يذخر التاريخ الإسلامي بشخصيات مؤثرة، بداية من خير البشرية محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، مروراً بالصحابة الأخيار أبو بوبكر الصديق وعمر بن الخطات وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، وصحابة روسل الله الأخيار، مروراً بالسلف الصالح عمر بن العزيز والائمة الأربعة أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن محمد بن حنبل، ولم يخل العصر الحديث من هؤلاء المؤثرين ومنهم على سبيل المثال عبد الرحمن السميط ومحمد متولي الشعراوي وغيرهم ...

- شخص أمراض المجتمع ووضع منهاج للتربية والتعليم وبناء العقيدة الإسلامية ومحاربة التيارات الفكرية المنحرفة
- دخل لسنوات في عزلة وتأمل ومحاسبة للنفس 
- أعجب الخلق بحسن كلامه وفصيح لسانه ودقيق نكاته ولطيف إشاراته
- التأملات التي صاغها الغزالي في المنقذ من الضلال أسست لمرحلة جديدة في مسار الفكر

 
 
أبو حامد الغزالي عالم مسلم صوفي شافعي، يعد جهبذا من جهابذة علماء المسلمين، ولد عام 450 هجرية في خراسان، وعاصر السلاجقة والحروب الصليبية، بدأ طلب العلم في سن صغيرة، وسرعان ما تبحر في علوم ومجالات كثيرة، وكان له منهج إصلاحي متفرد من خلال تشخيصه لأمراض المجتمع ووضع منهاج للتربية والتعليم وبناء العقيدة الإسلامية ومحاربة التيارات الفكرية المنحرفة، وإصلاح الفكر فلقب بـ»حجة الإسلام».
المولد والنشأة
ولد أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي عام 450 هجرية في طوس، وهي ثاني كبرى مدن خراسان حينذاك بعد نيسابور، وكانت عامرة صاخبة بالنقاشات الدينية لكثرة المسلمين والمسيحيين فيها، وتعدد المذاهب بين ساكنيها، وقد بقيت على حالها حتى هدمها المغول فلم ترجع من يومها إلى ما كانت عليه، ولم يبق منها إلا أطلال وآثار على مسافة 24 كيلومترا من مدينة مشهد الحالية في شرق إيران.
وللقبه الغزالي في روايات كتاب ترجمته تفسيران، أحدهما أنه بتحفيف الزاي نسبة إلى قرية غزالة، وهو قول يرويه عنه غير واحد، والثاني بتشديد الزاي نسبة إلى عمل والده في غزل الصوف.
كان والده متنسكا يأكل من عمل يده متجنبا مواطن الشبهات مقبلا على مجالس المتفقهة وخدمة أهل العلم، روي أنه كان يتضرع لربه أن يرزقه ولدا فقيها واعظا، ولكن أجله انقضى حين كان ولداه محمد وأحمد في سن الطفولة المبكرة، بعدما أوصى وهو في مرضه صديقا متصوفا متجردا للعبادة بتعهدهما وتعليمهما الخط وإنفاق ميراثه القليل في ذلك وإن نفد، فلما عمل صاحبه بالوصية وذهب المال نصح الولدين اليتيمين بالنزول في مدرسة تكفلهما ويتعلمان فيها.
في طوس بدأ محمد طلب العلم في سن مبكرة مع عناية بتعلم الفارسية والعربية، فأخذ شيئا من الفقه على أحمد بن محمد الراذكاني الطوسي وطرفا من التصوف على يد يوسف النساج.
وتزايدت همة الفتى محمد في طلب العلم، وقبل بلوغه الـ20 رحل إلى جرجان بشمال إيران ليأخذ عن أبي القاسم الإسماعيلي وكتب عليه التعليقة.
وبعد مدة غير معروفة عاد إلى طوس ومكث فيها 3 سنوات، ثم استأنف برحلة أخرى في طلب العلم، فقصد نيسابور في رفقة جماعة من الطلبة، وفيها لقي معلمه الأشهر الذي لازمه ولم يفرق بينهما إلا موت الأستاذ، وهو إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني شيخ المدرسة النظامية بنيسابور، فقرأ عليه الفقه والأصول والمنطق والكلام.
والمدارس النظامية حركة تعليمية أسسها وعني بها وزير السلاجقة الشهير قوام الدين أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي الملقب بنظام الملك، وكان هدفها تعليم المذهب السني في وقت انتشرت فيه المذاهب الشيعية حتى ملأت الآفاق، وكانت المدارس النظامية تتمتع بنظام تعليمي مبني على التخصص وحضور الطلاب المنتظم بدل الحضور الاختياري في حلقات العلماء، وقد بلغ عددها 10، أهمها مدرسة بغداد ومدرسة نيسابور، ثم مدارس الموصل وأصفهان وتسخور (داغستان) وبلخ والبصرة وآمل وهرات.
ويبدو أن الغزالي وجد بغيته في نيسابور بعد رحلة بين طوس وجرجان، فانكب فيها وهو في ريعان العشرينيات على طلب المعرفة من كل باب، فقرأ الفقه وأصول الفقه وأصول الدين والمنطق والكلام، حتى برع في المذهب الشافعي والخلاف والجدل والمنطق، كما قرأ الحكمة والفلسفة وفهم علوم الأوائل وتصدى للحجاج والرد فيها، واستمر في ذلك حتى توفي أستاذه الجويني عام 478 هـ، وفي هذه الحقبة صنف الغزالي «المنخول من تعليق الأصول».
ويصف أبو حامد هذه المرحلة في مذكراته «المنقذ من الضلال» قائلا «وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني، من أول أمري، وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعها في جبلتي لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا».
بعد وفاة الجويني ومع تفجر ملكة التأليف والتصنيف وقدرة النقاش والجدل والمناظرة عند الغزالي، ارتحل وهو ابن الـ28 ليدخل في مخيم نظام الملك وزير السلاجقة، وكان مجلسه مجمع أهل العلم وساحة مناظراتهم، وقد حصلت لأبي حامد شهرة كبيرة في هذه المجالس، وذاع صيته في حواضر العلم، وبقي 6 أعوام في هذه الحياة الصاخبة بمطارحة الآراء وممارسة الجدل وجوار الأئمة ومقارعة الفحول.
وأعانته على ذلك قوة همته ونشاط عقله وذكائه الحاد مع حضور بديهة وسيلان ذهن وطموح، فاستطاع اكتساب المعرفة من كل باب وشغف، وتعلم كل فن غير متهيب ولا متحفظ على عادة أهل زمانه من الخوف والحذر والتحوط في قراءة بعض العلوم، خاصة علوم الأوائل وأخطرها عليهم الفلسفة.
أما الغزالي فيقول عن نفسه «ولم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ، قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وأتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته».
التدريس والتصنيف
وفي عام 484 هـ أرسله نظام الملك للتدريس بالمدرسة النظامية في بغداد، ليبدأ الغزالي فصلا جديدا من حياته وهو في الـ34 من عمره، فقد سبقته شهرته فوفد عليه الطلاب من كل حدب وصوب، حتى روي أنه كان يحضر مجلسه 400 عمامة، وقد أعجب الخلق حسن كلامه وفصيح لسانه ودقيق نكاته ولطيف إشاراته، فأقام على نشر العلم بالتدريس والتصنيف، وظهر نبوغه وتميزه واتضحت سمات شخصيته العلمية الفريدة ومعالم مشروعه الفكري في المصنفات التي أنتجتها هذه الحقبة، خاصة «مقاصد الفلاسفة» و»تهافت الفلاسفة» و»الاقتصاد في الاعتقاد» و»معيار العلم» و»محك النظر» و»المستظهري في فضائح الباطنية».
عزلة الغزالي
أبو حامد الغزالي دخل لسنوات في عزلة وتأمل ومحاسبة للنفس 
وفي هذه الفترة وقعت أحداث جسام كان لها أثر كبير في المجتمع الذي كان يعيش فيه الغزالي، ففي العاشر من رمضان 485 اغتالت فرقة الباطنية الحشاشين وزير السلاجقة نظام الملك، وفي 15 شوال مات السلطان ملكشاه ليبدأ نزاع على الحكم في الدولة السلجوقية، وفي محرم 486 بويع الخليفة العباسي المستظهر بالله وشهد الغزالي احتفال توليه وألف «فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية» بتكليف منه.
وفي حقبة بغداد التي استمرت 4 سنوات تنامى نشاط الغزالي في التدريس والتأليف والمحاضرة والمناظرة، حتى ملأ الدنيا وشغل العالم بعلمه وفكره، فوفد إليه طلاب العلم من كل جهة، وتسابق النسّاخ إلى كتبه في كل مصر، وأتته الفتاوى من كل صقع، حتى إنه يصدر فتوى لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين بشأن موقفه من ملوك الأندلس في الغرب، ويهب لنجدة العامة والخاصة من «مؤامرات الباطنية وشكوك الفلاسفة في الشرق»، ويتقرب إليه الملوك وتسترضيه السلاطين، وتستلهمه الخاصة، وتتبرك به العامة.
وبينما هو في هذه الحال إذا به يأخذ قرارا بالمفارقة والاعتزال، وهذا ما يسمى في التأريخ له «أزمة الغزالي».
تجربة الغزالي الروحية
في رجب 488 بدأت أزمة الغزالي النفسية، وهي قصة تجربة روحية نادرة في تاريخ البشر، قامت على مكاشفة ومصارحة ومحاسبة للنفس أخذها الغزالي بقدر كبير من تحري الصدق والشفافية الروحية، فهو يتعمق في التفكير لاستكناه الحال والمقال ومراجعة كل شيء في حياته الخاصة، ويقيم بمعيار دقيق للحذر من الغلط ويحرص على وضع خطة سديدة لمكاشفة الحقيقة واختيار الطريقة، ويجتهد من أجل ضمان صحة القلب وصفاء النية ونقاء الطوية.
هي ليست أزمة الشك وتكافؤ الأدلة التي تعتري كل مفكر، فهذه الحال كانت تعرض للغزالي منذ بدأ رحلته مع المطالعة والتعلم، هو حسب روايته في «المنقذ من الضلال» كان يتوجه إلى كل درب من دروب المعرفة من أجل التبصر والسعي وراء الحقيقة والاستنارة، فلهذا قرأ علم الكلام وعلم المنطق ولهذا الغرض قرأ الفلسفة.
مقاصد الفلاسفة تهافت الفلاسفة
الغزالي عرضت له حالة من التساؤل والتشكك قائمة على محاسبة النفس أدت إلى اعتلال جسده واختلال حياته، وسببها ضعف ثقته بخططه في الحياة وقلة يقينه بأن مسيرة التأليف والمناظرة والتدريس، بما فيها من خير وبر، يمكن أن تصل به إلى الحقيقة الواضحة والسلوك القويم والخلاص الأبدي، وقد أدى به ذلك إلى أمراض جسدية.
وقد كتب أبو حامد في هذه الحال نصا نادرا في تاريخ الكتاب والنابهين في رسالته «المنقذ من الضلال»، التي يتداولها الغربيون باسم «اعترافات الغزالي» تشبيها لها باعترافات القديس أوغسطين.
المصارحة والانكشاف
يقول الغزالي في المنقذ من الضلال «كان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكف النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله، قطع علاقة القلب عن الدنيا، بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب من الشواغل والعلائق.
ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي -وأحسنها التدريس والتعليم- فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة. ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال».
بين التدبر والتردد
يقول أبو حامد «فلم أزل أتفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوما، وأحل العزم يوما، وأقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى، لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فيفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل فلم يبق من العمر إلا قليل وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة، فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على الهرب والفرار، ثم يعود الشيطان ويقول هذه حال عارضة، إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما التفتت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة.
فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريبا من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمئة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما واحدا تطييبا للقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطلق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزنا في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد، ولا تنهضم لي لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم».
