(الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون “15»)
إن هؤلاء المنافقين قوم لا حول لهم ولا قوة، ولكن الله سبحانه وتعالى، وهو القادر القوي حينما يستهزئ بهم يكون الاستهزاء أليماً، وإذا كان المنافق، قد أظهر بلسانه ما ليس في قلبه، فإن الله سبحانه وتعالى يعامله بمثل فعله، فإذا كان له ظاهر وباطن، يعامله في ظاهر الدنيا، معاملة المسلمين، وفي الآخرة يوم تبلى السرائر يجعله في الدرك الأسفل من النار، لا يسويه بالكافر لأن ذنب المنافق أشد.
{ويل لكل همزةٍ لمزةٍ “1” } (سورة الهمزة) والهمزة هو الذي يسخر من الناس ولو بالإشارة..
يرى إنسانا مصابا بعاهة في قدمه، يمشي وهو يعرج فيحاول أن يقلده بطريقة تثير السخرية، إما بالإشارة وإما بالكلام، وهناك همز وهمزه .. الهمز الاستهزاء والسخرية من الناس، علامة عدم الإيمان، لأننا كلنا مخلوقون من إله واحد، فهذه الصفة التي سخرت فيها من إنسان اعرج مثلا، لا عمل له فيها، ولا حول له ولا قوة ..
والإنسان لم يصنع نفسه، والحقيقة أنك تسخر من صنع الله، والذي يسخر من خلق الله إنسان غبي لأنه سخر من خلق الله في عيب، ولم يقدر ما تفضل الله به عليه، كما أنه سخر من عيب ولم يفطن إلي أن الحق سبحانه وتعالى قد أعطى ذلك الإنسان خصالا ومميزات ربما لم يعطها له، والله سبحانه وتعالى يقول:
{يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم } (من الآية 11 سورة الحجرات)
أن مجموع كل إنسان، يساوي مجموع كل إنسان آخر، وذلك هو عدل الله، فإذا كنت أحسن من إنسان في شيء فابحث عن النقص فيك. فإن استهزأت بمؤمن في شيء، فالاستهزاء غير مفصول عن صنعة الله، إذن فمن المنطق عندما قالوا: “إنما نحن مستهزئون” أن يرد الله عليهم “الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون” أي يزيدهم في هذا الطغيان، لأن المد هو أن تزيد الشيء، ولكن مرة تزيد في الشيء من ذاته، ومرة تزيد عليه من غيره، قد تأتي وتفرده إلي آخره، وقد تصله بخيط آخر، فتكون مددته من غيره، فالله يزيدهم في طغيانهم.
وقوله تعالى “يعمهون” العمه يختلف عن العمى، والخلاف في الحرف الأخير،العمى عمى البصر،والعمه عمى البصيرة،
ويعمهون أي يتخبطون، لأن العمه ينشأ عنه التخبط سواء التخبط الحسي، من عمى البصر، أو التخبط في القيم ومنهج الحياة من عمى البصيرة.
والله تعالى يقول: “فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور” فكأنما العمى المادي، قد لا يكون، ولكن يكون هناك عمى البصيرة، واقرأ قوله تعالى:
{قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً “125” قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى “126”} (سورة طه)
فكأن عمى البصيرة في الدنيا، يعمي بصر الإنسان، عن رؤية آيات الله في كونه ويعميه عن الإيمان والمنهج..
(أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين “16»)
يعطينا الحق سبحانه وتعالى صفة أخرى من صفات المنافقين، فيصفهم بأنهم الذين اشتروا الضلالة بالهدى. ومادام هناك شراء، فهناك صفقة، تتطلب مشتريا وبائعا، وقد كانت السلعة في الماضي تشترى بسلعة أخرى، أما الآن فإن كل شيء يشترى بالمال، ماذا اشتروا؟
أن هؤلاء المنافقين اشتروا الضلالة، واشتروها بأي ثمن؟! .. اشتروها بالهدى! الباء في اللغة تدخل على المتروك، عندما تشتري شيئا تترك ثمنه، إذن كأن هؤلاء قد تركوا الهدى واشتروا الضلالة، ولكن هل كان معهم هدى ساعة الصفقة؟.
أن الحال يقتضي أن يكون معهم هدى، كأن يهتدي إنسان ثم يجد أن الهدى لا يحقق له النفع الدنيوي الذي يطلبه فيتركه ليشتري به الضلال ليحقق به ما يريد، والهدى الذي كان معهم، قد يكون هدى الفطرة، فكأن هؤلاء كان يمكنهم أن يختاروا الهدى فاختاروا الضلالة.
والله سبحانه وتعالى يهدي كل الناس، هدى دلالة، فمن اختار الهدى يزيده واقرأ قوله تعالى:
{وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } (من الآية 17 سورة فصلت)
وقول الحق “فما ربحت تجارتهم” التجارة بيع وشراء، الشاري مستهلك، والبائع قد يكون منتجا، أو وسيطا بين المنتج والمستهلك. ما حظ البائع من البيع والشراء؟ أن يكسب فإذا ما كسب قيل ربحت تجارته. وإذا لم يكسب ولم يخسر، أو إذا خسر ولم يكسب، ففي الحالين لا يحقق ربحا، ونقول ما ربحت تجارته..
فقوله تعالى “فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين” يدل على أنهم خسروا كل شيء لأنهم لم يربحوا، فكأنهم لم يحققوا شيئا له فائدة، وخسروا الهدى، أي خسروا الربح ورأس المال. ما ربحت تجارتهم ربما يكونون لم يكسبوا ولم يخسروا، ولكن هم قدموا الهدى ثمنا للضلالة فلم يربحوا وضاع منهم الهدى، أي رأس مالهم..
ونفسيه المنافق إذا أردت أن تحددها، فهو إنسان بلا كرامة، بلا رجولة لا يستطيع المواجهة، بلا قوة يحاول أن يمكر في الخفاء، ولذلك تكون صورته حقيرة أمام نفسه، حتى لو استطاع أن يخفي عيوبه عن الناس، فيكفي أنه كاذب أمام نفسه لتكون صورته حقيرة أمام نفسه،
وفي ذلك يقول الشاعر: إذا أنا لـــم آت الدنية خشــية .. من الناس كان الناس اكرم من نفسي .. كفى المرء عارا أن يرى عيب نفسه .. وان كان في كن عن الجـن والأنـس، المهم رأيك في نفسك .. والتمزق الذي عند المنافق أنه يريد أن يخفي عيوبه عن الناس.
(مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون “17»)
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقرب صفات التمزق في المنافقين إلي فهمنا، ولذلك فهو يضرب لنا الأمثال، والأمثال جمع مثل وهو الشبيه الذي يقرب لنا المعنى ويعطينا الحكمة، والأمثال باب من الأبواب العريقة في الأدب العربي.
فالمثل أن تأتي بالشيء الذي حدث وقيل فيه قولة موجزة ومعبرة، رأى الناس أن يأخذوا هذه المقولة لكل حالة مشابهة.
ولنضرب مثلا لذلك، ملك من الملوك، أراد أن يخطب فتاة من فتيات العرب، فأرسل خاطبة اسمها عصام لترى هذه العروس وتسأل عنها وتخبره، فلما عادت قال لها ما وراءك يا عصام؟ أي بماذا جئت من أخبار، قالت: له أبدي المخض عن الزبد. المخض هو أن تأتي باللبن الحليب وتخضه في القربة حتى ينفصل الزبد عن اللبن، فصار الاثنان ـ السؤال والجواب ـ يضربان مثلا. تأتي لمن يجيئك تنتظر منه أخبارا فتقول له: ما وراءك يا عصام.
ولا يكون اسمه عصام .. ولم ترسله لاستطلاع أخبار، بينما تريد أن تسمع ما عنده من أخبار.
وحينما تريد مثلا .. أن تصور تنافر القلوب .. وكيف أنها إذا تنافرت لا تلتئم أبدا .. ويريد الشاعر أن يقرب هذا المعنى فيقول:
أن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يشعب (أي لا يجبر)
وساعة تنكسر الزجاجة لا تستطيع إصلاحها .. ولكي يسهل هذا المعنى عليك وتفهمه في يسر وسهولة .. فإنك لا تستطيع أن تصور أو تشاهد معركة بين قلبين .. لأن هذه مسألة غيبية .. فتأتي بشيء مشاهد وتضرب به المثل .. وبذلك يكون المعنى قد قرب .. لأنك شبهته بشيء محسوس .. تستطيع أن تفهمه وتشاهده..
ولقد استخدم الله سبحانه وتعالى الأمثال في القرآن الكريم في أكثر من موضع .. ليقترب من أذهاننا معنى الغيبيات التي لا نعرفها ولا نشاهدها .. ولذلك ضرب لنا الأمثال في قمة الإيمان .. وحدانية الله سبحانه وتعالى .. وضرب لنا الأمثال بالنسبة للكفار والمنافقين .. لنعرف فساد عقيدتهم ونتنبه لها .. وضرب لنا الأمثال فيما يمكن أن يفعله الكفر بالنعمة .. والطغيان في الحق .. وغير ذلك من الأمثال .. قال الله تعالى:
{ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثلٍ فأبى أكثر الناس إلا كفرواً “89» }سورة الإسراء)
وقد ضرب الله جل جلاله لنا الأمثال في الدنيا وفي الآخرة، وفي دقة الخلق .. وقمة الإيمان .. ومع ذلك فإذا الناس منصرفون عن حكمة هذه الأمثال .. كافرون بها .. مع أن الحق تبارك وتعالى .. ضربها لنا لتقرب لنا المعنى .. تشبيها بماديات نراها في حياتنا الدنيا .. وكان المفروض أن تزيد هذه الأمثال الناس إيمانا .. لأنها تقرب لهم معاني غائبة عنهم .. ولكنهم بدلا من ذلك ازدادوا كفرا!
ولابد قبل أن نتعرض للآية الكريمة: “مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون” .. أن نتحدث عن بعض الأمثال التي ضربت في القرآن الكريم .. لنرى كيف أن الله سبحانه وتعالى حدثنا عن قضايا غيبية بمحسات دنيوية:
ضرب الله تبارك وتعالى لنا مثلا بالقمة الإيمانية .. وهي أنه لا إله إلا الله .. وكيف أن هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى .. يجب أن نسجد له شكرا عليها لأن فيها وقاية لنا من شقاء .. ومع ذلك فإن الله تبارك وتعالى يريد بعباده الرحمة، ولكن بعض الناس يريد أن يشقي نفسه فيشرك بالله جل جلاله .. وبدلا من أن يأخذ طريق الإيمان الميسر .. يأخذ طريق الكفر والنفاق والشرك بالله الذي يملك كل شيء في الدنيا والآخرة .. يقول الحق جل جلاله:
{ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجلٍ هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون “29” } (سورة الزمر)
بهذه الصورة المحسة التي نراها .. ولا يختلف فيها اثنان .. يريد الله تبارك وتعالى أن يقرب إلي أذهاننا صورة العابد لله وحده، وصورة المشرك بالله .. ويعطينا المثل في عبد مملوك لشركاء .. رجل مملوك لعشرة مثلا .. وليس هؤلاء الشركاء العشرة متفقين .. بل هم متشاكسون أي أنهم مختلفون .. ورجل آخر مملوك لسيد واحد .. أيهما يكون مستريحا يعيش في رحمة؟ ..
طبعا المملوك لسيد واحد في نعمة ورحمة .. لأنه يتبع أمرا واحدا ونهيا واحدا .. ويطيع ربا واحدا .. ويطلب رضا سيد واحد
أما ذلك الذي يملكه شركاء حتى لو كانوا متفقين .. سيكون لكل واحد منهم أمر ونهي .. ولكل واحد منهم طلب .. فما بالك إذا كانوا مختلفين؟ أحد الشركاء يقول له تعال .. والآخر يقول له تأت، وأحد الشركاء يأمره بأمر، والآخر يأمره بأمر مناقض .. ويحتار أيهما يرضي وأيهما يغضب؟ .. وهكذا تكون حياته شقاء وتناقضا..
إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقرب لنا الصورة .. في قضية هي قمة اليقين .. وهي الإيمان بالواحد الأحد .. يريدنا أن نلمس هذه الصورة .. بمثل نراه ونشهده .. وأن نرى فيض الله برحمته على عباده .. ويمضي الحق سبحانه ليلفتنا إلي أن نفكر قليلا في مثل يضربه لنا في القرآن الكريم:
{وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم “76”} (سورة النحل)
فالحق تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة .. يطلب منا أن نفكر في مثل مادي محسوس .. أيهما خير؟ .. أذلك الصنم الذي يعبده الكفار وهو لا يأتي لهم بخير أبدا .. لأنه لا يستطيع أن ينفع نفسه فكيف يأتي بالخير لغيره .. بل هو عبء على من يتخذونه إلها .. فإنهم يجب أن يضعوه وأن يحملوه من مكان إلي آخر إذا أرادوا تغيير المعبد أو الرحيل .. وإذا سقط فتهشمت أجزاء منه .. فإنه يجب أن يصلحوها..
