بعتبر جامع آيا صوفيا في مدينة”إسطنبول”، أحد أبرز المعالم التاريخية والدينية في العالم، حيث يجمع بين تاريخ طويل وحافل من التحولات بين كنيسة بيزنطية، ومسجد عثماني، ومتحف عالمي.
بُني في القرن السادس الميلادي على يد الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول كأعظم كنيسة في الإمبراطورية، ثم تحول إلى مسجد بعد فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح في 1453، ليصبح واحدا من أشهر المعالم الإسلامية.
يتميز المبنى بمعماره الفريد، مع قبة ضخمة وأعمدة رخامية، بالإضافة إلى فسيفساء بيزنطية وزخارف إسلامية، مما يجعله نقطة التقاء بين الثقافات المختلفة. يستقطب الزوار من جميع أنحاء العالم الذين يمكنهم زيارة الجامع لأغراض دينية أو سياحية، حيث يتيح لهم التمتع بجمال تصميمه التاريخي والتأمل في الجو الروحي الذي يميزه.
وجامع “آيا صوفيا”، أحد أهم المعالم الأثرية في مدينة إسطنبول التركية، يجمع بين العمارة البيزنطية والعثمانية والزخارف المسيحية والإسلامية، ويعد أول كنيسة بُنيت بقباب في تاريخ المسيحية.
موقع تراثي
أدرجته منظمة اليونيسكو عام 1985 ضمن قائمتها لمواقع التراث العالمية، ووُصف بالأعجوبة الثامنة في العالم بقبته المميزة التي بلغ قطرها 31 مترا.
ويعد مسجد بايزيد الثاني، أول أثر عثماني يمكن رصد تأثير كنيسة آيا صوفيا في تصميمه، على الرغم من أن قبته أصغر بكثير من قبة آيا صوفيا، إذ لا يتعدى قطرها 18 متراً. ويوجد جامع آخر اسمه “آيا صوفيا الصغير” تحول أيضاً إلى مسجد في زمن الفاتح.
موقع والاسم
يقع الجامع في القسم الأوروبي من مدينة إسطنبول، في منطقة السلطان أحمد، على مقربة من سوق بيازيد المعروف أيضا باسم “غراند بازار” وحديقة غولهانة الشهيرة ومنطقة “إمينونو” السياحية.
ويطل على ميناء القرن الذهبي ومدخل البوسفور، وإلى جانبه يقع قصر “طوبقاي سراي”، وإلى الجنوب منه يوجد مسجد السلطان أحمد، المعروف بـ”الجامع الأزرق”، وبالقرب منه مسجد سليمانية ومسجد شاه زاده محمد والأسوار التاريخية.
ويقع مبنى آيا صوفيا على التل الأول من التلال السبعة التي بنيت عليها القسطنطينية (إسطنبول) وتقع كلها ضمن السور القديم للمدينة التي كانت تسمى “التيجان السبعة”، ويرفع كل من هذه التلال معلما مشهورا.
في بداية إنشائه كان آيا صوفيا كنيسة تسمى “ميغالي إغليسيا”، وتعني “الكنيسة الكبيرة”، وذلك لكبر حجمها مقارنة بالكنائس المعاصرة لها في المدينة، وذُكر أيضا أنه كان يطلق عليها “صوفا” حوالي عام 400م.
ومنذ القرن الخامس الميلادي سُمّيت “هاغيا صوفيا”، وهو اسم يونانية يعني “الحكمة المقدسة” أو “كاتدرائية حكمة الله” أو “الكنيسة العظمى”.
منذ منتصف القرن الـ14م، سُمّيت باسمها الذي تشتهر به “جامع آيا صوفيا” بعد أن حُوّلت إلى مسجد سماه العثمانيون “آيا صوفيا كبير جامع شريف”، أي الجامع الكبير الشريف لآيا صوفيا.
في زمن السلطان أحمد الثالث شُيّدت 6 لوحات مستديرة كتب عليها اسم الجلالة واسم النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين.
التصميم المعماري
بُني الجامع من الحجر مع تطعيمات مفصلية من الطوب والبلاط المكون من خليط من الرمل والخزف، وجاء تصميم الجدران بألواح من الرخام بأنواع وألوان متعددة، وزُيّنت السقوف بمناظر من الفسيفساء.
طول المبنى الرئيسي 269 قدماً، وعرضه 243 قدماً، وتنتصب في وسطه قبة يبلغ محيطها نحو 31 مترا، وترتفع عن الأرض قرابة 56 مترا، وتحيط بها أربعون نافذة، وحولها سبع قباب صغيرة، وهي نصف قبة منحنية الشكل، تستند بدورها على عقود ودعامات سفلية، ومغطاة من الداخل بطبقة من الرصاص لحمايتها من العوامل الجوية.
وقد ظهرت في الجامع نقاط ضعف هندسية وبنائية ومعمارية لا تتفق مع موقعه الجغرافي عند شبه جزيرة وجهتها نحو الشرق، إذ شكل وضع القبة في العصر البيزنطي على الجدران مباشرة، ضغطا كبيرا على بقية المبنى.
وفي سبيل تجاوز ذلك، شيّد سنان آغا -أشهر مهندس عثماني- الذي عاصر أربعة سلاطين، ست دعامات حجرية للقبة من الخارج ومآذن صلبة في الجناح الغربي لتخفيف ذلك الضغط وتقوية المبنى.
ووفقاً لكثير من الخبراء، فإن ترميمات سنان في القرن الـ16، هي التي ساعدت على صمود القبة حتى الآن، وقيل إنه عندما علق آية النور فيها قال عبارته المشهورة “علقت آية النور في القبة، لتظل مرفوعة ما دامت الآية في قلبها إلى يوم القيامة”.
أما المحراب فهو مستطيل الشكل، وينتهي بزخارف تشبه التاج بلونها العاجي والأخضر، الذي يتوافق مع جدرانه الخلفية، وتستند إلى جانبيه أعمدة رخامية، وقد رُفع فوق المنبر سنجق السلطان محمد الفاتح.
أبواب الجامع
أبواب الجامع من نحاس أصفر منقوش، وفي داخله 170 عموداً من الحجر السماقي والرخام، وبابه الكبير يقع في جهة الغرب، ولا يؤدي مباشرة إلى صحن الجامع الداخلي، بل من خلال ساحة مستطيلة تؤدي إلى سلم حلزوني يرتفع بطريقة تدريجية. وقد اتبع العثمانيون هذا النمط من البناء في معظم الجوامع التي أنشئت بعد فتح إسطنبول.
تاريخ متغير
شُيّدت كنيسة آيا صوفيا ثلاث مرات خلال فترة الاضطرابات التي شهدتها الدولة البيزنطية، كانت المرة الأولى في عهد الإمبراطور قسطنطنيوس عام 360م، وكانت حينئذ بناء بسيطا مغطى بسقف خشبي، وقد احترق هذا البناء خلال ثورة اندلعت عام 404 م.
ثم في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني، أعيد البناء من جديد عام 415 م، واحتوى على خمسة بلاطات ومدخل ضخم، وشُيّدت جدرانه من الحجر وسقفه من الخشب، لكنه احترق أيضا وخُرّب عقب “ثورات نيفا”.
هيّأ تدمير الكنيستين للإمبراطور “جوستنيان” الأول، المعروف بميوله المعمارية، الفرصة لتصميم كنيسة بديلة بأبعاد ضخمة بين عامي 532م و537م، وهو الشكل الذي بقيت عليه.
وقدم المعماريون في هذا البناء الثالث منظورا جديدا مختلفا عن البناءين السابقين، وذلك من خلال سقف مقاوم للحريق، بقبة شاهقة من الآجر الخفيف، تستند على أربع دعائم بينها عقود، ويحيط بأسفلها أربعون نافذة يتخللها النور، كما أبدعوا في تنميقها وتزيينها ورصعوا جدرانها بالرخام، وسقوفها بالفسيفساء والذهب.
وفي زلزال عام 558م سقط جانب من القبة، فجُدد بناؤها عام 563م، ورُفع بنحو 20 قدما.
وكانت أكثر ترميمات آيا صوفيا في العهد البيزنطي في القرن 14م، إذ بنيت حولها جدران وأجنحة جديدة لتوطيد الكنيسة وملحقاتها التي كانت تغطي مساحة 7500 متر مربع.
خلال الحملة الصليبية الرابعة عام 1204م، بقيادة الدوق إنريكوس دندالو (المدفون في الطابق الثاني من آيا صوفيا)، حُوّلت إلى كاتدرائية ملحقة بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية فترة وجيزة.
لكنها عادت إلى كاتدرائية أرثوذكسية شرقية عند استرداد الإمبراطورية البيزنطية لأراضيها عام 1261م، وظلت تمثل الكنسية الرسمية للدولة، وأهم مكان يتوج فيه ملوكها على مدى 900 عام.
مسجد الفاتح
فتحت القسطنطينية يوم 29 مايو عام 1453م على يد السلطان السابع محمد الثاني “الفاتح”، ووقع الاختيار على آيا صوفيا لتكون جامع العاصمة الرئيسي، وعلامة الفتح الذي رسم تاريخاً جديداً لها.
أُذّن أول أذان بعد الفتح فيها، وأقام الفاتح أول صلاة جمعة داخلها يوم 1 يونيو من العام نفسه، وتلا الخطبة وأمّ الصلاة حينها آق شمس الدين، شيخ الفاتح.
وقيل إن السلطان الفاتح اشترى كنيسة آيا صوفيا من الروم بماله الخاص، وجعلها وقفا للمسلمين. وقيل إن الجيش العثماني وجدها مهجورة، وعندما لم يجد مكانا يؤدي فيه جنوده الكثيرون الصلاة، استفتى العلماء في إمكانية الصلاة فيها فأفتوا بجواز تنظيف المبنى وتجهيزه وتحويله إلى مسجد.
وفور تحويلها، نُقشت بها نقوش جديدة، واستُبدل بالصليب هلال على ذروة القبة، وبُنيت دعائم لتقوية الحائط الجنوبي الشرقي من المسجد. وبنيت مئذنة خشبية صغيرة فوق القبة الغربية، ووُضع منبر خشبي للصلاة بصحن المبنى.
ومع مرور الوقت، شيد السلطان الفاتح المئذنة المرمرية الأولى الواقعة على يمين المبنى، وفي شماله بنى مدرسة على شكل الحرف “يو” اللاتيني بها 46 غرفة، وقد خرجت هذه المدرسة من الخدمة، بعد بناء كلية السلطان محمد الفاتح في المنطقة المسماة اليوم “فاتح”.
منذ ذلك الوقت أصبح آيا صوفيا جامعاً، وبقي كذلك مدة 481 عاماً، وكان له أثر كبير في تصميم المساجد العثمانية.
تحويله إلى متحف
بعد قيام الجمهورية التركية، أٌغلق جامع آيا صوفيا أمام المصلين أربع سنوات، ونشرت جريدة الفتح المصرية آنذاك، أن جمهوراً كبيراً من المصلين أقبلوا يوم أول رمضان عام 1931م على آيا صوفيا لأداء الصلاة فيه، فوجدوا على بابه يافطة كبيرة، كتب عليها “مغلق للتصليح”.
وكان ذلك، إثر قرار صدر من الحكومة، يقضي بوقف الصلاة بآيا صوفيا، ونزع منبره وسجاجيده، ولوحاته الست المخطوطة بالعربية.
كما تم هدم مدرسة آيا صوفيا، وهي المدرسة التي بناها السلطان محمد الفاتح بجانب المسجد، وكانت تعد أول جامعة عثمانية، وتم تدمير المئذنة الصغيرة التي بنيت في عهد السلطان بايزيد الثاني، حينها نشر المؤرخ إبراهيم حقي قونيالي، تقريرا ذكر فيه أن هذه المآذن تعد الداعم لقبة المسجد، وإذا تم تدميرها فإن آيا صوفيا سينهار أيضا، وعندها توقف التدمير.
ثم حول الجامع في فبراير 1935 إلى متحف سياحي، واعتبر بعض الباحثين أن الغرض من القرار كان هو جعل المكان مجرد “ذاكرة تاريخية”، أي لا مسجداً ولا كنيسة.
وتذهب بعض الروايات إلى أن توقيع كمال أتاتورك تعرّض للتزوير لاحقا، لمنح الشرعية لقرار تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف.
انتصار المسجد
في 24 يونيو 2005، رفعت جمعية خدمة الأوقاف والآثار التاريخية والبيئة، أول قضية إلى المحكمة الإدارية العليا، مطالبة بإلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر عام 1934م، والقاضي بتحويل “آيا صوفيا” من مسجد إلى متحف.
وفي عام 2013، نشرت مجلة أكاديمية تركية بحثاً للمؤرخ التركي يوسف هالاجوغلو وباحثين آخرين، قالوا فيه إن تحويل آيا صوفيا إلى متحف تم بطريقة “غير شرعية”، عبر تزوير توقيع أتاتورك على القرار المتعلق بالموضوع.
وفي مايو 2014، نظمت جمعية تسمى “شباب الأناضول” فعالية لصلاة الفجر في ساحة المسجد، وجمعت 25 مليون توقيع، وذلك في إطار حملة داعية إلى إعادة متحف آيا صوفيا إلى مسجد كما كان.
ومع توالي المطالب بإعادة آيا صوفيا مسجداً؛ سمحت حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان، بفتح الجزء الخلفي من المبنى للصلاة، ورفع الأذان من مبنى في ساحته.
وفي يونيو 2016، أصدرت رئاسة الشؤون الدينية التركية، قراراً بتلاوة القرآن يومياً في آيا صوفيا خلال شهر رمضان، وأطلقت من داخله برنامجا دينياً خاصاً بليلة القدر، ورفع المؤذن التركي “فاتح قوجا” الأذان من نفس الموقع الذي رفع منه آخر آذان قبل تحويله إلى متحف.
ولجأت منظمات إلى القضاء مرات عديدة للمطالبة بإعادة المسجد، حتى صدر قرار في 10 يوليو 2020 وافقت بموجبه المحكمة الإدارية العليا التركية على عودة آيا صوفيا إلى وظيفته الدينية المعلقة منذ 86 عاماً.
وكان ذلك بالاستناد إلى ما جاء في سند الوقف (الوقفية)، الذي حول آيا صوفيا إلى مسجد، وتم تسجيله باسم السلطان محمد الفاتح، والوقف الذي أسسه عام 1453.
وعقب رفع وضعية المتحف عن آيا صوفيا، وقع أردوغان قراراً بنقل تبعيته من وزارة الثقافة والسياحة إلى رئاسة الشؤون الدينية وتحويله إلى مكان للعبادة، وأقيمت أول صلاة جمعة به في 24 يوليو 2020.