- يجب الفصل بين تجديد الخطاب الديني وتطويره وفق رؤية الأمة وبين تطويره وفق رؤية عدوها
- لابد أن يستقر لدينا التفرقة بين الثابت والمتغير فالخلاف ليس هو ثبوت النص من عدمه إنما في تفسير النص وتأويله

 
يقول ابن فارس ، الطاء والواو والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد، وهو الامتداد في شيء من مكان أو زمان، من ذلك طوار الدار هو الذي يمتد معها من فنائها، لذلك يقال عدا طوره، أي جاز الحد الذي هو له من داره. ثم استعير ذلك في كل شيء يتعدى. 
والطور جبل، فيجوز أن يكون اسما علما موضوعا، ويجوز أن يكون سمي بذلك لما فيه من امتداد طولا وعرضا.
 ومن الباب قولهم: فعل ذلك طورا بعد طور، فهذا هو الذي ذكرناه من الزمان، كأنه فعله مدة بعد مدة. وقولهم للوحشي من الطير وغيرها: طوري وطوراني، فهو من هذا، كأنه توحش فعدا الطور، أي تباعد عن حد الأنيس.
هكذا يرصد لنا ابن فارس الدلالة اللغوية للجذر اللغوي طور، وأنها تعني الأمتداد، وهو بهذا يؤكد لنا إن قضية التطوير يحتاجها كل عصر بما يناسبة، ويتوافق مع المقتضيات التي يفرزها الواقع،  وفي هذا فإن  ”  قيمة العالم  تتجلي في معرفته  بالشواهد واستخراجه لها من الكلام الفصيح واستحضاره إياها عند الحاجة ، كما نؤسس ونقول الآن في قضية تطور الخطاب  الديني.
ويرى الأستاذ أحمد مختار عمر أن التطوير هو التغيير من حال إلى حال أفضل،  وهذا يتوافق مع حالة الدين والعقل، فـ ” طور يطور، تطويرا، فهو مطور، والمفعول مطور، طور المصنع: عدله وحسنه، ونقله من حال إلى حال أفضل “طور أسلحته- طور الوزير المستشفيات- سعت الدولة بجهود مكثفة لتطوير التعليم.
هذه حقيقة مؤكدة بالنصوص الشرعية والبراهين العلقية، فالإسلام نصوصه مطورة ذاتيًا وهذا من ديناميكته  الخالدة، والعقل دائمًا يتطلع إلى الأفضل، وهذا أساس عملية التطوير التي ننشدها، وهذا يستطيع إدركه نبهاء الناس، والمحققين من العلماء والمجددون، ” وقد ألمح “عبدالقاهر الجرجاني” إلى ضرورة أن يتسم طالب التحقيق بإمعان النظر  وتقصي الشواهد وعدم الاقتصار على أمثلة تذكر ونظائر تعد .
فحقيقة التطوير ليست  مجرد سياق نصوص ووقائع تدل على أن الإسلام متطور، وإنما عملية قراءة  للنصوص وكيفية الاستشهاد بها ، وهذا يعني ”  إعادة إنتاج للنص المستشهد به” ، بمعنى أن الأستشهاد يصبح تناصيًا  حين يعمد المؤلف إلى تضمين أجناس شاهدة  في حقول معرفية متنوعة يبثها في ثنايا مؤلفه، هذه الشواهد إما مؤسسة لمضامين قديمة  فهي عبارة عن إثباتات، وإما مؤسسة لأخرى جديدة  سواءً استخلصها المؤلف بتأويل أو قراءة  إبداعية  مستكشفة ومستنبطة من خلال تأمل الشواهد ، أو استخراجها المتلقي فهي بين الإثبات والتمثيل .
هكذا يمكننا القول إن تطوير الخطاب الديني هو الانتقال به من حالة كانت مناسبة لمرحلة معينة أو حقبة معينة إلى حالة أخرى تناسب المرحلة الآنية أو الحالية، هذا لا يقدح في التأويل أو التفسير القديم للنص، إنما هذا التفسير والتأويل كان مناسبًا لمعطيات تلك الفترة، والواقع يتغير، والفتوى تتغير بتغير الواقع، ويكون هناك حسن لأنزال تلك الفتوى على الواقع الجديد.
تصاعدت في الآونة الأخيرة وتيرة المطالبة بـ تطوير الخطاب الديني ، وهذا أمر يحتاج إلى إيضاح،  وتفسير مؤسس على  تدقيق معرفي في تحديد المصطلحات ورسم الأهداف والمآلات؛ حتى تتضح الرؤية في  هذا الأمر .
لم يكن جديدًا على الأسماع تناول هذه القضية أو احتدام النقاش حولها، فما كتب وقيل وسيقال حولها كثير… وهذا لا يقلل من أي جهد  تناول هذا الأمر .
