أن معجزات القرآن لا تعد ولا تحصى، فهذا الكتاب الكريم كله من أول حرف فيه إلى آخر حرف معجز في جميع الأحول، ومن خصائصه الإعجاز، فهو المعجزة الكبرى لمحمد صلى الله عليه وسلم، التي لم يتحدَّ العرب بغيرها، برغم ما ظهر على يديه من معجزات.
ونتناول في هذه السلسلة التي تنشرها جريدة الوسط عدد من المعجرات التي ورد ذكرها في  القرآن ومن بينها موضوعات علمية تتعلق بالحقائق الكونية التي لم تكن مدركة للبشر في زمن نزول القرآن ثم أثبتها العلم لاحقا؛ حيث يؤمن المسلمون بأن القرآن معجزة وأنه دليل على نبوة محمد بن عبد الله.
لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة مصطلح المعجزة، إنما ظهر هذا المصطلح في وقت متأخر بعض الشيء عندما دوّنت العلوم ومنها علم العقائد، في أواخر القرن الثاني الهجري وبداية الثالث، لذا نجد أن القرآن الكريم قد استعمل كلمة «الآية» في صدر إعطاء الدلائل للرسل عليهم الصلاة والسلام لمحاجة الأقوام، يقول تعالى:»وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَيُؤْمِنُونَ» (الأنعام، آية: 109)
يقول بعض الباحثين الإسلاميين وعدد من علماء الشريعة المختصين أيضًا بمجالات علمية متنوعة، أن القرآن يشير إلى معلومات علميّة كثيرة في عدد من الآيات،  وأن هذا يُشكل الدليل القاطع على أن مصدره الله العليم والعارف بكل شيء.
الإعجاز مشتق من العجز والضعف أو عدم القدرة والإعجاز مصدره أعجز وهو بمعنى الفوت والسبق، والمعجزة في اصطلاح العلماء أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة وإعجاز القرآن يقصد به إعجاز القرآن الناس أن يأتوا بمثله. أي نسبة العجز إلى الناس بسبب اعتقاد المسلمين بعدم قدرة أي شخص على الإتيان بمثله.
والإعجاز العلمي هو إخبار القرآن أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول محمد مما يظهر صدقه فيما أخبر به عن ربه، وفق اصطلاح الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة. فالإعجاز العلمي للقرآن يُقصد به سبقه بالإشارة إلى عدد من حقائق الكون وظواهرهِ التي لم تتمكن العلوم المكتسبة من الوصولِ إلى فهم شيء منها إلا بعد قرون متطاولة من نزول القرآن بحسب تعريف زغلول النجار.
وعلى الرغم من مرور الكثير من الوقت منذ قديم الزمن إلى الوقت الحاضر، إلا أن أهل اللغة إلى الآن ما زالوا يقرون بقوة الأسلوب القرآني، وذهب الأكثرون من علماء النظر إلى وجوه الإعجاز من جهة البلاغة لكن صعب عليهم تفصيلها وأصغوا فيه إلى حكم الذوق، الإعجاز تقصر الإفهام عن إدراكه وإنما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته، فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه.
ويعتقد أنصار الإعجاز العلمي في القرآن أنً القرآن يشير إلى معلومات علميّة كثيرة وذلك في عدد من الآيات والتي اكتشفت في العصور الحديثة. لاحقًا ونتيجة لذلك ظهر ما يُعرف بالأدب الإعجازي، إذ نشرت العديد من الكتب والمواد التي توضح توافق القرآن مع مقتضيات العلم الحديث أو وجود تلميحات أو تصريحات ضمنية تؤكد حقائق علمية عرفت لاحقاً. 

قال تعالى وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ
إذا شاء الله لجعله أجاجاً مالحاً لا يستساغ أو لا ينشئ حياة 
نزول الغيث من مفاتيح الغيب.. و ينزل الغيث وفق حكمته بالقدر الذي يريده

 
الماء من أعظم مخلوقات الله عز وجل ومن أولها في الوجود، وقد جعله الله أساس الحياة وعنصرها، الذي تقوم عليه وتبدأ منه، قال سبحانه (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30]. وروى أبو حاتم البستي في المسند الصحيح له من حديث أبي هريرة قال قلت يا رسول الله إذا رأيتك طابت نفسي وقرَّت عيني؛ أنبئني عن كل شيء، قال “كل شيء خلق من الماء”. وقال سبحانه (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [النور: 45]. وقد ورد ذكر كلمتي “ماء، والماء” في القرآن الكريم “59” مرة، وورد ذكر الماء في كلمات أخرى “ماءك، ماءها، ماؤكم، ماؤها” 4 مرات، وبذلك يكون الماء ورد ذكره في القرآن الكريم “63” مرة، وبقراءة الآيات القرآنية، التي ورد ذكر الماء فيها يمكن إدراجها تحت المواضيع التالية.
نزول ماء السماء بقدر
قال تعالى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) [المؤمنون: 18]. (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ) بحكمة وتدبير؛ لا أكثر فيغرق ويفسد، ولا أقل فيكون الجدب والمحل، ولا في غير أوانه فيذهب بددا بلا فائدة.
(فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) وما أشبهه، وهو مستكن في الأرض بماء النطفة، وهو مستقر في الرحم. (فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ) كلاهما مستقر هنالك بتدبير الله لتنشأ عنه الحياة، وهذا من تنسيق المشاهد على طريقة القرآن في التصوير.
(وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)؛ فيغور في طبقات الأرض البعيدة بكسر أو شق في الطبقات الصخرية، التي استقر عليها، فحفظته، أو بغير هذا من الأسباب، فالذي أمسكه بقدرته قادر على تبديده وإضاعته، إنما هو فضل الله على الناس ونعمته.
أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون؟
قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) [الواقعة: 68‑70]. وهذا الماء أصل الحياة وعنصرها الذي لا تنشأ إلا به كما قدر الله، فما دور الإنسان؟ دوره أن يشربه، أما الذي أنشأه من عناصره، وأما الذي أنزله من سحائبه؛ فهو الله سبحانه، وهو الذي قدر أن يكون عذبا فكان، ولو شاء الله لجعله أجاجا مالحا لا يستساغ، أو لا ينشئ حياة، فهلا يشكرون فضل الله الذي أجرى مشيئته بما كان؟.
نزول الغيث من مفاتيح الغيب
عن سالم بن عبد الله عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمهن إلا الله (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34])”.
(إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الله) سبحانه وتعالى قد جعل الساعة غيبا لا يعلمها سواه؛ ليبقى الناس على حذر دائم، وتوقّع دائم، ومحاولة دائمة أن يقدموا لها، وهم لا يعلمون متى تأتي، فقد تأتيهم بغتة في أي لحظة، ولا مجال للتأجيل في اتخاذ الزاد وكنز الرصيد.
(وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) والله ينزل الغيث وفق حكمته بالقدر الذي يريده، وقد يعرف الناس بالتجارب والمقاييس قرب نزوله؛ لكنهم لا يقدرون على خلق الأسباب التي تنشئه. والنص يقرر أن الله هو الذي ينزل الغيث؛ لأنه سبحانه هو المنشئ للأسباب الكونية التي تكوّنه وتنظّمه، فاختصاص الله بالغيث، هو اختصاص القدرة كما هو ظاهر من النص، مع علم الله الشامل المحيط بكل شيء، فعلم الله وحده هو العلم الصحيح الكامل الشامل الدائم، الذي لا تلحق به زيادة ولا نقصان.
(وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) اختصاص بالعلم كالاختصاص بأمر الساعة، فهو سبحانه الذي يعلم وحده علمَ يقين ماذا في الأرحام في كل لحظة وفي كل طور، من فيض وغيض، ومن حمل، حتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم، ونوع هذا الحمل ذكر أم أنثى، حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئا في اللحظة الأولى لاتحاد الخلية والبويضة، وملامح الجنين، وخواصه، وحالته واستعداداته، فكل أولئك مما يختص به علم الله تعالى (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذا تَكْسِبُ غَدًا)؛ ماذا تكسب من خير وشر، ومن نفع وضر، ومن يسر وعسر، ومن صحة ومرض، ومن طاعة ومعصية، فالكسب أعمّ من الربح المالي وما في معناه؛ وهو كل ما تصيبه النفس في الغداة، وهو غيب مغلق، عليه الأستار، والنفس الإنسانية تقف أمام سدف الغيب لا تملك أن ترى شيئا مما وراء الستار.
(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان: 34]، فذلك أمر وراء الأستار المسبلة السميكة، التي لا تنفذ منها الأسماع والأبصار. وإن النفس البشرية لتقف أمام هذه الأستار عاجزة خاشعة، تدرك بالمواجهة حقيقة علمها المحدود، وعجزها الواضح، ويتساقط عنها غرور العلم والمعرفة المدَّعاة، وتعرف أمام ستر الغيب المسدل أن الناس لم يؤتوا من العلم إلا قليلا، وأن وراء الستر الكثير مما لم يعلمه الناس، ولو علموا كل شيء آخر، فسيظلون واقفين أمام تلك الأستار، لا يدرون ماذا يكون غدا؛ بل ماذا يكون اللحظة التالية، وعندئذ تطامن النفس البشرية من كبريائها وتخشع لله.
والسياق القرآني يعرض هذه المؤثرات العميقة التأثير في القلب البشري في رقعة فسيحة هائلة، رقعة فسيحة في الزمان والمكان، وفي الحاضر الواقع، والمستقبل المنظور، والغيب السحيق، وفي خواطر النفس، ووثبات الخيال، ما بين الساعة بعيدة المدى، والغيث بعيد المصدر، وما في الأرحام الخافي عن العيان، والكسب في الغد، وهو قريب في الزمان ومغيّب في المجهول، وموضع الموت والدفن.  (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيْرٌ)، وليس غيره بالعليم ولا بالخبير.
المطر مصدر جميع مياه الأرض
قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [الزمر: 21].
ماء المطر يتوقف عليه كيان الزراعة
قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 99].
دورة المياه في الأرض ثابتة
قال تعالى (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد: 17].
شبّه تعالى الهدى الذي أنزله على رسوله لحياة القلوب والأرواح بالماء، الذي أنزله لحياة الأشباح، وشبّه ما في الهدى من النفع العام الكثير، الذي يضطر إليه العباد، بما في المطر من النفع العام الضروري، وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها بالأودية، التي تسيل فيها السيول؛ فواد كبير يسع ماء كثيرا، كقلب كبير يسع علما كثيرا، وواد صغير يأخذ ماء قليلا كقلب صغير يسع علما قليلا، وهكذا.
وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات عند وصول الحق إليها بالزبد، الذي يعلو الماء، ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية، التي يراد تخليصها وسبكها، وأنها ما تزال فوق الماء طافية مكدِّرة له حتى تذهب وتضمحل، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي، والحلية الخالصة، كذلك الشبهات والشهوات؛ ما يزال القلب يكرهها ويجاهدها بالبراهين الصادقة، والإرادات الجازمة، حتى تذهب وتضمحل ويبقى القلب خالصا صافيا ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق وإيثاره، والرغبة فيه، فالباطل يذهب ويمحقه الحق (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81].وقال هنا (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد: 17]. ففي الآية السابقة مثل الحق والباطل في هذا الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابيا طافيا؛ ولكنه بعد زبد أو خبث ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة له ولا تماسك فيه، والحق يظل هادئا ساكنا، وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات؛ ولكنه هو الباقي في الأرض، كالماء المحيي والمعدن الصريح ينفع الناس؛ (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ). وكذلك يقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات، ومصائر الأعمال والأقوال، وهو الله الواحد القهار، المدبّر للكون والحياة، العليم بالظاهر والباطن، والحق والباطل والباقي والزائل.
هذا كما أن في الآية حقيقة علمية تقول إن دورة المياه الأرضية ثابتة ما دامت قد وجدت الحياة، وإنه لا سبيل إلى زيادة الماء قطرة، ولا أن تنقص منه قطرة، فالماء يتبخر من الزرع والنبات، وما تستهلكه كل الأحياء من ماء إنما يعود إلى الأرض ثانية كاملا غير منقوص في مخلفاتها، أو في بقايا أجسامها، وإن جبال الجليد والثلوج عندما تسيل، فإنها لا تضيف جديدا على الماء؛ لأنها أصلا من ماء الأرض، وهذه الدورة المائية الثابتة والمقدرة قد سبقت بها وإليها آيات القرآن الكريم.
ومن رحمته سبحانه وتعالى أن جعل الماء على كيفية وهيئة تمكن من الانتفاع به على الوجه الأكمل، فينزل المطر من السماء، فيغسل به الأرض ويطهرها، وينقي الهواء من الدخان والغبار والتلوث، فتتجدد الأرض، وتصفو السماء، ويطيب الهواء، قال ابن القيم رحمه الله ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو؛ ليعمّ بسقيه وهادها وتلولها وظرابها وآكامها ومنخفضها ومرتفعها، ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر، وفي ذلك فساد، فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها، فينشئ سبحانه السحاب وهي روايا الأرض، ثم يرسل الرياح فتحمل الماء من البحر وتلقحها به كما يلقح الفحل الأنثى. ومن حكمته سبحانه في خلق الماء أن منه ما يجري على وجه الأرض كالأنهار، ومنه ما هو مستقر فوق ظهرها كالبحار، ومنه ما يستقر في باطن الأرض كمياه الآبار، ومن رحمته سبحانه أن جعل فيه العذب والمالح الأجاج، وجعل العذب -وهو مياه الأنهار- يجري حتى لا يتعفن كذلك، ولا يتعفن ما يموت فيه من الحيوانات البرية، وجعل الماء المخزن في الأرض قريبا يمكن تناوله والوصول إليه، كما قال سبحانه (وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) [المؤمنون: 18].
قال القرطبي يعني الماء المختزن، وهذا تهديد ووعيد؛ أي في قدرتنا إذهابه وتغويره، ويهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم، وهذا كقوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) [الملك: 30] أي: غائرا، (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) [الملك: 30]. والآيات القرآنية كثيرة في بيان الحديث عن الماء وأهميته ومواضيعه، فكم هو ثمين هذا الماء؟ وكم من نعم لا نشعر بأهميتها إلا بعد ضياعها؟ وصدق رب العزة حيث قال (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30]. ولولا الله ثم الماء الذي خلقه سبحانه وتعالى ما كان الإنبات ولا النبات ولا الحياة.
إن الإعجاز العلمي هو لون من ألوان الإعجاز العديدة لكتاب الله وسنة نبيه-صلى الله عليه وسلم- لقد قدّم القرآن والسنة قطوفاً من الإعجاز العلمي، بقيتْ خافية على البشرية قرونا عديدة حتى جاء عصر الاكتشافات العلمية معلنا هذه الحقائق، ومعبّرا عن دهشة العلماء لهذا السبق الذي جاء به الوحي على محمد-صلى الله عليه وسلم- .
 وقد كانت آيات الإعجاز العلمي في الماء شاهدة على تكريم الإسلام للعقل؛ ولذلك نجد كثيرا من علماء الغرب قد اهتدوا إلى الإسلام من خلال التطابق بين ما ورد في القرآن والسنة، وما وصلوا إليه من اكتشافات علمية، وهذه نماذج لما تحقق من معجزات علمية متعلقة بالماء.
الماء أصل كل الأحياء:
يقول تعالى في محكم التنزيل: &o4831; وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ &o4830; الأنبياء: 30 ، لقد ورد ذكر الماء في القرآن في عشرات المواضع، ولا نبالغ إذا قلنا إنه في كل آية من هذه الآيات معجزة تستحق الوقوف طويلاً !
الحياة على وجه الأرض، حياة الإنسان، وحياة الحيوان، وحياة النبات، قِوامها الماء، فالماء هو الوسيط الوحيد الذي يحمل الأملاح والمواد الغذائية منحلةً فيه إلى الكائن الحي؛ ولولا الماء لما استطاعت الكائنات الحية البقاء على وجه الأرض .تخزين المياه في باطن الأرض: لقد تحدث القرآن عن الخزّانات المائية الضخمة تحت سطح الأرض والتي تزيد كميتها عن المياه العذبة في الأنهار، وذلك من خلال قوله تعالى: “وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ” الحِجر: 22.
فهذه الآية تتضمن إشارة إلى عمليات تخزين المياه في الأرض، وأن هذه الخزانات الطبيعية من المياه هي نعمة من نعم الله حيث تتم تنقية الماء فيها باستمرار، وهذا الأمر لم يكن معلوماً زمن نزول القرآن.
ماء بقدر (دورة الماء(
لقد تحدث القرآن عن المدَّة الزمنية الكبيرة التي يمكث فيها الماء في الأرض دون أن يفسد أو يختلط ويتفاعل مع صخور الأرض، وذلك في قوله تعالى: “وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ” المؤمنون: 18. ففي هذه الآية إشارة إلى أن الماء يسكن في الأرض ويقيم فترة طويلة من الزمن.
وعلى الرغم من وجود الأحياء الدقيقة والفطريات والأملاح والمعادن والمواد الملوثة تحت سطح الأرض، إلا أن الماء يبقى نقياً وماكثاً لا يذهب، أليس الله تبارك وتعالى هو من أودع القوانين اللازمة لبقاء الماء بهذا الشكل الصالح للحياة؟
 لقد تبين بجلاء أن الشريعة الإسلامية سبقت القوانين الوضعية في الإشارة إلى أهمية الحفاظ على الماء، فمقاصد الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وإن الحفاظ على الماء هو حفظ للكليات الخمس في الشريعة الإسلامية (الدين والنفس والمال والعقل والنسل).
إن الماء من أهم الوسائل للحافظ على النفس الإنسانية من الجوانب المادية والمعنوية، ومن أجل تحقيق ذلك نهى الإسلام عن منع الماء عن المحتاجين إليه، وشرع قتال مانعي الماء، وتغريمهم الدّية إذا أدّى المنع إلى الإهلاك، كما شرع بعض الآداب لتربية النفس على مكارم الأخلاق، كعدم الإسراف في الماء وعدم تلويثه، والتزام آداب الشرب.
علاقة الماء بلون الصخور:   لقد اتضح من خلال الأبحاث العلمية أن الماء هو العامل الحاسم في تلوين الجبال التي تأخذ ألوانها من ألوان معادنها التي تشترك في بنيتها، والمعادن تتلون بقدر أكسدتها، حيث إن الماء له علاقة بهذه الأكسدة، لذلك تجد أن أحد عوامل تلوينها، واختلاف ألوانها، من جبال كالغرابيب السود، وجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها يعود على الماء.
 وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة العلمية، وذلك في قوله تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ،،وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ”. سورة فاطر، الآيات: 27_28 .
علاقة الماء بالشفرات الجينية “الوراثية”:
لقد تجلّى من خلال الأبحاث العلمية أن المادة الكيميائية الأساسية للأحياء هي جزيئات(d.n.a)، فهذه المادة تكون على شكل قالب متجرد متصلب، ولا تستطيع أن تنمو وتتحرك بدون الماء، فإذا وجد الماء، أعطى الماء ذرات الهيدروجين، فتبدأ الشفرة الحية بالحركة، كما أن الماء يقوم بإعادة الفاعلية إلى الشفرات الجينية “الوراثية” الموجودة في التربة، وهذه الحقيقة العلمية أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: “وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ”. سورة الزخرف، الآية: 11.