تجسد القيادة الحقيقية في عالم التعليم ليس فقط من خلال إدارة المؤسسات التعليمية بكفاءة، بل في القدرة على خلق بيئة تحتضن الإبداع وتنمي الأفراد وتحقق فيهم أحلامهم، في واحدة من أكبر المؤسسات التعليمية الآسيوية، التي تحتضن أكثر من 3500 طالب، يتميز مدير فذ بكونه قدوة في القيادة الإنسانية والرؤية الثاقبة، حيث يكرس نفسه لخدمة المؤسسة بوقت يمتد من صلاة الفجر وحتى ساعات الليل المتأخرة، لا يقتصر دوره على الإدارة الروتينية؛ بل يضع نصب عينيه هدفًا أسمى، وهو بناء جيل جديد من القادة، وإرساء بيئة تعليمية شاملة يتجسد فيها الالتزام بالتطوير المستمر.
يدرك المدير في هذه المؤسسة التعليمية، أن السائقين الذين يشرفون على نقل أكثر من 27 حافلة تقل الطلاب من وإلى المؤسسة، ويقضون ساعات من الانتظار خلال اليوم الدراسي يملكون طاقات غير مستثمرة، ومن هنا، بزغت في ذهنه فكرة إبداعية غير مسبوقة؛ إذ قرر تحويل أوقات الفراغ هذه إلى فرص تعليمية، عقد اجتماعًا مع السائقين وتبادل معهم الأحاديث حول طموحاتهم وأحلامهم، ليكتشف أن الكثير منهم يحملون آمالًا وطموحات مؤجلة، وأن بعضهم يرغب في مواصلة دراسته، وبدلًا من أن يكتفي بملاحظته هذه، بادر إلى اتخاذ قرار غير تقليدي، ودعا السائقين للانضمام إلى صفوف المؤسسة كطلاب، بجانب عملهم كسائقين، ليتيح لهم فرصة تطوير ذاتهم ومعرفتهم.
لم يكن هدف المدير فقط شغل فراغ السائقين، بل كان يتطلع إلى غرس قيمة أكبر فيهم، وهي القيمة الذاتية والثقة بالنفس، لقد رأى فيهم طاقة كامنة تستحق الرعاية والدعم، فبادر ليس فقط بتوفير الفرص الأكاديمية، بل أيضًا بالدعم النفسي والإرشاد المستمر، كان يتابع تقدمهم ويحفزهم على تجاوز الصعاب، ويشجعهم على الإيمان بأنفسهم وبقدراتهم على تحقيق ما يصبون إليه، وبدوره، جعلهم يشعرون بأنهم جزء لا يتجزأ من نسيج المؤسسة، ومشاركون في رسالتها النبيلة.
بدلًا من أن يكون هذا الدعم مجرد كلمات، بل انعكس على أرض الواقع؛ فقد استطاع بعض السائقين بفضل هذا البرنامج متابعة دراستهم الجامعية، ومنهم من أكمل رحلته التعليمية حتى درجة الماجستير، ليصبحوا نموذجًا حيًا على أن القيادة التحفيزية يمكنها أن تصنع تغييرًا جوهريًا في حياة الأفراد، هذا الإنجاز لم يكن حكرًا على السائقين فحسب، بل أضحى مصدر إلهام لبقية العاملين في المؤسسة، مما يعكس فلسفة المدير في قيادة مؤسسة لا تهتم بتطوير الجانب الأكاديمي فقط، بل تطمح لتطوير المجتمع بأسره عبر تمكين الأفراد وبناء طاقاتهم.
لا ينحصر دور القائد الحقيقي في قرارات تنظيمية يومية، بل يتجاوز ذلك إلى بناء الفرد وتطوير إمكانياته، نجح هذا المدير في تحويل السائقين من عمال يقومون بمهمات روتينية إلى أفراد يحملون آمالًا وطموحات ويعملون بجد لتحقيقها، لقد أراد أن يرسخ فيهم قيمًا إنسانية وأخلاقية تعزز من انتمائهم للمؤسسة، مما جعلهم يرونه ليس فقط كقائد، بل كنموذج للقدوة الحسنة، ومن خلال هذا النموذج الفريد، استطاع أن يخلق مؤسسة يتجاوز تأثيرها حدود التعليم الأكاديمي، لتصبح منارة للتنمية البشرية وإلهامًا للعديد من المؤسسات الأخرى.
في النهاية، هذه القصة ليست مجرد قصة نجاح لمؤسسة أو أفراد، بل هي رسالة ملهمة حول قوة القيادة الإنسانية وقدرتها على تغيير حياة الآخرين، إنها تذكرنا بأن القيادة الحقيقية تكمن في منح الآخرين الثقة لتحقيق أحلامهم، وفي إضاءة الطريق لكل من يملك طموحًا لمستقبل أفضل. وكما قال عباس العقاد: “لا يكفي أن تكون في النور لترى، بل ينبغي أن يكون في النور ما تراه.”