بداية كان هذا مهاد معرفي  يرسم لنا خريطة بسيطة لتناول تلك القضية،  فهي رغم تشعبها إلا أنه يمكن حسم الأمر فيها بصورة موضوعية ودقيقة، فالقضية لا تتعلق بتطوير الخطاب الديني فحسب، وإنما تمتد  بصورة مباشرة إلى أعماق التراث الذي هو ثمرة جهود علمائنا الأجلاء.
الحقيقة ” إن علماء الإسلام قد خلفوا لنا تراثًا علميًا ضخمًا، متعدد المناحي، وما يزال معظم هذا التراث مخطوطًا لم ير النور، ولم يتعرف عليه الباحثون، رغم ما فيه من المعاني الدقيقة والأفكار العميقة التي تخدم واقعنا المعاصر وتنير السبل لأمتنا في مجالات الفكر والتشريع والثقافة، يقدر بعض الخبراء ما بقي مخطوطًا من تراث علماء الإسلام بما يربو على ثلاثة ملايين عنوان، تقبع في زوايا المكتبات، وظلام الصناديق والأقبية، حتى إن بعضها لم يُفهرس فهرسة دقيقة فضلًا عن النشر، فكان من المهم في هذه المرحلة أن تتجه الجهود لتقويم هذا التراث واستجلاء ما ينفع الناس منه في عصرنا، ثم العمل على تحقيقه ونشره”
 
أهداف تطوير الخطاب الديني
لكل قضية من قضايا الأمة أهداف قامت من أجلها، ولعل في هذه النقطة تجدر الإشارة إلى ضرورة وأهمية الفصل بين تجديد الخطاب الديني وتطويره وفق رؤية الأمة وبين تطوير الخطاب الديني وفق رؤية عدوها.
إذا استطعنا ضبط هذه المسافة، فإننا نستطيع أن نتقدم خطوات في هذا الصدد، فمن الخطأ عدم ضبط المسافة بين الأراء، ولكي تتضح هذه  الرؤية فإن الواقع من حولنا يعج بالقضايا الجديدة، والإسلام لابد أن يكون له موقف محدد وواضح منها؛ حتى يكون مسايرًا للعصر الذي تعيشه  البشرية.
إن الهدف  الحقيقي لتطوير الخطاب الديني هو اعادة الاعتبار للمفاهيم والمصطلحات  بحيث تكون دالة بصورة مباشرة على مضمونها، وهذا بدوره يدفعنا إلى انجاز ما يمكن  النقاش حوله في تلك القضية .
لماذا تطوير الخطاب الديني ؟
لأن الإسلام من طبيعته التجديد، فهو دين ديناميكي يجدد نفسه من وقت لآخر طبقًا للنصوص التي تجري فيها روح  البقاء والخلود، فهي كالأرض التي إذا أصابها المطر أنبتت من كل زوج كريم، فكثيرًا ما  يقارن القرآن الكريم بين حياة الأرض بعد نزول المطر عليها وبين حياة القلوب، هذا على أمتداد القرآن الكريم  ، فهذه أول نقطة في إجابة هذا السؤال الكبير، فتطوير الخطاب الديني يعني إحياء القلوب من جديد .
قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } .
وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } .
الأمر الثاني.. نحن بحاجة إلى التطوير الذاتي الذي يرقى  بنا إلى كيفية التعامل مع النصوص، ومن ثم القدرة على قراءتها قراءة مغايرة ، تخدم الأمة وتساعدها، وهذا لن يكون إلا ممن لديه الأهلية والرسالية حول هذه الأمة، حتى يستطيع الوقوف على حقيقة القضايا ومن ثم يعالجها بالصورة الصحيحة، فهو كالطبيب الذي يخص الدواء الصحيح للمريض، فليست كل الأدوية صالحة لكل المرضى، وإنما لكل إنسان حالته،  وتوصيفه الخاص، وهذا بالنسبة للشريعة والواقع كذلك 
 
كيف يمكننا تطوير الخطاب الديني؟
تطوير الخطاب الديني  لا يتوقف على مجرد الشعارات والكتابات فقط؛ وإنما يتجاوز ذلك إلى ما هو أعمق، فلابد أن يستقر لدينا التفرقة بين الثابت والمتغير، فالخلاف ليس هو ثبوت النص من عدمه، إنما الخلاف حول تفسير النص وتأويله، ولذلك “هناك فارق بين تغيير المضمون وبين تغيير الشكل ، ونقصد بهذا أن يبقى المضمون ثابتًا، والعرض متغيرا في كل عصر بما يناسبه.
