يتسم المشهد الثقافي في مملكة البحرين بالتنوع ويحظى باهتمام كبير من جانب الدولة ومتابعة كثيفة من جانب الجمهور الذي يستطيع التنقل هنا وهناك للاستمتاع بقدر واسع من برامج الحراك الثقافي المتميز الذي لا تخلو منه أيام المملكة ولياليها والمشاركة في أنشطته وفعالياته التي تتجاوز الندوات ومعارض الفن وورش العمل وحفلات الموسيقى الشرقية والغربية على السواء لتشمل المهرجانات والمتاحف والمناطق التراثية وغيرها.
يعود الاهتمام بهذا المشهد إلى تاريخ قديم يجسد حقيقة وعي البحرين بحجم الأدوار التي يمكن أن تؤديها الثقافة باعتبارها محورا من محاور التطور والازدهار للمجتمعات البشرية في عمومها وليس للمملكة فحسب في الوقت الذي تتخذ فيه خطوات جادة للاعتماد على المنتج الثقافي كمصدر إضافي للدخل والإنتاج بالبلاد وكمكمل رئيسي للمقوم السياحي والخدمي الذي تشتهر بهما وتسعى الدولة حثيثا في المرحلة القادمة للاعتماد عليها جميعا انطلاقا من العوائد المباشرة وغير المباشرة لها.
وتنبني رؤية مملكة البحرين الثقافية على أن الثقافة ركن من أركان تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وأن المملكة بلد متعدد الثقافات والأديان والمذاهب والأديان ومن ثم يتعين إيلاء الاهتمام الكافي بذلك عبر غرس القيم اللازمة لدعم هذا التوجه لا سيما بين أبناء الوطن الواحد من النشء والشباب والتعويل على رموز الحركة الثقافية الوطنية ومبادرات القطاع الأهلي لقيادة هذا التوجه في ظل انفتاح كامل من جانب الدولة على فنون وثقافات العالم الأخرى.
ويبدو أن هذا التوجه هو ما يفسر إلى حد كبير تنوع واتساع وشمول الأجندة الثقافية السنوية للبحرين والتي تحوي في الحقيقة الكثير من الفعاليات التي تستقطب المهتمين من الداخل والخارج على السواء ومن بين أبرز البرامج التي قدمتها البحرين خلال الفترة الأخيرة وميز الحركة الثقافية بها: "مهرجان ربيع الثقافة" الذي بات علامة مميزة للمملكة ومشروعا ثقافيا شاملا ومتجذرا بامتياز خاصة أن نسخته ال13 بدأت في فبراير 2018 واستمر حتى نهاية شهر إبريل من نفس العام.
وقد أقيمت فعاليات هذا المهرجان ضمن برنامج احتفاء هيئة البحرين للثقافة والآثار بمدينة المحرق عاصمة الثقافة الإسلامية عام 2018 ومثَّل ـ في الواقع ـ أحد أهم مقومات الحراك الثقافي المتدفق في البلاد لما يتضمنه من برامج وأنشطة متنوعة تناسبت مع مختلف شرائح المجتمع بدء من المعارض الفنية والتشكيلية وانتهاء بالندوات الفكرية والمحاضرات والأمسيات الشعرية ومرورا بالطبع بالحفلات الموسيقية والعروض المسرحية كملحمة جلجامش وغيرها.
واستطاع المهرجان في نسخه السابقة تحقيق العديد من النجاحات ليس فقط على صعيد الجذب والاستقطاب الجماهيري وإنما على صعيد تسليط الضوء على المنجز الحضاري بالبلاد في شتى أنحائها والترويج له عبر الآليات الثقافية المختلفة وتدعيم قنوات الصلة والانفتاح التي تربط المملكة بالمنطقة والعالم.
كما يجسد المهرجان ببرامجه وفعالياته التي يلتف حولها المهتمون والشارع سواء بسواء حقيقة الشراكة الفعلية بين المؤسسات الحكومية ممثلة في هيئة البحرين للثقافة ومجلس التنمية الاقتصادية وغيرها من المؤسسات الثقافية الأخرى كمركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة ومعرض البارح للفنون التشكيلية ومركز لافونتين للفن المعاصر فضلا عن رعاية مؤسسات القطاع الخاص له.
وكانت فعاليات هذا المهرجان قد انطلقت في حفل بهيج أقيم بجانب قلعة عراد يوم 28 يناير 2018 الماضي وذلك تحت شعار "المحرق عاصمة الثقافة الإسلامية" وبرعاية سامية من لدن حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المفدى حفظه الله ورعاه وحضور سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة نائب رئيس مجلس الوزراء ممثلا لراعي الحفل حفظه الله ومعالي الدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة.
ومن بين المهرجانات الأخرى التي تميز المشهد الثقافي بالمملكة: مهرجان "تاء الشباب" الذي اختتم دورته التاسعة في 18 فبراير 2018 الماضي واستمر بفعالياته وأنشطته لأكثر من أسبوعين حيث يبدأ منذ عدة سنوات مع مطلع الشهر سنويا واستهدف إقامة عدة مشاريع ثقافية وأدبية وفنية متنوعة توجه بالأساس لفئة الشباب البحريني ودمجها في مشروع واحد يحمل هذا الاسم "تاء الشباب" الذي كان بمبادرة من أحد المهتمين بالحراك الثقافي بالبلاد وهو المفكر والناقد الراحل "محمد البنكي".
وقد نظمت خلال الدورة الأخيرة للمهرجان 8 مبادرات هي: المحرق تقرأ و"هارموني" الموسيقية و"أدوار" المسرحية و"حفاوة" للاحتفاء بسيرة الفنان الراحل راشد العريفي و"درايش" التي اشتغلت على العمران و"تشكيل" واهتمت بإنشاء أجنحة فنية في سوق القيصرية داخل مدينة المحرق القديمة و"تكنيك" واستهدفت استيعاب التطورات التقنية المتلاحقة و"حياة" لتنمية قدرات الشباب الصحية والرياضية.
ويقام منذ العام 2016 مهرجان "الطعام ثقافة" بالتزامن مع معرض البحرين السنوي للفنون التشكيلية، الذي أقيمت دورته ال44 بجانب قلعة عراد في 15 يناير 2018 الماضي وبمشاركة 53 فنانا وامتد حتى 8 مارس من نفس العام.
وقد أقيم على هامش هذا المعرض الفني المهم: سمبوزيوم البحرين الدولي ال6 للنحت وشارك في أعماله العديد من النحاتين وينتظر أن توزع أعمالهم الفنية ال12 لاحقا على مسار موقع طريق اللؤلؤ ـ المدرج على لائحة التراث الإنساني العالمي لليونسكو ـ في مدينة المحرق.
وكانت قد اختتمت الدورة ال3 لفعاليات وبرامج مهرجان "الطعام ثقافة" في فبراير 2018 الماضي الذي يوصف باعتباره تجربة ثقافية وفنية مختلفة لأنه يجمع بين الفنانين والطهاة معا في فرق عمل مشتركة لتقديم مزيج مركب من فني التشكيل اللوحي والطهي بجانب بعضهما البعض وبما يبهر حواس جمهور الذواقة من مفضلي الفنين من داخل البحرين وخارجها.
ولا تغفل البحرين أهمية مقوماتها ورموزها الثقافية الأخرى التي تملكها وذلك باعتبارها من الأسلحة الثقيلة في مواجهة حروب الدعاية والتضليل التي باتت تمثل سمة من سمات العالم المعاصر. ومن بين ذلك "متحف موقع قلعة البحرين" الذي يوصف باعتباره أول مشاريع الاستثمار في الثقافة في المملكة وصنفه اجتماع اليونسكو عام 2016 كأشهر متاحف المواقع الأثرية على مستوى العالم حيث يمتد على طول الواجهة البحرية الشمالية للقلعة الواقعة شمال البلاد وتعد أول موقع بحريني يتم إدراجه على قائمة التراث الإنساني العالمي.
واستطاع "متحف قلعة البحرين" الذي افتتح في فبراير 2008 واحتفل مطلع عام 2018 بمرور 10 سنوات على تأسيسه من تحقيق شراكة مميزة مع مختلف فئات المجتمع سيما منهم الجمهور العام حيث ينسب له الفضل في التعريف بالحفريات الأثرية التي عرفتها البحرين وعرض مقتنيات من أهم القطع الأثرية المستخرجة في حقب البحرين التاريخية فضلا عن إقامة العديد من ورش العمل والمحاضرات والأمسيات الفنية والمعارض التي استفاد منها الجميع وساهمت في رفع وعي الرأي العام والأطفال خاصة حول أهمية التراث الأثري للمملكة.
وتولي هيئة الثقافة بالبحرين أهمية خاصة ل3 مشاريع ثقافية تتسم بالاستمرارية والاستدامة ولها من الأثر الحالي والمستقبلي ما لا يستطيع أحد أن ينكرها خاصة على صعيد السمعة والمكانة التي تبتغيها المملكة في الوسط الثقافي المحلي والإقليمي والعالمي الأول: يتعلق بالترجمة حيث تدير الهيئة وتنظم مشروعا يعرف باسم "نقل المعارف" حيث قامت بنقل وترجمة 17 كتابا منذ بداية انطلاقه وأصدرت في يناير 2018 الإصدار ال18 من هذه السلسلة وحمل عنوان "هل يجب حقا تقطيع التاريخ شرائح؟" للمؤرخ جاك لوغوف.
الثاني: جائزة البحرين للكتاب 2018 التي أطلقت عام 2011 بمناسبة اليوم العالمي للكتاب وتحتفي جائزة هذا العام بمشاركات كتاب وباحثي المملكة العربية السعودية الشقيقة تحت عنوان "الأدب وتشكيل العالم" وينتظر إعلان الفائزين بالجائزة ضمن فعاليات المعرض الذي انتظم في مارس 2018 وتحل عليه المملكة العربية السعودية ضيف شرف النسخة 18.
الثالث: استضافة مقر واجتماعات "المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي" الذي أسس بموجب مرسوم ملكي صدر في 16 ديسمبر 2010 واعترف به دوليا ويهدف لتعزيز تنفيذ اتفاقية التراث العالمي لعام 1972 في الدول العربية وتمكن من دعم دور المملكة في حماية مواقع التراث الأثرية بالمنطقة.
وربما كان لذلك المركز دور كبير في انتخاب البحرين عام 2017 في لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو لمدة 4 سنوات وإعادة الاتفاق على بقائه على أرض المملكة لمدة 6 سنوات أخرى وصار للبحرين مقعد رئيسي باللجنة التي تجتمع سنويا وتضم ممثلي 21 دولة وينتظر أن تجتمع هذه اللجنة لمدة 10 أيام برئاستها في المنامة في 24 يونيو 2018 إلى 4 يوليو من نفس العام وذلك بمشاركة 1500 خبير عالمي.
ولا يتوقف الحراك الثقافي بالمملكة على مقومات المهرجانات المذكورة وغيرها كمهرجان التراث السنوي ومهرجان صيف البحرين ومهرجان البحرين الدولي للموسيقى ومقومات المواقع الأثرية المختلفة كقلعتي عراد والبحرين المشار إليهما سلفا والمدرجتين على قائمة التراث الإنساني العالمي وكذلك قلعة بوماهر بمدينة المحرق التي يبدأ من عندها موقع طريق اللؤلؤ الذي أدرج على قائمة التراث الإنساني العالمي لمنظمة اليونيسكو وهو يحاكي موقع قلعة البحرين بالمنامة وقلعة عراد بالمحرق وهي المقومات الأثرية التي تعكس في مجملها تاريخ وحضارة البحرين القديمة والحديثة.
