإمام والحكام وزعة يمنعون الناس، ويكفونهم من تطاولهم بعضهم على بعض، فالحاكم لا يمكن أن يلي بنفسه، لا بدّ أن يكون من الجنود والشرط من يمنع اعتداء الناس بعضهم على بعض، وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17].
وزعة ينظمونهم، ويمنعونهم من البغي والفوضى، قال الحسن رحمه الله: “لا بدّ للناس من وازع” أي من سلطان يكفهم، وقال في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس: “والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة”. [أخبار القضاة لأبي بكر البغدادي: 1/191].
لا يصلحهم إلا وزعة يزعونهم، عندما تحرك هذا الجيش أين أتى؟ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ [النمل: 18]، أين هو واد النمل؟ في أي مكان في الجغرافيا؟ في أي موضع من الأرض الله أعلم، لماذا لم يذكره لنا؟ لماذا لم يحدده لنا؟
لو كان هناك فائدة لأخبرنا به لكن الله سبحانه وتعالى ذكر لنا ما نأخذ منه العبر والعظات، ولا يضرنا عدم معرفة أين هذا الوادي وأين موقعه على الخريطة الجغرافية، ولعل الوادي كان مشهورًا بكثرة النمل فيه، وبيوت النمل، ولذلك سمي بواد النمل، وهذا طبيعي في التسميات أن الشيء إذا كثر في مكان سمي هذا المكان باسم هذا الشيء الكثير، وادي النمل فيه نمل كثير، حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ [النمل: 18].
لما دخل جيش سليمان الكبير هذا الوادي يجتازونه إلى مكان آخر شاهدتهم نملة من النمل، وقالت بلسان المشفقة على قومها، الحريصة على مصلحتهم، التي تتمنى لهم الخير والسلامة من الشرور: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [النمل: 18]، حكيمة في نصحها لأمتها حكيمة في ندائها، وتنبيهها لأن الإنسان إذا أراد أن ينبه على شيء مهم استعمل أداة النداء، {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ} فنادت معاشر قومها تحببًا وتقربًا ليسمعوا كلامها، ويستجيبوا لنصحها، يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ادخلوا بيوتكم التي تقيمون بها في باطن الأرض لتحميكم من الأخطار، نصحتهم لماذا؟ ما هو الخطر؟ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ [النمل: 18]، لأنهم كثرة كبيرة جداً، ويمكن أن يدوسوكم وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [النمل: 18].
إنه اعتذار جميل من هذه النملة عن سليمان وجنوده، إنها لا تريد أن تقول: إنهم يدوسون النمل تعمدًا، وإرادة للأذى، وقتلاً للصغار من الكائنات، كلا، وإنما وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فقدمت العذر، لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [النمل: 18].
فتأمل عقل النملة هذه، كيف أدركت أن سليمان وجنود سليمان إذا حطموا شيئًا فبغير قصد، لا يقصدون الشر والأذى، لم تسيء الظن، ولم تتهم، بل سارعت للدفاع، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وعندما كانت النصيحة بهذا الأدب الجم لا بدّ أن تكون الاستجابة حاصلة أولاً.
ثانيًا: من هذه النملة وأسلوبها وحكمتها وأدبها يضحك سليمان عليه السلام يتبسم من مثل هذه المقالة، ومن هذه المنطق السليم الجميل، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا [النمل: 19] لقد سمع كلامها، وفهم مرادها، وتأثر بنطقها، وأعجبه هذا الكلام، تبسم ضاحكًا من غير قهقهة، وهكذا الأدب في الضحك ألا يرتفع الصوت، ولا تظهر اللهاة، بعض الناس البلعوم والحلق وأقاصي وكل شيء في الداخل مع الضحك يفغر فاه، لكن سليمان تَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا [النمل: 19].
من غير قهقهة، بدت ثناياه بهذه الضحكة دون صوت، وهو أخف الضحك وأحسنه، إعجابًا بقولها لظهور رحمتها وشفقتها على قومها من جهة، ولالتماسها العذر لسليمان، وجنوده من جهة، وسرورًا بما أعطاه الله من النعمة في فهم منطق النمل كما فهم منطق الطير، ولذلك شكر النعمة، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [النمل: 19].
إنها نعمة كبيرة عندما يعطي كل هذه الإمكانات والقوى والفهم والعلم، وعلى رأس ذلك النبوة، وأن يوفق لخدمة التوحيد والدين، وأن يخرج مجاهدًا في سبيل الله، ألهمني شكر نعمتك التي مننت بها عليّ من تعليم منطق الطير والحيوان.