فنحن ليس لدينا إشكالية مع النصوص الثابتة  قطعيًا ودلاليًا، كالغرب الذي لديه ” إشكالية تعارض بين  العقل والدين- المنقول والمعقول- ؛لأن الدين عندهم محرف، أما نحن فقواطع الشرع لا تختلف مع قواطع العقل، فهما متفقان تمامًا ولا تعارض بينهما أبدًا.
لذلك فإن “القواطع العقلية تساوي قطعي الثبوت قطعي الدلالة؛ ولذلك معقولية العقل أو النقل غير دقيقة، فالعقل يسجد أمام القواطع الشرعية النقلية .
فالقرآن الكريم قطعي الثبوت، وإجماع الأمة على ذلك متواتر لا خلاف فيه، ومنه قطعي الدلالة وظني الدلالة، والسنة النبوية منها قطعي الثبوت، ومنها ظني الثبوت، ومنها قطعي الدلالة وظني الدلالة، فإذا استطاع المرء ضبط هذه المساحة بصورة دقيقة، فإنه يستطيع بكل بسهوله ضبط بوصلة التجديد والتطوير الحقيقي وهذا بخلاف التبديل أو إلغاء النصوص وتعطيلها.
كذلك فإن ضبط مسافة الثابت والمتغير من القضايا الأساسية التي يمكن في ضوءها التفرقة بين تجديد وتطوير الخطاب الديني، وبين التبديل أو إلغاء النصوص .
قضية تطوير الخطاب الديني وتجديده  من القضايا التي تحتاج إلى معالجة دقيقة ، وممارسة فاحصة؛ حتى نستطيع الخروج بمنجز معرفي حقيقي في هذا الصدد، ومن ذلك توصل الباحث إلى مجموعة من النتائج تتعلق بهذا الموضوع .
أولًا: 
قضية التجديد وتطوير الخطاب الديني من القضايا القديمة الحديثة، التي بحث فيها علماء الأمة منذ وقت طويل، معتمدين في ذلك على قوله – صلى الله عليه وسلم-:” إن الله يبعث لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها”، لذك كانت هناك محاولات تجديدية قديمة، كتلك التي قدمها “الغزالي” و”الجويني” وغيرهم… كما أن هناك محاولات حديثة ومعاصرة، والفيصل في هذا الصدد هو تقديم قراءة جديدة للنصوص تتوافق مع تراث الأمة ومشروعها الحضاري، وفي الوقت نفسه تخدم واقع الأمة العملي والمعيشي .
ثانيًا :
 لا يمكن أن يكون  تجديد الخطاب الديني وتطويره إلا وفق مقاصد الأمة ورؤيتها الحضارية، ولا يمكن بمعزل عن تراثها ورؤيتها للكون والحياة، وهذه نقطة في مسار التجديد لمن أراد التصدي له .
ثالثًا: 
فارق بين محاولات التجديد والتطوير المحمودة، وبين الإدعاءات التي ترنوا لذلك؛ وفق رؤية غريبة عن الأمة تحت مسميات التجديد، والتنوير، وغير ذلك… فالمصطلحات لها دلالتها المحددة، ومن الخطأ إقحامها في معركة خاطئة .
رابعًا:
 الإسلام لم ولن يمنع التقدم والرقي والنهوض، لكن ضد الانسلاخ والتنكر لأصوله وجذوره، وبناءَا عليه فإن التجديد يكون من داخله ووفق رسالته الخالدة، لذلك هو يرفض كل الأدوية التي لا تنبع منه، وإنما تفرض عليه . خامسًا: نحن بحاجة إلى التطوير الحقيقي الذي يخرج أمتنا من حالة  الركود التي تعيشها، ويعيدها إلى ممارسة دورها الحضاري، في كافة الجوانب الشرعية والدينية التي تتعلق بحياة  الروح، والجوانب الدنيوية التي تتعلق بحياة الناس، وهذان أمران لا غنى عنهما للبشر.
 
توصيات
· لابد من فهم التطوير والتجديد على أنه مجهود ذهني ومعرفي لا يمكن أن يمارسه أي شخص لديه ثقافة عامة، وإنما هو لأهل العلم في كافة المجالات المعرفية، ولذلك فنحن بحاجة إلى :
· تطوير وإنتاج المعرفة الحديثة التي تتناسب وروح العصر، كما أنها لا تخالف تعاليم الإسلام الحنيف .
·  التطوير يحتاج إلى جهد الأمة ككل على اختلاف مشاربها؛ فبه ينتج التنوع والتلاقح المعرفي، وبدونه يكون التحيز وتأتي القراءات الخاطئة وغير الموضوعية .
· في عملية التطوير والتجديد نحن بحاجة إلى إعادة الإعتبار إلى المصطلحات والمفاهيم حتى يمكننا ضبط كافة المسائل والقضايا ووضعها في نصابها الصحيح.