- التوبة الصادقة تمحو الخطايا والسيئات مهما عَظُمت حتى الكفر بالله والشرك
- الصلواتُ الخمسُ والجمعةُ إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر

من أعظم نعم الله على عباده أنْ فتح لهم باب التوبة والإنابة ، وجعل لهم فيه ملاذاً آمناً ، وملجأً حصيناً ، يلجأ إليه المذنب ، معترفاً بذنبه ، مؤملاً العفو والرحمة في ربه ، نادماً على فعله ، ليجد في قربه من ربّه ما يزيل عنه وحشة الذَّنب ، وينير له ظلام القلب ، وتتحول حياته من شقاء المعصية وضيقها وشؤمها ، إلى نور الطاعة وسعادتها وبركتها . 
وفي هذا الأمر يقول الكاتب محمد الحمود النجدي «دعا الله عباده إلى التوبة مهما عظمت ذنوبهم ؛ وجلَّت سيئاتهم ، بل وأمرهم بها ؛ ورغبهم فيها مراراً ، ووعدهم بقبول توبتهم ، وتبديل سيئاتهم حسنات ؛ رحمة منه ولطفاً بالعباد . 
ومنزلة التوبة – كما قال العلماء – هي أول المنازل وأوسطها وآخرها ، لا يفارقها العبد ولا ينفك عنها حتى الممات ، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل بها ؛ واسْتصحبها معه ، فهي بداية العبد ونهايته ، ولذا خاطب الله بها أهل الإيمان الراسخ ؛ وخيار خلقه وأفاضلهم  ، وأمرهم أن يتوبوا إليه سبحانه ؛ مع إيمانهم وصبرهم وجهادهم ، وعلق الفلاح بها، فقال سبحانه :  ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) النور:31 . 
وقال سبحانه : ( ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) الحجرات : 11 . 
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” إنَّ الله يبسط يده بالليل ؛ ليتوب مسيء النهار ؛ ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ؛ حتى تطلع الشمس مِنْ مغربها ” . رواه مسلم . 
وإذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم الذي غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ؛ يقول : ” يا أيها الناس ؛ توبوا إلى الله واسْتغفروه ، فإني أتوبُ إلى الله في اليوم مائة مرة ” . رواه مسلم ، فكيف بغيره من العباد المذنبين والمقصرين . 
والتوبة الصادقة تمحو الخطايا والسيئات مهما عَظُمت ، حتى الكفر بالله  والشرك ، فإن الله تبارك وتعالى لا يتعاظمه ذنبٌ أنْ يغفره ، قال سبحانه: ( قل للذين كفروا إنْ ينتهوا يغفر لهم ما قد سَلَف وإن يعودوا فقد مضتْ سنة الأولين ) الأنفال :38 . 
بل حتى الذين قتلوا الأنبياء ، و( قالوا إنَّ الله ثالث ثلاثة ) المائدة :73 ، و ( قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) المائدة :17 . – تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- دعاهم الله للتوبة ، وفتح لهم أبواب المغفرة ؛ فقال سبحانه : ( أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ) المائدة : 74 . 
وفي الحديث القدسي : يقول الله عزّ وجل :” يا عبادي ! إنكم تُخطئون بالليل والنَّهار ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعاً ، فاستغفروني أغْفر لكم ” . رواه مسلم. 
وفي حديث آخر : ” يا ابن آدم ؛ لو بلغت ذنوبك عنان السماء ، ثم استغفرتني ، غفرت لك ولا أُبالي ، يا ابن آدم ! إنك لو أتيتني بقُرَاب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئاً ، لأتيتك بقُرابها مغفرة ” . رواه الترمذي . 
ورمضان من أعظم مواسم التوبة والمغفرة ؛ وتكفير السيئات ، ففي الحديث الذي رواه مسلم : عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الصلواتُ الخمسُ ، والجمعةُ إلى الجمعة ، ورمضانُ إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر” . 
كيف وقد جعل الله صيامه ؛ وقيامه ؛ وقيام ليلة القدر على وجه الخصوص ؛ إيماناً واحتساباً ؛ مكفراً لما تقدم من الذنوب ؟! فعن أَبِي هُريرَةَ قَال قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ علَيه وسَلَّمَ : ” مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ؛ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ” . رواه البخاري (38) ومسلم (760). 
وعنه رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ؛ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ  ” . رواه البخاري (37) ومسلم (759). 
ومعنى إيماناً : أي أنه حال قيامه مؤمناً بالله تعالى ، ومصدقاً بوعده وبفضل القيام ، وعظيم أجره عند الله تعالى .
 واحتساباً : أي محتسباً الثواب عند الله تعالى ؛ لا بقصد آخر من رياء ونحوه . 
وعَنه رَضِي اللَّهُ عنه : عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيه وسلَّم قَال : ” مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا واحْتِسَابًا ؛ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ” . رواه البخاري (1901)  ومسلم (759). والعبد يجد في رمضان من الإعانة والتوفيق ؛ ما لا يجده في غيره من شهور السنة ، ففرص الطاعة متوفرة ، والقلوب على ربِّها مقبلة ، وأبواب السماء والجنان مفتحة ، وأبواب النار مُغلقة ، ودواعي الشر مضيقة ، والشياطين مصفدة ، وكل ذلك مما يعين المرء على التوبة والرجوع إلى الله تعالى .
