يستقبل الجزائريون على غرار بقية المسلمين في العالم، شهر رمضان المبارك، بالعديد من الطقوس التي تتميز بها مختلف أرياف وقرى ومدن الجزائر الواسعة، سواء من حيث التحضير المسبق للعديد من المسائل التي ترافق هذا الشهر الفضيل وتشجيع الأطفال المقبلين على الصيام.
ويسترجع الكثيرون في الجزائر عادات شهر رمضان قديماً بنوع من الحنين، سواء في فترة الاستعمار والثورة التحريرية، أو بعد الاستقلال، وهي الفترة التي يصفها الكثير منهم بـ “زمن النية” والبساطة، وروح التضامن التي تجعل الكثير يستغلون هذا الشهر الكريم لفعل الخيرات والابتعاد عن المحرمات، وتنقية القلوب، وأداء الشعائر الدينية، ومساعدة المحتاجين، وغير ذلك من الأعمال التي يحرص عليها الكثير في هذا الشهر الكريم.
و”ريحة رمضان” تعبير مجازي في لهجة الجزائريين، لكنه يعبر عن قيم وعادات وطقوس يكافح أهل هذا البلد العربي للحفاظ عليها ومحاربة طمسها في شهر عظيم لا يتكرر إلا مرة في العام.
وقال عبد الرشيد بوبكر، مؤرخ ومدير المركز الجزائري لتطوير المهارات في تصريح لوكالة الأنباء القطرية: تعد طقوس استقبال شهر رمضان لدى العائلة الجزائرية موروثاً اجتماعياً كبيراً، يدعو إلى الفخر صراحة فالتفاصيل البسيطة في عملية التحضير هذه تعكس أصالة وكرم الجزائري وكذا حسن تدبير ربة البيت”، فكل شيء منظم ومرتب لتخصيص رمضان للعبادات دون الانشغال بالتحضيرات اليومية.
ويشرع الجزائريون في التحضير لرمضان قبل أشهر من قدومه تطبيقاً لعادات وتقاليد توارثوها من أسلافهم، بحيث تجتهد النساء بالاستعداد الكبير للشهر الكريم بغسل حوائط البيت كله وتطهيره، وإعادة دهنه باللون الأبيض غالبا وهو اللون الذي يستبشر به الجزائريون خيراً. وتشهد متاجر بيع الأواني خاصة التقليدية منها اكتظاظاً منقطع النظير خلال شهر قبل حلول الشهر الكريم، وتتجهز المحلات التجارية باختلافها لتلبية طلبات المواطنين.
وقال صاحب أحد المتاجر بتقصرين بالعاصمة، لوكالة الأنباء القطرية قنا: نتجهز من أجل استقبال رمضان الكريم، نوفر مختلف السلع كالتمور، التوابل، الفواكه المجففة والبهارات، وذلك لأن الطلب في رمضان كبير جداً وأقل واجب هو توفير المنتوجات للصائمين، وتتهافت النساء لاقتناء مستلزمات جديدة وهي عادة راسخة في المجتمع الجزائري.
وجبات رمضانية متميزة
وتشتهر ربات البيوت بالجزائر بإعداد وجبات رمضانية وموائد متميزة، تعتمد في الأساس على تحضيرات مسبقة أولها هو شراء المواد الغذائية بكميات كبيرة وتخزينها للشروع في التجهيزات الأولية للطاولة الرمضانية المتمثلة في تحضير الفريك وهو دقيق غليظ من القمح والشعير يتم تنقيته وطحنه للاحتفاظ به في قوارير زجاجية، فضلا عن خلط التوابل ودمجها بما يتناسب مع كل طبق رمضاني، دون أن ننسى إعداد شباح السفرة وهو عبارة عن مكسرات مطحونة مخلوطة مع العسل مشهورة بها المناطق الشرقية من الجزائر أكثر شيء وهو ما أكدته الدكتورة حياة أستاذة جامعية بجامعة عنابة بالشرق الجزائري قائلة «شرعت في التحضيرات قبل أسبوع، أعددت الطماطم المصبرة وهريسة الفلفل الأحمر الحلو ويعدان شيئين رئيسيين في أطباقنا الرمضانية، والآن خرجت لشراء اللوز والجوز مع العسل الطبيعي لتحضير شباح السفرة وكذلك الدقيق لإعداد أوراق الديول».
تجهيز المساجد
ويحرص الجزائريون على تنظيف المساجد وتجهيزها لاستقبال الشهر الفضيل وينتظرون ليلة الشك كتقليد سنوي ثابت، إذ تجتمع العائلة قبالة التلفزيون في صمت وسط حالة من الترقب الممزوجة بالفرح، كيف لا وفي ليلة رمضان يملأ القرآن شوارع الجزائر وأزقتها، وتعلو الأناشيد الدينية الممزوجة بضحكات الأطفال الذين يجتمعون حول أول مائدة للسهر على ترتيل القرآن، إيذاناً بحلول شهر رمضان وهو ما أكده الدكتور محمد بوجلال، عضو المجلس الإسلامي الأعلى قائلاً: يزداد الاهتمام بالجانب التعبدي في رمضان، فمن الناس من يتهاون على العبادات في سائر أيام السنة لكنه يكون اكثر التزاما في هذا الشهر، وهو دليل على ارتباط الناس بقيم رمضان الحقيقية.
وبدوره، يحرص رب البيت الجزائري على توفير كل المستلزمات الرمضانية من تمور وحبوب جافة ومكسرات، إضافة إلى الحليب واللبن، وكلها مواد لا غنى عنها في مائدة السحور، إذ يفضل الجزائريون طبق “الكسكسي بالزبيب” مع اللبن كأول سحور رمضاني. ويبدأ الجزائريون الإفطار بالتمر وشرب الحليب، وتتميز مائدة أول إفطار رمضاني بأصناف مختلفة تتقنها المرأة الجزائرية مع التنويع والتنسيق فنجد فيها الشوربة بين بيضاء وحمراء حسب المنطقة، يرافقها البراك أو السيقار المالح وهو عبارة عن عجينة رفيعة يتم حشوها إما باللحم المفروم، البطاطا أو الجبن ثم يتم قليها في الزيت الساخن، ويختلف الطبق الرئيسي بين المثوم، شباح السفرة إضافة إلى الطواجن مع اللحوم المصاحبة لبعض البقوليات والخضروات، وأشهرها طاجين الزيتون، طاجين البازلاء، اللحم الحلو مع الزبيب والبرقوق مع السلطات والمقبلات والفاكهة والمشروبات المختلفة، وأخرى ترافق الصائم الجزائري طوال الشهر الفضيل، وهنا تغتنم النساء فرصة رمضان لإعداد الفتيات للحياة الزوجية فرمضان عند الأم الجزائرية فرصة من ذهب لتلقين بناتها فنون وأساسيات المطبخ الجزائري.
الإقبال على المساجد
وتعرف المساجد إقبالاً كبيراً من المصلين لأداء صلاة التراويح ومتابعة الدروس الفقهية، ومن الظواهر الأخرى إقبال الشباب والفتيات والأطفال على المساجد، كما تحرص عائلات جزائرية على الخروج مجتمعة لأداء الصلاة لتعزيز الروابط الأسرية الروحية والإيمانية.
وأكد رمضان بن علي وهو إمام مسجد عمر بن الخطاب ببودربالة بولاية البويرة في تصريح لوكالة الأنباء القطرية، أن عدد المصلين يبلغ أرقاما قياسية في رمضان، إذ يضطر المشرفون على المساجد لتوفير سجاد لفناء المسجد لأن قاعة الصلاة لا تفي بالغرض، مضيفا: “شهر رمضان هو شهر الخير بكل ما للكلمة من معنى فيه يتغير كل شيء، أجواء روحانية فريدة وإقبال على العبادات ليس له مثيل».
وكشف علي بوخزنة، إمام مسجد القدس بالجزائر العاصمة في تصريح لوكالة الأنباء القطرية، عن تقليد رمضاني جزائري أساسي وهو تنظيم مسابقات دينية تخص القرآن والثقافة الإسلامية عامة وهذا لتشجيع الصغار على الارتباط بالدين قائلاً: هدفنا أن نجعل لرمضان مكانة خاصة في قلوب هؤلاء الصغار، خاصة إن تنظيم المسابقات وخلق جو لطيف من التنافس مع مكافآت مادية ومعنوية يدعو الأطفال إلى التعلق أكثر بدينهم، ونحن مجبرون على الحفاظ على طقوسنا الرمضانية خاصة مع زحف التكنولوجيا الذي يهددنا جميعا كباراً وصغاراً.
وبعد الصلاة تبدأ الزيارات العائلية والسهرات، حيث يكثر التزاور بين العائلات الجزائرية في شهر رمضان المبارك والسهر وتجاذب أطراف الحديث حول صينية الشاي والقهوة والحلويات المختلفة، على رأسها الزلابية وقلب اللوز.
إفطار الفقراء والمسافرين
وتقوم الكثير من الجمعيات الخيرية خلال رمضان بفتح مطاعم الرحمة وهي عبارة عن مطاعم مؤقتة تقدم الإفطار للفقراء والمسافرين والمشردين وعابري السبيل، إذ يتطوع شباب وشابات من الحي للتكفل بإعداد إفطار رمضان وتوزيعه على المحتاجين وهو ما شرحه محمد لمين في تصريح لوكالة الأنباء القطرية قائلاً: يتم التحضير لهذه المطاعم أشهرا قبل موعد رمضان ونقصد رجال الأعمال، والعائلات ميسورة الحال وحتى الجمعيات الخيرية التي تقوم بنفس ما نقوم به نحن، فنقوم بجمع المال قصد شراء كل المستلزمات، إنه تقليد سنوي اعتدنا عليه.
ليلة منتصف رمضان
أما ليلة النصف من شهر رمضان في الجزائر فلها أكلات خاصة تميز كل منطقة عن أخرى، فنجد الشخشوخة مع مرق الدجاج في الشرق الجزائري، والكسكسي باللحم في وسط الجزائر وغربها، إضافة إلى طبق التليتلي والمردومة عند سكان الجنوب الذين مازالوا محافظين على عادات تميزهم كالاحتفال بالطفل الصائم إذ يتم حلق شعر رأسه ولفها بالشاش مع ذبح خروف احتفالا به، وعند الإفطار يتم إلقاء الحلويات من فوق رأس الطفل الصائم ابتهاجا بإتمام الصيام ويقوم أهله بترديد الأدعية الدينية، حتى يتم مباركة الطفل، ويوضع الكحل في عينيه مع وضع الحناء في يديه وقدميه.
وتقام طقوس خاصة في ليلة الـ27 من رمضان، يتم فيها ختم القرآن، وتوزيع الصدقات والزكاة على المحتاجين والمساكين والفقراء. وتبخر النساء بيوتهن بالبخور، وتبقى لآخر أيام رمضان نكهة أخرى فهي بداية التحضيرات لعيد الفطر، فتزيين المنزل بزينة العيد أمر مهم خاصة مع وجود الأطفال. كما يعتبر تحضير الأطعمة والحلويات من أهم الأمور التي يجب الانتباه لها في عيد الفطر، إلى جانب شراء ملابس جديدة أو التفكير في تنسيق الملابس الموجودة بشكل جميل ومناسب للمناسبة، كما يحرص الجزائريون على شراء الهدايا للأطفال والأقارب والأصدقاء، وتحضيرها قبل العيد ولهذا تكتظ الشوارع والأسواق وتمتلئ بالزينة في كل مكان.
وهكذا يودع الجزائريون شهر رمضان بحيث يعتبرونه مختلفاً عن باقي الشهور لتميزه بطقوس فريدة تبعدهم عن روتينهم اليومي المعتاد.