إذن فزيادة على أنه يأتي لهم بخير .. فإنه عبء عليهم يكلفهم مشقة .. ويحتاج منهم إلي عناية ورعاية..
أعبادة مثل هذا الصنم خير؟ أم عبادة الله سبحانه الذي منه كل الخير وكل النعم .. والذي يأمر بالعدل .. فلا يفضل أحدا من عباده على أحد .. والذي يعطي لعباده الصراط المستقيم .. الذي لا اعوجاج فيه .. والموصل إلي الجنة في الآخرة .. أن الله سبحانه وتعالى يشرح بهذا المثل غباء فكر المشركين الذين يعبدون الأصنام ويتركون عبادة الله تبارك وتعالى.
(مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون “17»)
وهكذا يعطينا هذان المثلان توضيحا لقضية الوحدانية والألوهية .. ثم يأتي الله سبحانه وتعالى بمثل آخر .. يضرب لنا مثلا لنوره .. هذا النور الإلهي الذي يضئ الدنيا والآخرة .. فيضئ القلوب المؤمنة .. إنه يريد أن يضرب لنا مثلا لهذا النور بشيء مادي محس .. فيقول جل جلاله:
{الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرةٍ مباركة زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نورٍ يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم “35» }سورة النور)
كأن الله سبحانه وتعالى .. يريدنا أن نعرف بتشبيه محسوس .. أن مثل نوره كمشكاة .. والمشكاة هي (الطاقة) .. وهي فجوة في الحائط بالبيت الريفي .. ونحن نضع المصباح في هذه الطاقة .. إذن المصباح ليس في الحجرة كلها .. ولكن نوره مركز في هذه الطاقة فيكون قويا في هذا الحيز الضيق .. ولكن المصباح في زجاجة .. تحفظه من الهواء من كل جانب .. فيكون الضوء أقوى .. صافيا لا دخان فيه .. كما أن الزجاج يعكس الأشعة فيزيد تركيزه .. والزجاجة غير عادية ولكنها: “كوكب درى” .. أي هي مضيئة بذاتها وكأنها كوكب .. ووقودها من شجرة مباركة يملؤها النور لا شرقية ولا غربية .. أي يملؤها النور من الوسط ويخرج صافيا .. والزيت مضيء بذاته دون أن تمسه النار .. فهي نور على نور .. أيكون جزء من هذه المشكاة ذات المساحة الصغيرة مظلما؟ .. أم تكون كلها مليئة بالنور القوي؟.
وهذا ليس نور الله تبارك وتعالى عن التشبيه والوصف، ولكنه مثل فقط للتقريب إلي الأذهان .. فكأن نور الله يضيء كل ركن وكل بقعة .. ولا يترك مكانا مظلما .. فهو نور على نور .. ولقد أراد أحد الشعراء أن يمدح الخليفة وكانت العادة أن يشبه الخليفة .. بالأشخاص البارزين ذوي الصفات الحسنة .. فقال: إقدام عمرو في سماحة حاتم .. في حلم أحنف في ذكاء إياس
وكل هؤلاء الذين ضرب بهم الشاعر المثل كانوا مشهورين بهذه الصفات فعمرو كان مشهورا بالإقدام والشجاعة .. وحاتم كان مشهور بالسماحة .. وأحنف يضرب به المثل في الحلم .. وإياس شعلة في الذكاء .. وهنا قام أحد الحاضرين وقال: الأمير أكبر من كل شيء ممن شبهته بهم .. فقال أبو تمام على الفور:
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والباس ،فالله قد ضرب الأقل لنـوره مثلاً من المشـكاة والنـبراس
فأعجب أحمد بن المعتصم والحاضرون من ذكائه وأمر بأن تضاعف جائزته والله سبحانه وتعالى .. يضرب لنا المثل بما سيشهده المؤمنون في الجنة .. فيقول جل جلاله:
{مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسنٍ وأنهار من لبنٍ لم يتغير طعمه وأنهار من خمرٍ لذةٍ للشاربين وأنهار من عسل مصفى } (من الآية 15 سورة محمد)
هذه ليست الجنة .. ولكن هذا مثل يقرب الله سبحانه وتعالى لنا به الصورة بأشياء موجودة في حياتنا .. لأنه لا يمكن لعقول البشر أن تستوعب أكثر من هذا .. والجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .. ومن هنا فإنه لا توجد أسماء في الحياة تعبر عما في الجنة .. واقرأ قوله تعالى:
{فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعينٍ جزاء بما كانوا يعملون “17” } (سورة السجدة)
فإذا كانت النفس لا تعلم .. فلا توجد ألفاظ تعبر عما يوجد في الجنة .. والمثل متى شاع استعماله بين الناس سمى مثلا .. فأنت إذا رأيت شخصا مغترا بقوته .. وتريد أن تفهمه أنك أقوى منه تقول له .. إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا .. ولا توجد ريح ولا إعصار فيما يحدث بينكما .. وإنما المراد المعنى دون التقيد بمدلول الألفاظ.
فالحق سبحانه وتعالى .. يريد أن يعطينا صورة .. عما في داخل قلوب المنافقين .. من اضطراب وذبذبة وتردد في استقبال منهج الله .. وفي الوقت نفسه ما يجري في القلوب غيب عنا .. وأراد الله أن يقرب هذا المعنى إلينا .. فقال: “مثلهم كمثل الذي استوقد نارا” .. أي حاول أن يوقد نارا .. والذي يحاول أن يوقد نارا .. لابد أن له هدفا .. والهدف قد يكون الدفء وقد يكون الطهي .. وقد يكون الضوء وقد يكون غير ذلك .. المهم أن يكون هناك هدف لإيقاد النار..
يقول الحق سبحانه وتعالى: “فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون” .. ذلك أنهم في الحيرة التي تملأ قلوبهم .. كانوا قد سمعوا من اليهود أن زمن نبي جديد قد أتى .. فقرروا أن يؤمنوا به .. ولكن إيمانهم لم يكن عن رغبة في الإيمان .. ولكنه كان عن محاولة للحصول على أمان دنيوي .. لأن اليهود كانوا يتوعدونهم ويقولون أتى زمن نبي سنؤمن به ونقتلكم به قتل عاد وإرم .. فأراد هؤلاء المنافقون أن يتقوا هذا القتل الذي يتوعدهم به اليهود .. فتصوروا أنهم إذا أعلنوا أنهم آمنوا بهذا النبي نفاقا أن يحصلوا على الأمن..
إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة .. إنهم أوقدوا هذه النار .. لتعطيهم نورا يريهم طريق الإيمان .. وعندما جاء هذا النور بدلا من أن يأخذوا نور الإيمان انصرفوا عنه .. وعندما حدث ذلك ذهب الله بنورهم .. فلم يبق في قلوبهم شيء من نور الإيمان .. فهم الذين طلبوا نور الإيمان أولا .. فلما استجاب الله لهم انصرفوا عنه .. فكأن الفساد في ذاتهم .. وكأنهم هم الذين بدأوا بالفساد .. وساعة فعلوا ذلك ذهب الله بنور الإيمان من قلوبهم.
ونلاحظ هنا دقة التعبير القرآني .. في قوله تعالى: “ذهب الله بنورهم” ولم يقل ذهب الله بضوئهم .. مع أنهم أوقدوا النار ليحصلوا على الضوء .. ما هو الفرق بين الضوء والنور؟ .. إذا قرأنا قول الحق سبحانه وتعالى:
{هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً } (من الآية 5 سورة يونس)
نجد أن الضوء أقوى من النور .. والضوء لا يأتي إلا من إشعاع ذاتي .. فالشمس ذاتية الإضاءة .. ولكن القمر يستقبل الضوء ويعكس النور .. وقبل أن تشرق الشمس تجد في الكون نورا .. ولكن الضوء يأتي بعد شروق الشمس .. فلو أن الحق تبارك وتعالى قال ذهب الله بضوئهم .. لكان المعنى أنه سبحانه ذهب بما يعكس النور .. ولكنه أبقى لهم النور .. ولكن قوله تعالى: “ذهب الله بنورهم” .. معناها أنه لم يبق لهم ضوءا ولا نورا .. فكأن قلوبهم يملؤها الظلام .. ولذلك قال الله بعدها؛ “وتركهم في ظلمات لا يبصرون” .. لنعلم أنه لا يوجد في قلوبهم أي نور ولا ضوء إيماني .. كل هذا حدث بظلمهم هم وانصرافهم عن نور الله..