 فلذلك ، كان المحروم من ضيع هذه الفرص العظيمة ، وأدرك هذا الشهر وانْسلخ عنه ولم يُغفر له ؟! فاستحق الذلّ والإبعاد ؛ بدعاء جبريل عليه السلام عليه ؛ وتأمين النبي صلى الله عليه وسلم ، حين قال جبريل : ” يا محمد ! من أدرك شهر رمضان فمات ، ولم يُغفر له، فأُدخل النار فأبعده الله ، قل : آمين ، فقال : آمين ” . رواه الطبراني .  
وقال صلى الله عليه وسلم : ” رَغِم أنفُ رجلٍ ؛ دخلَ عليه رمضان ، ثم انسلخ قبل أن يُغفر له ” . رواه الترمذي. 
وإذا كان الله عز وجل قد دعا عباده إلى التوبة الصادقة النصوح في كل وقت وزمان ، فإن التوبة في رمضان أولى وآكد ، لأنه شهر تغفر فيه السيئات بكثرة الأعمال الصالحات ؛ شهر تُسْكَبُ فيه العبرات في الصلوات والتلاوات ، وتقال فيه العثرات ، وتُعتق فيه الرقاب من النار ، ومن لم يتب في رمضان ؛ فمتى يتوب ؟! ونذكر أنفسنا والمسلمين : أن للتوبة شروطاً ستة ؛ لا بد من توفرها كي تكون صحيحة مقبولة عند الله تعالى :
 أولها : أنْ تكون خالصة لله تعالى ؛ أي : أن يكون الدافع له للتوبة : الخوف من الله تعالى وعقابه ؛ ومحبة قربه ورضاه .
 ثانيها : أن تكون في زمن قبول التوبة ، أي : في زمن الحياة قبل الموت ؛ وقبل أن تبلغ الروح الحلقوم ، فإنَّ الله يقبلُ توبة العبد ؛ ما لم يُغَرْغر ، كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم. 
وقبل أنْ تطلع الشمس من مغربها ، فإنَّ الشمس إذا طلعت من مغربها ، لم تنفع عندها التوبة ، قال تعالى : ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ) الأنعام :158 . روى البخاري (4635) ، ومسلم (157) 
 عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه قَالَ : قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْه وسَلَّمَ : ” لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ، فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ ، آمَنَ مَنْ عَليها ، فَذَاكَ حِينَ ( لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ) “.
 ثالثها : الإقلاع عن الذنب ، فلا يصحّ أنْ يدَّعِي العبدُ التوبة ، وهو مقيمٌ على المعصية ؛ وباقٍ عليها .
 رابعها : الندم على ما كان منه ، والندم ركنُ التوبة الأعظم ، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” النَّدَمُ توبة ” . أخرجه ابن ماجة . 
خامسها : العزم على عدم العودة إلى الذنب في المستقبل . 
سادسها : ردُّ الحقوق إلى أصحابها ؛ والتحلل منهم ، إنْ كان الذَّنب مما يتعلق بحقوق المخلوقين المالية وغيرها . 
أهمية التوبة في مواسم الخير
 من تأمل حال التائب قبل موسم الخير ؛ تجده إذا دخل الموسم له قلبٌ مستعد ومهيأ ؛ لما يُوضع فيه من التَّحْلية والخير، بعد التَّخْلية من الذنوب والآثام ؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله : ” قبول المَحَل لما يوضع فيه ؛ مشروطٌ بتفريغه من ضده ، وهذا كما أنه يكون في الذوات والأعيان ، فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات .. فلذلك القلب المشغول بمحبة غير الله ؛ وإرادته ؛ والشوق إليه ؛ والأنس به ، لا يمكن شَغْله بمحبة الله ؛ وإرادته ؛ وحبّه والشوق إلى لقائه ، إلا بتفريغه من تعلّقه بغيره “. اهـ . فحريٌ بنا أيها الصائمون ونحن في هذا الشهر المبارك أن نتخفف من الأوزار، ونقلع عن المعاصي والموبقات ، ونتوب إلى الله توبة صادقة ، وأن نجعل من رمضان موسماً لإصلاح أعمالنا وأقوالنا ، وتصحيح مسيرتنا ، ومحاسبة نفوسنا ؛ والعودة إلى ديننا القويم ؛ والاستقامة على صراطه المستقيم .
 ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ) آل عمران : 147. 
ولا تتركوا هذا الدعاء العظيم الجامع : عن شَدَّاد بنِ أَوْسٍ رضي اللَّه عنه عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيه وسلّم قال:
 ” سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ ؛ أَنْ تَقُول : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ ؛ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ ؛ وأَنا عَلَى عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ ؛ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ ما صَنَعْتُ ؛ أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِكَ علَيَّ ؛ وأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ؛ فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ ” ؛ قَال :” ومَنْ قَالَها مِنْ النَّهَارِ ؛ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يومِهِ ؛ قَبْل أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؛ ومَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ ؛ وهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ ؛ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . ” 
وعَن أَبِي مُوسى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ علَيه وسلَم أَنَّهُ كان يَدْعُو بِهذا الدُّعَاءِ :
 ” اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وجَهْلِي ؛ وإِسْرَافِي فِي أَمْرِي ؛ وما أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وهَزْلِي ؛ وخَطَئِي وعَمْدِي ؛ وكُلُّ ذَلِك عِنْدِي ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وما أَخَّرْتُ وما أَسْرَرْتُ ؛ وما أَعْلَنْتُ ؛ ومَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ؛ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ؛ وأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “.