خلق الله هذا الكون وأبدع في تكوينه، سواءً كان في الإنسان أو الحيوان أو النبات أو التضاريس، فكلّ شيء على وجه الأرض خلقه الله لحكمة، وهو خلق مُتقن يدل على عظمة الخالق ومدى الدقة المتناهية في خلقه، ويستحيل لبشر أن يأتوا بمثله أبداً، وإذا ما فتشنا عن تعريف الجبال، هذه المخلوقات التي أرساها الله تعالى على هذه الأرض نجد جميع التعريفات الحالية تنحصر في الشكل الخارجي لهذه التضاريس، دون إشارة لامتداداتها تحت السطح والتي ثبت أخيراً أنها تزيد على الارتفاع الظاهر بعدة مرات. هذا ما أبدعه الله تعالى كرسالة للبشرية جمعاء على حسن صنعه وخلقه وقدرته سبحانه وتعالى.
ولم يكتشف العلماء حقيقة أن الجبال أوتاد للأرض إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر عندما تقدم السير “جورج ايري” بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساساً مناسباً للجبال التي تعلوها، وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبال لا تمثل إلا جزءاً طافياً على بحر من الصخور الكشفية المرنة، وبالتالي فلا بد أن يكون للجبال جذور ممتدة داخل تلك المنطقة العالية الكشافة لضمان ثباتها واستقرارها.
يختفي معظم الجبل في الأرض لتثبيت قشرة الأرض، وكما تثبت السفن بمراسيها التي تغوص في ماء سائل فكذلك تثبت قشرة الأرض بمراسيها الجبلية التي تمتد جذورها في طبقة لزجة نصف سائلة تطفو عليها القشرة الأرضية
وهذه الحقيقة العلمية لم تعرف إلا منذ أمدٍ قصير بعدما أمكن تصوير باطن الأرض بالوسائل الحديثة التي لم تكن معروفة قبل القرن العشرين، بل قبل النصف الأخير من هذا القرن، إذ وجد أن الجبل ليس هو الجزء الظاهر منه فوق سطح الأرض فقط كما يرى علماء الجغرافيا والجيولوجيا، بل أنه مغروس كالوتد في باطن الأرض، وأن الجزء المغروس منه مدبب كالوتد، ليثبت الجبل مكانه، وأنه لولا جذر الوتد المغروس في باطن الأرض ما ثبت الجبل مكانه، وهذه الحقيقة لم تكن معروفة للعرب ـ ولا لغيرهم ـ وقت نزول القرآن، حتى يقال إن محمداً – صلى الله عليه وسلم -اقتبسها من علوم عصره، إنما هي إحدى الإشارات القرآنية الكونية التي وعد الله البشر أنهم سيعلمونها في يوم من الأيام، ويعلمون أنها حق، ويتبينون أنها وحي من عند الله. يقول تعالى في كتابه الكريم: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا* وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 6 ـ 7]. وقد ذُكرت الجبال في القرآن الكريم في ثلاثٍ وثلاثين موضعاً، ووصفها الله شكلاً ووظيفة. نذكر منها:قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 7]. وقال تعالى: { وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [لقمان: 10]. وقال تعالى: { وجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31 ].
يبين لنا الله جلَّ جلاله أن للجبل أوتاداً تمتدّ تحت سطح الأرض حتى تثبّت الجبال في مكانها بحيث لا تميل وتسقط، وتلك تُبيّن عظمة الله تعالى في خلق الجبال، والجبال هي أوتاد بالنسبة لسطح الأرض، والوتد يكون منه جزء ظاهر على سطح الأرض، ومعظمه غائر فيها، ووظيفته التثبيت لغيره، بينما كتلة من الأرض تبرز فوق ما يحيط بها فكما يختفي معظم الوتد في الأرض للتثبيت، كذلك يختفي معظم الجبل في الأرض لتثبيت قشرة الأرض، وكما تثبت السفن بمراسيها التي تغوص في ماء سائل فكذلك تثبت قشرة الأرض بمراسيها الجبلية التي تمتد جذورها في طبقة لزجة نصف سائلة تطفو عليها القشرة الأرضية.
ويلاحظ أن الجذور أسفل سلاسل الجبال أكثر عمقاً من الجذور تحت المناطق المستوية، هذا ما اكتشفه العلم، ولكن القرآن الكريم سجل ذلك قبل العلم بكثير، وبالتأكيد إن التعبير الوصفي (أوتادا) في قوله سبحانه وتعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} لا يعدله في الدقة شيء، ولم يغب عن فطنة المفسرين أن يسجلوا وجه الشبه في قوله تعالى (وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) ففهموا أنه في التثبيت، وقالوا جعل للأرض أوتاداً بمعنى أرساها وثبتها وجعلها تقر وتسكن ولا تميد، وإنما استمدوا تلك المعرفة من دلالة الكتاب الكريم، ولا يمكن أن تلتقي تلك المعرفة الحديثة مع فيض الدلالات العلمية في حديث القرآن عن تاريخ الجبال ووصف تكونها إلا أن يكون هو الوحي من عند الله العليم وحده تعالى بكل الأسرار.
وفيما يختص بالجبال، هناك حقيقة، وهي التي خلق الجبال من أجلها هي ترسية الأرض ومنعها أن تميد بالناس، فهي بجذور أوتادها المغروسة في باطن الأرض هي التي تحفظ توازن الأرض، وتجعلها مستقرة يستطيع البشر أن يعيشوا فوقها، وينشطوا نشاطهم ويبنوا ما يبنونه من منازل ومنشآت، فلولا الجبال لسقطت الثلوج على الأرض مباشرةً وذابت دفعةً واحدة، ولم يستفد منها الإنسان؛ بل ستصبح نقمةً بما سوف تخلّفه من سيول عارمة تُهلِك الإنسان والنبات والحيوان،ى ولولا الجبال لظلت الأرض تتحرك بالناس، وترتج بهم ذات اليمين وذات اليسار، بما تحدث منه نماذج حقيقية في الزلازل بين الحين والحين، وبصدد تلك الرواسي أيضاً جاء في سورة الرعد: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].
وهذه الآية وحدها تحمل حشداً من المعلومات العلمية، متتابعة تتابعاً علمياً لم يكن يدركه الناس قبل اتساع معلوماتهم عن هذا الكون وما يجري فيه، فالرواسي ـ هي الجبال الثابتة ـ التي تحفظ توازن الأرض، وفي الوقت ذاته هي مصدات تصد الرياح المحملة ببخار الماء فيصعد إلى أعلى، فيبرد فيتكاثف، فينزل إلى الأرض في صورة أمطار، ومن الأمطار الغزيرة تتولد الأنهار، الأنهار هي التي تسقي الزروع، فتنتج فيها الثمار، ومن هنا نرى ذكر الأنهار بعد الرواسي ومن بعد الأنهار الثمار، هو ليس مجرد تعديد لآيات قدرة الله في الكون، وإنما هناك (ترابط علمي) بينهما، وهو ترابط السبب والنتيجة. فسبحان الخالق جلّ جلاله فيما خلق، أبدع وأحسن خلقه، سبحانه تتجلّى عظمته في إعجازه.
الجبال خلق من مخلوقات الله العظيمة، ذكرها الله في كتابه العزيز في أكثر من أربعين موضعاً؛ تتحدث عن صفاتها ووظائفها وخصائصها، وتدعو إلى التأمل فيها والتدبر في كيفية خلقها، وتشير إلى شيء من عظيم قدرة الله في تكوينه لها، وشدة بنائها، كما تتحدث عن مصيرها ومآلها يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات، وكيف تتحول هذه الجبال مع عظمتها وقوة خلقها هباء منبثاً وكالعهن المنفوش.
الجبال في منهج القرآن الكريم
جاء حديث القرآن عن الجبال على وجوه كثيرة؛ منها: شاهدة على تعنّت الفئة الكافرة التي رفضت عبادة الله عز وجل، قال تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [سورة هود: 42-43].
شاهدة على مهارة قوم صالح في النحت والصناعة، وشاهدة على تعنتهم وعصيانهم: قال تعالى: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} [سورة الحجر: 82-83].
عبودية الجبال لله
دلت النصوص الشرعية على أن الجبال تسجد لله تعالى وتُسبح وتخشع له، وأنها ثالث الكائنات التي عُرضت عليها الأمانة لحملها، وأنها جاءت بأفعال تدل على إدراكها، وإليك بيانَها في النصوص:
سجود الجبال لله تعالى
ذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [سورة الحج: 18]، فهذه الآية عامة في إثبات السجود لله تعالى من جميع الكائنات، والعطف يفيد أنها جميعاً عابدة لله تعالى، فأما الكيفية فلا يعلمها إلا هو سبحانه. يقول ابن كثير رحمه الله عن سجود الجبال: “وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين والشمائل”.
القرآن تحدث عن الجبال بما لم يتصوره باحث، أو يقف عليه دارس، إنه حديث عن عبودية هذه المخلوقات لربها وخالقها سبحانه، وذلها -على عظمتها وصلابتها- بين يدي موجدها وبارئها
تسبيح الجبال
قال تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [سورة الأنبياء: 79]، وقال تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سورة سبأ: 10]، وقال تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [سورة ص: 18]. فالتسبيح في الآيات السابقة هو على الحقيقة، فقد جعل الله سبحانه لها إدراكاً تسبّح به، واقترانها بالتسبيح مع داوُد عليه السلام وتسخيرها لذلك هو من باب إظهار معجزة هذا النبي عليه السلام، وكذلك استئناساً وإعانة له على التسبيح؛ بحيث تردد معه تسبيحه أو تسبح هي بأمره لها، فجعلها الله عز وجل مُسخَّرة لأمره عليه السلام، فالنداء في قوله تعالى: “يا جبال” للخطاب لمن يُدرك. ونورد هنا أقوال بعض العلماء: قال القرطبي رحمه الله: ذكر الله تعالى ما آتاه من البرهان والمعجزة؛ وهو تسبيح الجبال معه، قال مقاتل: كان داوُد إذا ذكر الله عز وجل ذكرت الجبال معه، فكان يفقه تسبيح الجبال. ثم قال رحمه الله: وإن ذلك تسبيح مقال على الصحيح من الأقوال، وكان عند طلوع الشمس وعند غروبها.
خَشية الجبال
قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [سورة الحشر: 21]. فالله عز وجل يذكّر الناس بخشيته والخوف منه سبحانه، وذلك باجتناب المعاصي وفعل الطاعات، فيضرب الله تعالى مثلاً بقياس الأولى؛ فالجبل مع صلابته ومع افتراض نزول القرآن عليه فإنه يخشع لله تعالى، فالبشر مع تفضيل الله تعالى لهم على كثير من الكائنات أولى بأن يكونوا أكثر لله تعالى خشية. يقول محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: فدل هذا كله على أنه تعالى وإن لم ينزل القرآن على جبل، لو أنزله عليه لرأيته كما قال تعالى: “خاشعاً متصدعاً من خشية الله”. كما -ذكر رحمه الله تعالى-أمثلة أخرى لهذا التصدّع للجبال من خشيتها لله عز وجل.
فيقول: وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أقل من هذا التصدع في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [سورة الأحزاب: 72]. فهذا نص صريح بأن الجبال أشفقت من حمل الأمانة، وهي أمانة التكليف بمقتضى خطاب الله تعالى لها، فإذا كانت الجبال أشفقت لمجرد العرض عليها فكيف بها لو أنزل عليها وكلفت بها؟
إن القرآن تحدث عن الجبال بما لم يتصوره باحث، أو يقف عليه دارس، إنه حديث عن عبودية هذه المخلوقات لربها وخالقها سبحانه، وذلها -على عظمتها وصلابتها- بين يدي موجدها وبارئها، بل إنها لتندك لتجلّي ربها إعظاماً وإجلالاً وذلاً وخوفاً، كما في قصة موسى عليه السلام عندما قال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأعراف: 143]. وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور صار مثل دك من الدكاك، وقال بعضهم: “جعله دكاً” أي: فتّته. وقال مجاهد في قوله: “ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني”، فإنه أكبر منك وأشد خلقاً، “فلما تجلى ربه للجبل” فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله، ورأى موسى ما يصنع الجبل فخرّ صعقاً.