إن كثيرًا من الناس عندهم نعم، ناس عندهم أموال، ناس عندهم جاه، ناس عندهم فصاحة، ناس عندهم وجاهه، ناس عندهم أنواع من المواهب في الخط والتنظيم والإدارة، ناس عندهم عقليات كبيرة اختراع تخترع وتبتكر وتفهم، ناس عندهم حافظات قوية، نعم: عبقرية، ذكاء، حفظًا، قيادة، موهبة شخصية: جمالاً، مالاً، حسبًا، جاهًا، منصبًا، ما هو المهم إذا أوتي النعم؟ أن يستعملها في شكر الله، يستعملها في طاعة الله ومرضاة الله، ولذلك فإن سؤال سليمان ودعاء سليمان في غاية الأهمية، إنه يقول: أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [النمل: 19] ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك التي مننت بها عليّ من تعليم منطق الطير والحيوان، وَعَلَى وَالِدَيَّ [النمل: 19]، بالإسلام لك والإيمان بك لأنك مننت عليّ والدي أيضاً، أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ بنعمة الإسلام والدين، وأنك أدخلتنا برحمتك في عبادك الصالحين، وأنك جعلتنا من المطيعين، وأنك وفقتنا لما تحب وترضى، أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ [النمل: 19]، هذا هو المهم: أن أعمل صالحًا صوابًا خالصًا، أن أعمل صالحًا صوابًا وفق وما شرعه الله صوابًا خالصًا، بنية صافية حسنة لله رب العالمين، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19].
ألحقني بالرفيق الأعلى من أوليائك، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69].
الفوائد والأحكام المستفادة من القصة:
وإذا نظرنا في مسألة من المسائل وهي قضية قتل النمل لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ [النمل: 18]، وماذا كانت الشريعة أو الشرائع من قبل هذه الشريعة، فإننا سنجد في صحيح مسلم رحمه الله، وكذلك البخاري شيخ مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قرصت نبيا من الأنبياء نملة، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح، فهلا نملة واحدة [رواه البخاري: 3019، ومسلم: 2241].
قال العلماء كان في شريعة ذلك النبي جواز قتل النمل، وجواز الإحراق بالنار، وإن الله لم يعتب عليه أنه قتل النمل، وأنه أحرقه بالنار، لكن عتب عليه لماذا زاد على نملة، لماذا عاقب غير التي قرصته، لماذا لم يكتف بعقوبة التي قرصته.
أما في شرعنا فإنه لا يجوز إحراق الحيوان بالنار، وأيضاً حتى الجناة، ولذلك لما اختلفوا في اللوطي الذي يأتي عمل قوم لوط ماذا يفعل به؟
فقال بعضهم: يحرق بالنار.
وقال بعضهم: يرمى من أعلى بناء في البلد، ويتبع بالحجارة.
وقال بعضهم: يرجم بالحجارة.
وقال بعضهم: يضرب عنقه بالسيف، فمما يرد به على من قال: يحرق بالنار أنه لا يعذب بالنار إلا رب النار [رواه أبو داود: 2675، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة:487].
في حالة ذكرها العلماء في القصاص، قالوا: إذا أحرق شخصًا بالنار يحرق قصصًا، من أجل القصاص يقتل بمثل مثلما قتل، قتل بالإحراق إذًا يحرق، فلولي القصاص إحراق الجاني، أما غير ذلك فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار .
وكذلك فإن قتل النمل في شريعتنا منهي عنه، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد [رواه أبو داود: 5267، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: 6968]، وهو نوع من الطيور.
فإذًا لمنفعة هذه الدواب، ولئلا يتجبر عليها، وبعضها صغير هذا النمل والذر، نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتلها.
أما إذا صار النمل مؤذيًا كهذا النمل الذي يقرص ويؤذي ويفسد الأطعمة، فإنه يجوز قتله لدفع ضرره من باب دفع الصائل، أما إذا لم يكن ضارًا فإنه لا يقتل.
والصرد طائر ضخم الرأس والمنقر، له ريش عظيم نصفه أبيض ونصفه أسود كما وصفوه، والنحلة فيها المنفعة من العسل والشمع، والهدهد والصرد يجمعها شيء وهو أن لحمهما لا يؤكل منهي عنه.
