في رحلتي الإغاثية إلى الصومال، وتحديدًا إلى العاصمة مقديشو عام 2011، كانت الظروف قاسية للغاية. الفقر والجوع كانا يخيمان على كل زاوية، وكان الناس يكافحون من أجل البقاء. الجوع دفع العديد من أهل الصومال إلى النزوح من أماكن سكنهم إلى العاصمة، حيث تجمعوا في تجمعات عشوائية، آملين في الحصول على المساعدات التي قد تنقذهم من براثن الموت.
لم تكن الأوضاع الأمنية في مقديشو مستقرة آنذاك؛ كانت التفجيرات المتكررة تزيد الوضع تعقيدًا وتجعل الحركة صعبة للغاية. كنا نواجه تحديًا كبيرًا في توزيع المساعدات، فالناس كانوا جائعين، واليأس قد غزا قلوبهم، مما جعلنا نخشى من الفوضى إذا قمنا بالتوزيع في مناطق مفتوحة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت الأمراض تنتشر بشكل مخيف، خاصة بين الأطفال، مما دفعنا إلى إقامة مخيمات طبية لتقديم الفحص والعلاج.
خلال زيارتي لأحد هذه المخيمات الطبية، شعرت بثقل الألم الذي كان يحمله الناس. كانت الخيام البالية تفصل بين الأسر، وبعضهم لم يجد حتى مكانًا يستظل به. المكان كان مكتظًا بالحشرات، والنظافة كانت شبه معدومة. وبينما كنت أتنقل بين المرضى، رأيت رجلًا يحمل بين يديه طفلاً صغيرًا، كان يبدو ضعيفًا إلى درجة أنك قد تعتقد أنه لا يتجاوز بضعة سنوات من العمر. ولكن عندما حملته بين يدي، وسألت والده عن عمره، أجابني بأنه يبلغ من العمر 11 عامًا. لم أصدق ما سمعت، فالجوع قد نال من جسده الصغير حتى بدا لي وكأنه طفل رضيع.
نظرت إلى الأب وقلت له: "بإذن الله سيُشفى ابنك، وستراه يكبر ويتعلم." لكن الأب قاطعني قائلاً بصوت مليء بالحزن والألم: "أنا مستعد أن أتحمل مرضه، ولكن لا أستطيع أن أتحمل فراقه."
هذه الكلمات ظلت تتردد في أذني حتى اليوم. رأيت في تلك اللحظة أعظم صور الحب والتضحية. كان هذا الأب مستعدًا لتحمل كل شيء، كل معاناة وألم، فقط ليبقى ابنه حيًا بجانبه. كان حب الأب لابنه يتجلى في أبهى صوره، مشهد لن أنساه ما حييت.
خلال تلك اللحظة، عندما نظر إليَّ الأب بعينين مثقلتين بالدموع، أدركت مدى عظمة الحب الذي يحمله في قلبه. كانت كلماته البسيطة تختزل فيها كل معاني التضحية والصبر. كان هذا الأب، رغم الجوع والألم الذي كان ينخر في جسده وروحه، مستعدًا لتحمل معاناة لا توصف، مستعدًا لأن يظل ساهرًا بجانب سرير ابنه، يحمله على كتفيه أينما ذهب، ويبحث له عن لقمة تسد جوعه أو دواء يخفف من ألمه.
كان مستعدًا أن يقتسم معه آخر ما تبقى له من طعام، وأن يظل واقفًا في طوابير طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة للحصول على جرعة ماء لابنه. لم يكن يهتم بنفسه، بل كان كل همه أن يبقى هذا الطفل الضعيف حيًا، أن يرى بريق عينيه الصغيرتين يبقى مشتعلاً، وأن يسمع نبضات قلبه تستمر في الحياة.
هذا الأب كان على استعداد للتخلي عن كل شيء، حتى عن حياته إذا لزم الأمر، مقابل أن يحيا ابنه. كانت نظراته تنطق بما لم تقوَ الكلمات على قوله؛ كان ينظر إلى ابنه وكأنه يقول: "خذ من عمري وأعطه، خذ من قوتي وأمده بها." كانت تضحيته تتجاوز حدود المألوف، إذ لم يكن يفكر في مستقبله أو في ما قد يحدث له، بل كان كل تفكيره في طفله، في هذا الكيان الصغير الذي كان يراه انعكاسًا لكل شيء جميل في حياته.
كان هذا الأب يعيش من أجل ابنه، يتنفس من أجله، ويحلم بأن يراه ينمو ويكبر، مهما كلفه ذلك من جهد أو معاناة. تضحياته لم تكن مجرد أفعال عابرة، بل كانت تجسد الحب الأبوي في أسمى صوره، ذاك الحب الذي يجعل الإنسان قادرًا على تحمل كل أنواع العذاب، بشرط أن يحيا من يحب.
وفي تلك اللحظة، أدركت أن هذا الأب لم يكن فقط يُكافح من أجل بقاء ابنه، بل كان يُكافح من أجل أن يحافظ على شعلة الحب في قلبه، تلك الشعلة التي كانت تمنحه القوة للاستمرار، مهما بلغت الصعاب. كان مستعدًا أن يحمل على كتفيه أثقال الدنيا، فقط ليبقى ابنه بجانبه، ليشعر بدفء وجوده، وليحافظ على الأمل في مستقبل قد يجلب لهم حياة أفضل.