وإنما يمتد هذا الحراك ليشمل العديد من المشاريع والفعاليات الثقافية والفنية الأخرى التي بدأت مع مطلع عام 2018 بالحفلات والعروض الغنائية والموسيقية خاصة تلك التي نظمت بمناسبة الميثاق الوطني وهو ما شهدته الصالة الثقافية في الربع الأول من هذا العام وتواصلت مع إقامة وتنظيم العديد من المعارض الفنية المختلفة سيما تلك التي شهدتها دار البارح ومركزي الفنون ولافونتين للفن المعاصر.
هذا فضلا عن سلسلة من المحاضرات والمسامرات الأدبية والفكرية والشعرية وغيرها التي استضافها ويستضيفها ـ في العادة ـ مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة بالمحرق الذي احتفل بذكرى تأسيسه ال16 في 12 يناير 2018 الماضي حيث قدم منذ عام 2002 نشاطا ثقافيا استقطب حتى الآن أكثر من 500 محاضر وفنان وشاعر وأديب ويتفرع عنه 25 بيتا معنيا بالمحافظة على التراث كبيت الشعر وبيت عبد الله زايد لتراث البحريني وغيرها.
ناهيك بالطبع عن الفعاليات المنتظمة التي يشهدها متحف البحرين الوطني الذي احتفل ـ هو الآخر ـ بذكرى تأسيسه ال29 عبر الفعالية السنوية "ما نامت المنامة" في ديسمبر 2017 والمسرح الوطني الذي احتفى عام 2018 بالذكرى ال5 على تأسيسه ومشروع الصوت والضوء الجديد بقلعة البحرين الذي افتتح للجمهور ثلاثة أيام أسبوعيا وقاعة محمد بن فارس لفن الصوت الخليجي في المحرق ودار الرفاع العودة التي تم تحديثها وتجهيز مرافقها ومركز سلمان الثقافي وبيت الغوص بالمحرق وغيرها من مرتكزات ومراكز الإشعاع الثقافي بالمملكة.
يضاف إلى ذلك: ورش العمل والتدريب التي تقيمها وتنظمها هيئة البحرين للثقافة دوريا وتؤكد من خلالها دوما على مسؤوليتها الاجتماعية ودورها في رعاية الموهوبين حيث استهدفت كثيرا من الأطفال والشباب في مراحل عمرية مختلفة واستضيف لها محاضرون متخصصون من البحرين وخارجها وشملت بموضوعاتها الكثير من اهتمامات الأجيال الجديدة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: "شخصيتك في ختم أنت من دلمون" "أسطورة غلغامش" "فن النقش الإسلامي" وغيرها.
وبجانب الأدوار التي تتولاها هيئة البحرين للثقافة هناك أدوار أخرى تقوم بها بعض المؤسسات الأهلية والخاصة لدعم الحراك الثقافي بالمملكة ومن ذلك برامج محاضرات مركز عبد الرحمن كانو الثقافي التي يقدمها طوال العام حيث دشن موسمه الثقافي ال24 المخصص للربع الأول من هذا العام مطلع يناير 2018 ويتناول العديد من القضايا الثقافية المحلية منها والإقليمية والدولية ويستضاف خلالها رموز الحركة الثقافية بالخليج والعالم العربي.
إضافة إلى دور جمعية تاريخ وآثار البحرين التي تأسست منذ أكثر من نصف قرن وبالتحديد في عام 1953 وتعد أول جمعية في البحرين ومنطقة الخليج ككل تنشأ وتهتم بالآثار والتاريخ والتراث ودشنت قبل فترة موسمها الثقافي ال64 الذي يضم العديد من المحاضرات التاريخية القيمة التي يستضاف لها نخبة من الخبراء والمتخصصين من داخل البحرين وخارجها.
وكذلك تدشين النسخة ال2 من جائزة الخليج العربي للروائيين الشباب التي تنظمها مؤسسة الوطن للصحافة بهدف دعم الشباب في المجال الثقافي وتقام في الفترة من 23 إلى 24 مارس كل عام تحت رعاية سمو الشيخ خالد بن حمد آل خليفة النائب الأول لرئيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة رئيس الاتحاد البحريني لألعاب القوى.