وجاء في الحديث الصحيح النهي عن قتل الضفدع، فإذًا لا يؤخذ منه دواء، ولا يؤكل لحمه.
فلو قال قائل: ذهبنا إلى كوريا، وهناك مطعم مأكولات وفيها أشياء غريبة عجيبة، وفيها لحم ضفادع، وصفوا لنا في لحم الضفادع في تقوية الإنسان؟ نقول: لا تأكله لقد ورد النهي عن قتل الضفدع، لا يؤخذ منه دواء، ولا يؤكل لحمه.
وكذلك الهدهد والصرد.
وأثنت النملة وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون، ونفت الجور عن سليمان، ولعل هذا من أسباب احترام النمل أننا لا نتعمد قتله بدون حاجة لأن تلك النملة كانت تدافع عن نبي الله سليمان -عليه السلام-.
وجاء في بعض الآثار أن الصرد والهدهد كانا لهما فوائد في حياة سليمان -عليه السلام-.
والحيوانات لها أفهام وعقول كما دلت على ذلك هذه القصة، والنمل حيوان فطن قوي، شمام جداً، يدخر ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت، يعني: حتى طريقة تخزين النمل للغذاء فيها عجب، فحتى لا تنبت هذه الحبوب داخل الجحور فإنه يشقها نصفين، ويأكل في عامه نصف ما جمعه، ويستبقي سائرة عدة، فعنده توفير واقتصاد وادخار، كل ذلك يفعله هذا النمل، وإننا نتعلم من الحيوانات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، نتعلم أشياء متعددة وكثيرة.
وهذه القصة قد رأينا فيها بعض الدروس من سيرة سليمان عليه السلام وجنوده.
وإذا كانت نملة واحدة عندها الشفقة على قومها فكيف لا يكون عندنا نحن الشفقة على قومنا، وإذا رأينا خطرًا داهمًا سواء على العقيدة، أو على الأخلاق، أو على العبادة، فإن علينا أن ننبه قومًا، وأن ننشادهم أن يبتعدوا عن هذا الخطر، قد يكون الخطر في قنوات فضائية، في الإنترنت، في الجوالات، في الأسواق، في السفريات، فينبغي علينا أن نحذر قومنا من الأخطار المختلفة، وإننا نأخذ درسًا من هذه النملة الحريصة على مصلحة قومها.
وأيضًا فإننا لا بد أن نحمل هم الآخرين، ومصلحة الآخرين، ونعمل حرصًا على ما يكون فيه الخير لهم من هذه النملة التي تكلمت، إنها إحدى النمل، قَالَتْ نَمْلَةٌ نملة نكرة، لا يضر هل هي ملكة النمل أو غير ملكة النمل، إنها نملة في هذا الوادي العريض لم تحقر نفسها أن تبين لقومها، وأن تنبههم، قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ وكل واحد فينا مهما كانت مكانته صغيرة مهما كان ضعيفًا مهما كانت إمكاناته محدودة له دور، هذه فائدة تؤخذ من قصة النملة هذه.
قَالَتْ نَمْلَةٌ من عرض النمل، يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [النمل: 18] حريصة، تحمل هم المجموعة، وهم الأمة، وهم أمة النمل، ونحن الواحد فينا مهما كان محدود الإمكانات ضعيفًا فإنه يمكن أن يقوم بواجب النصيحة والتحذير؛ كما فعلت تلك النملة، والشعور بالمسؤولية، وحمل هم الآخرين.
ونجد أيضاً حسن الظن، وعدم تحميل النيات ما لا تحتمل، إن هذه النملة دافعت عن سليمان عليه السلام وعن جنوده أيضاً، لم تكتف بالدفاع عن سليمان عليه السلام، لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ مع أن هؤلاء الجنود كثيرون جداً، فكيف إذا كان البعض يفسر النيات تفسيرات سيئة وخاطئة، ويقال له ردًا: هلا شققت عن قلبه، لو جئت واتهمت فلانًا بأشياء ما عندك عليها أدلة، فيقال: هلا شققت عن قلبه، هل قيل لهذه النملة أنتِ تريدين الشهرة، أو أن النمل ما استجاب لها، وأعرض عنها، لا إذًا ينبغي أخذ التحذير على محمل الجد، وما المانع نحن البشر أن نستفيد من الحيوانات الصغيرة الضعيفة؟ ما المانع إذا رأينا في ذلك فوائد وحكمة.
هذا النمل من أهدى الحيوانات، هداه الله الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50]، فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها، وتطلب قوتها، وإن بعد عليها الطريق، فإذا ظفرت بالشيء حملته وساقته في طريق معوجة، بعيدة ذات صعود وهبوط ووعورة، تخزن ذلك القوت لأيام القادمة، وتشقه نصفين، تفلقه فلقتين لئلا ينبت، وإذا كان ينبت مع فلقه شقته أربعًا، فإذا أصابه بلل، وخافت عليه من الفساد، أخرجته ونشرته في الخارج، لكي يجف، فانظر إلى حسن تدبيرها، وعملها، وانتظر بعضهم نملاً قد سكب الماء في جحره فأخرج الطعام ونشره حتى إذا جف أعاده.
ولا تتغذى منها نملة على ما جمعه غيرها، يعني ما عند النمل تواكل، ما عنده كسل، ما عند النمل أن الواحد يعيش كسلان على حساب الآخرين، كل النمل يشتغل، كل الجماعة تشتغل، كل الأمة تشتغل، أما نحن البشر تجد فينا تكاسلا، وتقاعسًا، واحد شاب طول وعرض وعضلات يعيش على راتب أخته المدرسة الموظفة الأنثى الضعيفة، وهو آخر الشهر يأخذ مرتبها أو أكثر أو جزءًا منه ليذهب ليطوف بالسيارات في الشوارع، ومطاعم، وعلى أصحابه، وهكذا هذا غير موجود عند النمل، أفلا تعلمنا النشاط والحركة من النمل، ثم لننظر كيف هذه الهداية من الله سبحانه وتعالى الذي جعل هذا النمل يعرف ربه، والنبي سليمان عليه السلام، والنمل يكره الكذب جداً.
قال ابن القيم رحمه الله في كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل: “ولقد حدثني من أثق به أن نملة خرجت من بيتها، فصادفت شق جرادة، فحاولت أن تحمله فلم تطقه، فذهبت، وجاءت معها بأعوان يحملنه معها، يقول الذي شهد القصة: فرفعت ذلك من الأرض قبل أن يصل النمل، فطافت في مكانه، فلم تجده، فانصرفوا، وتركوها فوضعته مرة أخرى، والنملة موجودة فعادت تحاول حمله فلم تقدر، فذهبت وجاءت بهم، فرفعته قبل أن يصلوا، فطافت فلم تجده، فانصرفوا، قال: فعلت ذلك مرارًا، فلما كان في المرة الأخيرة استدار النمل حلقة، ووضعوها في وسطها، وقطعوها عضوًا عضوًا”.
قال ابن القيم: قال شيخنا -يعني ابن تيمية- وقد حكيت له هذه الحكاية: هذا النمل فطرها الله سبحانه على قبح الكذب، وعقوبة الكذاب”. [شفاء العليل: 1/69].
والنمل في غاية الحرص، يدخر غذاءه، وقيل: إن نملة قد وضعت مع ثلاث حبات من الحنطة في قارورة، وسد فم القارورة وتركت فبقيت هذه المدة تعيش على هذا القوت، وليس للنمل قائد ورئيس يدبره كما يكون للنحل، إنما له رائد يطلب الرزق، فإذا وقف عليه أخبر أصحابه، فيخرجن مجتمعات، وكل نملة تجتهد في صلاح العموم، لا تختلس لنفسها شيئًا من الحب دون الآخرين.
ومن عجيب أمرها أن الرجل إذا أراد أن يحترس من الذر -يعني من النمل- لا يسقط في عسل أو نحوه، فإنه يحفر حفيرة في الأرض، ويجعل حولها ماء، أو يتخذ إناء كبيرًا ويملؤه ماء، ثم يضع فيها إناء العسل حتى لا يصل النمل إليه، فمرة جاء شخص بإناء عسل، وجاء بطست كبير، ووضع فيه الماء، ووضع إناء العسل في الوسط حتى لا يصل إليه النمل، ثم جاء دخل الغرفة فوجد النمل على العسل، فنظر فإذا النمل لما رأى العسل، فكر فصعد الحائط، وتسلقه ثم مشى على السقف فلما حاذى الإناء سقط عليه، فهذا تدبير النمل للحصول على القوت، وطلب الرزق، واتخاذ الحيلة للوصول إلى المطلوب.