طريق الخروج من الأزمة
يقول الغزالي «ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبر في نفسي سفر الشام حذرا أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي على المقام في الشام، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم ألا أعاودها أبدا، واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة، إذ لم يكن فيهم من يجوّز أن يكون للإعراض عما كنت فيه سبب ديني، إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين، وكان ذلك مبلغهم من العلم.
ثم ارتبك الناس في الاستنباطات، وظن من بعد عن العراق أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة، وأما من قرب من الولاة كان يشاهد إلحاحهم في التعلق بي والانكباب علي، وإعراضي عنهم، وعن الالتفات إلى قولهم، فيقولون هذا أمر سماوي، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة أهل العلم».
المنقذ من الضلال محك النظر المنخول
يقول حجة الإسلام «ففارقت بغداد، وفرقت ما كان معي من المال، ولم أدخر إلا قدر الكفاف، وقوت الأطفال، وترخصا بأن مال العراق مرصد للمصالح، ولكونه وقفا على المسلمين، فلم أر في العالم مالا يأخذه العالم لعياله أصلح منه. ثم دخلت الشام، وأقمت به قريبا من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة، اشتغالا بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كنت حصلته من كتب الصوفية.
فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق، أصعد منارة المسجد طول النهار، وأغلق بابها على نفسي، ثم رحلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل يوم الصخرة، وأغلق بابها على نفسي. ثم تحركت في داعية فريضة الحج، والاستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله وسلامه عليه، وفررت إلى الحجاز، ثم جذبتني الهمم، ودعوات الأطفال إلى الوطن، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه، فآثرت العزلة به أيضا حرصا على الخلوة، وتصفية القلب للذكر.
وكانت حوادث الزمان ومهمات العيال وضرورات المعيشة تغير في وجه المراد وتشوش صفوة الخلوة، وكان لا يصفو لي الحال إلا في أوقات متفرقة. لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها، فتدفعني عنها العوائق، وأعود إليها. ودمت على ذلك مقدار عشر سنين».
اختيار طريقة الصوفية
يقول أبو حامد «وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به أني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به».
بين سياحة العزلة وواجب نشر العلم
وقد كانت التأملات التي صاغها الغزالي في «المنقذ من الضلال» تأسيسا لمرحلة جديدة في مسار فكره وتصنيفاته، حتى إنه يمكن تقسيم مصنفاته إلى ما كان منها قبل العزلة وما كان بعدها لتظهر تجربته الروحية جلية ناصعة، فقد أخذت أبا حامد السياحة في البلاد، متنكرا من كل طالب معرضا عن أي شهرة، يظهر للناس فلا يعرفونه ويغيب فلا يفتقدونه، أكثر ما يؤرقه هو أن يعرف في مكان، فإن حدث ذلك فر منه إلى مكان آخر يجد فيه فرصة أخرى للعزلة وخمول الذكر، ويمكث الليالي الطوال في مئذنة بعيدا عن أعين الخلق متبتلا متأملا ذاكرا داعيا، وكتب وهو على هذه الحال أشهر مؤلفاته «إحياء علوم الدين».
وقد قضى الغزالي سنوات في العزلة هائما على وجهه بين القدس ودمشق والإسكندرية، أدى خلالها فريضة الحج، ثم عاد إلى طوس ودرّس بها مدة يسيرة، ثم آثر حياة العزلة ومجاهدة النفس وبقي في هذه الحال 9 سنين، وفي سنة 498 ألح عليه فخر الدين علي بن نظام الملك في معاودة التدريس، فعاد هذه المرة في مدرسة نيسابور، وبعد اغتيال فخر الملك على يد الباطنية سنة 500 عاد الغزالي إلى بيته واتخذ في جواره مدرسة للطلبة و»خانقاه» للمتصوفة، ووزع أوقاته بين ختم القرآن ومجالس الذكر.
الوفاة
وفي 14 جمادى الآخرة عام 505 هـ الموافق لـ18 ديسمبر 1111 م توفي أبو حامد الغزالي في طوس ودفن في قصبة الطابران.