غضبة الجبال الكونية:
قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا &<757; لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا &<757; تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا &<757; أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [سورة مريم: 88-91]. فكانت هذه الغضبة الكونية التي اشتركت فيها السماوات والأرض والجبال حتى تحولت إلى زلزال كبير مدمّر بمجرد سماعهم لهذه الكلمة “وقالوا اتخذ الرحمن ولداً”، وكأن الكون كله قد تحول إلى أفواه مزمجرة تقول لهؤلاء المشركين: “لقد جئتم شيئاً إدّاً”، لقد اهتزَّ كل ساكن، وارتجَّ كل مستقر، وغضب كل ما هو داخل هذا الكون غضباً شديداً لبارئه وخالقه؛ لأن هذه الكلمة صدمت كيانه وفطرته، وخالفت ما وقر في ضميره وعقله وما استقر في كيانه وحسّه، وهزت القاعدة التي قام عليها الوجود واطمأن إليها، قال تعالى: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا &<757; وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [سورة مريم: 91-92]. وفي وسط هذه الثورة العارمة تدوّي في جنبات الكون اللانهائي آيات بينات، تنزيل من حكيم حميد. قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا &<757; لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا &<757; وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [سورة مريم: 93-95].
فيما يخص الجبال فثمة حقيقة؛ وهي أنها خُلقت من أجل ترسية الأرض ومنعها من أن تميد بالناس، فهي -بجذور أوتادها المغروسة في باطن الأرض- تحفظ توازن الأرض، وتجعلها مستقرة ليستطيع البشر أن يعيشوا فوقها
إعجاز الحديث القرآني عن خلق الجبال:
حديث القرآن الكريم عن خلق الجبال كان حديثاً مفصلاً بكونها أوتاداً ورواسي، وأنها ذات ألوان مختلفة متنوعة، وهو ما لم تعرفه البشرية من قبل، ولم يتوصل له العلم الحديث إلا منذ ما لم يزد عن أربعين سنة فقط، يقول الدكتور زغلول النجار في معرض حديثه عن بعض الاكتشافات العلمية المتعلقة بالجبال: هذه المعلومات المكتسبة عن الجبال بدأ الإنسان في جمع أطرافها ببطء شديد منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ولم يتبلور مفهوم صحيح لها إلا في منتصف الستينات من القرن العشرين، عندما كان مفهوم تحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض في مرحلة التبلور النهائي له، وفي المقابل نجد أن القرآن العظيم الذي أوحاه الله تعالى إلى خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم يحوي من حقائق الكون -ومنها حديثه عن الجبال- ما لم يكن متوفراً لأحد في زمان نزوله، ولا لقرون متطاولة من بعد ذلك النزول.
“والجبال أوتاداً”
تشير الآية إلى أن الجبال أوتاد للأرض، والوتد يكون جزء منه ظاهراً على سطح الأرض ومعظمه غائراً فيها، ووظيفته التثبيت لغيره، بينما نرى علماء الجغرافيا والجيولوجيا يعرّفون الجبل بأنه كتلة من الأرض تبرز فوق ما يحيط بها، وهو أعلى من التل. ويقول د. زغلول النجار: إن جميع التعريفات الحالية للجبال تنحصر في الشكل الخارجي لهذه التضاريس، دون الإشارة لامتداداتها تحت السطح، والتي ثبت أخيراً أنها تزيد على الارتفاع الظاهر بعدة مرات. ثم يقول: ولم تكشف هذه الحقيقة إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، عندما تقدم السير جورج آيري بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساساً مناسباً للجبال التي تعلوها، وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبل لا تمثل إلا جزءاً طافياً على بحر من الصخور الكثيفة المرنة، ومن ثم فلا بد أن تكون للجبال جذور ممتدة داخل تلك المنطقة العالية الكاشفة؛ لضمان ثباتها واستقرارها. وهذه الحقيقة العلمية لم تعرف إلا منذ أمد قصير؛ بعدما أمكن تصوير باطن الأرض بالوسائل الحديثة التي لم تكن معروفة قبل القرن العشرين، بل قبل النصف الأخير من هذا القرن، إذا وجد أن الجبل ليس هو الجزء الظاهر منه فوق سطح الأرض فقط، بل إنه مغروس كالوتد في باطن الأرض، وأن الجزء المغروس منه في باطن الأرض هو ما يثبت الجبل مكانه، وهذه الحقيقة لم تكن معروفة للعرب ولا لغيرهم وقت نزول القرآن، حتى يقال إن محمداً صلى الله عليه وسلم اقتبسها من علوم عصره، إنما هي إحدى الإشارات القرآنية الكونية التي وعد الله البشر بأنهم سيعلمونها يوماً من الأيام، ويعلمون أنها حق، ويتبينون أنها وحي من عند الله.
ولقد وصف القرآن الجبال شكلاً ووظيفة، فقال تعالى: {وَالْجِبالَ أَوْتاداً} [سورة النبأ: 7]، وقال تعالى: {وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [سورة لقمان: 10]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُون} [سورة الأنبياء: 31]. والجبال أوتاد بالنسبة إلى سطح الأرض؛ فكما يختفي معظم الوتد في الأرض للتثبيت كذلك يختفي معظم الجبل في الأرض لتثبيت قشرة الأرض. وكما تثبت السفن بمراسيها التي تغوص في ماء سائل، فكذلك تثبت قشرة الأرض بمراسيها الجبلية التي تمتد جذورها في طبقة لزجة نصف سائلة تطفو عليها القشرة الأرضية. وفيما يخص الجبال فثمة حقيقة؛ وهي أنها خُلقت من أجل ترسية الأرض ومنعها من أن تميد بالناس، فهي -بجذور أوتادها المغروسة في باطن الأرض- تحفظ توازن الأرض، وتجعلها مستقرة ليستطيع البشر أن يعيشوا فوقها، وينشطوا نشاطهم، ويبنوا ما يبنون من منازل ومنشآت، ولولاها لظلت الأرض تميد بالناس وترتجّ بهم ذات اليمين وذات الشمال، فتحدث الزلازل بين الحين والحين، وبصدد تلك الرواسي جاء في سورة الرعد: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الرعد: 3].
زوال الجبال وفناؤها:
جاءت الآيات القرآنية الكريمة لتبين أن هذه الجبال يوم القيامة تكون كالصوف المنفوش، وأنها تسيّر، وأنها تُفتّت حتى تكون كالهباء المنبثّ في شعاع الشمس. قال ابن القيم عن الجبال: هذا وإنها لتعلم أن لها موعداً ويوماً تنسف فيها نسفاً، وتصير كالعهن من هوله وعظمته، فهي مشفقة من هول ذلك الموعد منتظرة له، وكانت أم الدرداء رضي الله عنها إذا سافرت فصعدت على جبل تقول لمن معها: أسمعت الجبال ما وعدها ربها؟ فيقال: ما أسمعها؟ فتقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا &<757; فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا &<757; لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [سورة طه: 105-107]. فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطرها وباريها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت ولتصدعت من خشية الله، فيا عجباً من مضغة لحم أقسى من هذه الجبال، تسمع آيات الله تتلى عليها، ويُذكر الرب تبارك وتعالى؛ فلا تلين ولا تخشع ولا تُنيب، فليس بمستنكَر على الله عز وجل ولا يخالف حكمته أن يخلق لها ناراً تذيبها؛ إذ لم تلن بكلامه وذكره وزواجره ومواعظه، فمن لم يلن لله في هذه الدار قلبه، ولم يُنب إليه، ولم يُذبه بحبه والبكاء من خشيته، فليتمتع قليلاً فإن أمامه الملين الأعظم، وسيُرد إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم.