في عصر تتسارع فيه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، تبرز المؤسسات الخيرية كمنارات مضيئة، تقود عجلة التنمية البشرية وتصنع نهضة حقيقية ومستدامة للمجتمعات، لم تعد هذه المؤسسات تقتصر على مدّ يد العون المادي للمحتاجين، بل تخطت ذلك لتصبح مصانع لإعداد أجيال قادرة على مواجهة الحياة بكرامة واستقلالية، مما يعزز من مكانتها كقوى محركة للتغيير الإيجابي.
وفي هذا الإطار، تأتي قصة محمد، الفني الإريتري، كنموذج حي على دور هذه المؤسسات في تمكين الإنسان وإطلاق قدراته الكامنة، محمد، الذي نشأ في بيئة صعبة، كان محروماً من أبسط مقومات التعليم والعمل الكريم، لكن حين التحق بأحد المجمعات التنموية التابعة لمؤسسة خيرية في إفريقيا، بدأ يرى النور في نهاية النفق؛ فقد تلقى تدريبًا مهنيًا على تقنيات التبريد والتكييف على مدار عامين، مكّنه من اكتساب مهارة تُحاكي الواقع العملي، وفتحت له باب العمل بكرامة في دولة قطر.
كان لقاء محمد مع أحد القطريين، بينما يصلح مكيف الهواء في منزله، لقاءً عاديًا في ظاهره، لكنه كان بمثابة شاهد حي على الأثر العميق للمؤسسات الخيرية، حين سأله القطري عن مصدر تعلمه لهذه الحرفة، أجاب محمد بكل اعتزاز أنه تخرج من مجمع تنموي خيري، ليفاجأ القطري أن صديقًا له من الكويت هو من يرأس تلك المؤسسة، ما أبرز الروابط العميقة التي تنسجها المشاريع الخيرية بين الناس، رغم اختلاف الجنسيات والثقافات، في تعزيز التكامل والتضامن الاجتماعي.
في هذه القصة البسيطة معانٍ أعمق تتجاوز الفرد، فهي ترسخ مبدأ “تمكين الإنسان” من خلال التعليم والتدريب، كوسيلة فاعلة نحو بناء حياة مستقرة ومستقلة، وكما قال كونفوشيوس: “علّمني كيف أصطاد بدلاً من أن تعطيني سمكة”، فالتدريب الذي حصل عليه محمد ليس مجرد مهارة عابرة لكسب الرزق، بل هو أداة تُمكّنه من بناء حياة جديدة ومستقبل مشرق له ولأسرته، مما يعكس التزام المؤسسات الخيرية بالاستدامة وإحداث الأثر الإيجابي الدائم في حياة الأفراد.
وكما يقال: بأن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي صنعه، وهذا ما تفعله المؤسسات الخيرية الرائدة؛ فهي لا تنحصر في توزيع المعونات، بل تعمل على صناعة المستقبل من خلال تأهيل الأفراد وإكسابهم مهارات تمكنهم من العيش بكرامة والمساهمة في مجتمعاتهم، تلك الاستثمارات الإنسانية بعيدة المدى تُسهم في بناء مجتمع أكثر تماسكاً، حيث يصبح كل فرد جزءًا من التغيير البنّاء، فالناس معادن، فإن هذه المؤسسات هي من تبحث في تلك المعادن، لتستخرج منها قدرات الأفراد وتحويلها إلى طاقة محركة للمجتمع بأكمله.
وفي أبعاد القصة، يظهر جانب آخر، وهو التلاحم الإنساني الذي تحققه المؤسسات الخيرية، فلقاء محمد بصاحب المنزل القطري يعكس كيف يمكن لهذه المؤسسات أن تبني جسورًا من التفاهم والتعاون بين الناس حيث تذوب الفوارق وتلتقي القلوب على قيم الإنسانية المشتركة، وتجاوز الاختلافات الثقافية والحدودية، فالإنسان لا تقوم حياته إلا بالعمران، والعمران لا يحصل إلا بالتعاون، كما أن التنمية هي عملية توسيع حريات الإنسان، وهذا ما حققته المؤسسة الخيرية لمحمد، الذي استطاع بفضل ما تلقاه من تعليم وتدريب، أن ينعم بحياة كريمة مستقلة، وأن يملك حرية اتخاذ قراراته بنفسه.
وختامًا يبقى الدرس الأعظم: المؤسسات الخيرية ليست مجرد كيانات لإغاثة المحتاجين، بل هي منصات لبناء قدرات الأفراد وتحقيق النهضة، نهضة لا تأتي من منح عابرة، بل من استثمار مستدام في الإنسان، الذي هو أساس النهضة الحقيقية، قصة محمد ما هي إلا ومضة من قصص كثيرة، تتكرر كل يوم، تبرهن على أهمية التعليم والتمكين، وتؤكد أن النهضة تبدأ عندما نبني الإنسان، مصداقًا لقول الزيات: " الأمم العظيمة تبني عظمتها على قوة أفرادها، ومجدها على ثقة أبنائها". فالمؤسسات الخيرية الرائدة هي الأيدي التي تعيد الحقوق وتفتح أبواب المستقبل، لتقودنا نحو مجتمعات تنعم بالاستقرار والتنمية، وتظل قاطرة تقود أجيالنا نحو غدٍ أفضل، مكلل بالنجاح والاستدامة.