بقلم / أسامة سرايا

يلتف المصريون حول نهر النيل، وقضية المياه قد فتحت كل ملفاتها، القديمة والحديثة، فلا حديث فى كل مدننا وقرانا إلا عن مستقبل نهر النيل، وكيف ‏ستواجه مصر تداعيات فشل مفاوضات السد الإثيوبى المزعوم (النهضة)، ونحن جميعا نتابع تصريحات أديس أبابا ضد مصر والسودان؟!..
 وحقيقة، يبدو لى أنه من الضرورى، فى البداية، أن أشيد بالسياسات المصرية الحكيمة، التى تصل إلى منتهى ضبط النفس، وبردود فعل المصريين عامة (حكومة وشعبا) ضد التصرفات، أو التصريحات المستفزة، ‏القادمة من إثيوبيا، وتعاطيهم مع هذه القضية الدقيقة، والحساسة جدا، حيث يتعامل المصريون معها بقمة الوعى، والرؤية المستنيرة، الراهنة والمستقبلية، والأهم أن حكومتهم تتحرك على كل الأصعدة، ولا تترك بابا إلا وقد طرقته ‏بوضوح وجلاء..
 ولعل أهم النقاط فى هذه القضية هى علاقاتنا الأزلية بالشقيقة السودان، والتى وصلت إلى قمة التنسيق فى كل المجالات، وأهمها أن قواتنا المسلحة كان تحركها الأكبر هو بالمناورات العسكرية المشتركة مع السودان (حماة النهر) فى كل المحاور الأخرى ‏على طول حدود السودان الشقيق، والتى وصلت إلى توحيد الروئ السياسية، والعسكرية، والفنية بين البلدين، ومن لا يتذكر ذلك يعود إلى الوراء قليلا، أو عام مضى، حيث كان السودان فى هذه المباحثات الطويلة والمرهقة (أكثر من10 سنوات) حول نهر النيل فى وادٍ آخر من المباحثات غير وادى النيل طبعا.
من يعود إلى ‏مباحثاتنا مع إثيوبيا، منذ البداية، للوصول إلى اتفاق معها، يجد أننا نحاول أن نمر من أكثر الممرات الضيقة، والصعبة، من حيث تشعر، أو لا تشعر، إثيوبيا، حيث تمارس أديس أبابا عدوانا سافرا وهمجيا يرقى إلى حالة “إعلان حرب” غير مدركة، بالحسابات، معنى الحروب الوجودية، بسعيها إلى الملء الثانى لسد النهضة دون اتفاق مرضٍ، وهذا اعتداء صريح على مصدر الحياة للمصريين ككل، منذ بدء الخليقة حتى الآن، واعتداء آخر على أراضى السودان، ومياهه، وسدوده، وهو اعتداء قائم منذ سنوات على الحدود السودانية- الإثيوبية، فإذا عدنا للاتفاقيات القديمة سنجد أن أراضى “بنى شنقول” كلها سودانية، بما فيها منابع النيل الأزرق (بحيرة تانا)، التى هى جزء من الأراضى، التى تنازلت عنها مصر للسودان وإثيوبيا، رغم سداد كامل ملكيتها إلى أهلها، بالاتفاق مع السودان، مقابل عدم إقامة أى منشآت، أو سدود عليها، واحترام حقوق مصر المائية، و‏الآن تبعثر إثيوبيا كل الأوراق، وتحاول أن تعيد التقسيم من جديد، وكأن الحياة بدأت اليوم وليس أمس، فى حين أنها ليست فى حاجة إلى هذه المياه، وفى حين أن ما يأتى لمصر من موارد هذا النهر من البحيرة، ومن عطبرة، والسودان هو أقل القليل، فهو لا يتجاوز 3.7% من موارد النهر العظيم، فلماذا التضييق الإثيوبى على هذه الموارد الضئيلة جدا، والتى وصلت إلينا بقرار إلهى، لا يملك الإنسان، ‏أيا كان قدره، نقضه، أو مخالفته، وإلا واجه ثورة البشر والطبيعة معا ضده بشكل لا يمكن أن يتحمله، ‏وهذا توصيف وليس تهديدا لأى أحد على الإطلاق، فهذه الموارد القليلة جدا لا تكفى مصر، التى وصل سكانها إلى أكثر من 100 مليون، وتعيش حالة حادة من الفقر المائى، فكيف تفكرون، أو تجرأون على التفكير فى إنقاص حصتها، التى حددها القدر، والخلق الربانى، والموقع فى نهاية الانحدار(1820 مترا)، فتعالوا إلى كلمة سواء، يا أهل النيل الأزرق، وأهل النيل الأبيض، و‏أهالى بحيرات تانا وفيكتوريا، وكل الدول التى تطل على هذا النهر الخالد، لكى يستكمل مسيرته الربانية حتى البحر المتوسط، ليشرب، ويزرع الجميع، فهل تدرك إثيوبيا ما أدركته كل دول حوض النيل بكل مشاربها أنها يجب عليها أن تحافظ على هذه المعجزة الإلهية؟.. وأنها لن تستطيع أن تبدأ الخطوة الأولى لتنميتها إلا بالاعتراف الصريح لمصر ‏بمقدراتها الإلهية، التى وصلت إليها، فهذا النهر هو معجزة، وهو من المقدرات الإلهية لمصر، حيث لم يَخلق إنسان هذا الانحدار، وهذه المنظومة، حتى يجلب مياه النهر إلى مصر، فهذا القدر، وهذه المشيئة، نحن نعرفها حق قدرها، وعندما نفاوض، أو نحارب من أجلها، يجب أن يقف معنا العالم كله، لأنها مسألة حياة أو موت، كما أنها مبدأ الحياة الإلهية، التى لا يستطيع أن يخذلها البشر أبدا، وإلا كفروا بأنعم الله، ونحن لم نبخل، أو نقف ضد دول النيل، بل طالبناها، ونطالبها بالتعاون الكامل، وقد وافقت جميعا دول منابع النيل الأبيض الست، ووقفت، أو مازالت تقف، ضد ذلك إثيوبيا وحدها، كما أنها تتحدى بنى شنقول، أراضى المنبع، وأهلها يقولون ويقرون بحقنا، والآن إثيوبيا ليست موحدة، وهى على أبواب حرب أهلية بين الطوائف كلها، ومصر وشقيقاتها، دول أهل النيل، وإفريقيا، يجب أن تساعدها، ولكن كيف يتحقق ذلك مع الإثيوبيين وحكومتهم الهشة الراهنة تدق طبول الحرب أمام الأشقاء فى مصر والسودان، وبين الطوائف المتنوعة فى إثيوبيا؟.. إن الموضوعية، ومعها العقل، دوما تغيب فى المناقشات مع الإثيوبيين، الذين يحتاجون إلى من يعيدهم إلى رشدهم، وإلى المنطق، والرضا بقضاء الله، ونحن ندعو لهم أن يلطف الله بهم وبنا، وألا نندفع ‏إلى مسار تعميق الكراهية بين الشعوب، فنحن نحتاج إلى التعاون لتحويل الموارد المهدرة حول البحيرات المائية إلى موارد مائية، وساعتها سيصبح نهر النيل، فعلا، هو المخزون المائى الكبير لأهله، ولكل البشرية، وسيكون نهرا مركزيا للعمل المشترك من أجل حياة إنسانية أفضل، ونحن لا نريد أن نعكر مياه النيل المقدسة بأى دماء تُهدر، ‏سواء بين دوله، أو بين القوميات داخل إثيوبيا، وإنما نريد أن نعمل معا من أجل سلام إقليمى، وتعاون مثمر، فليس من حق أحد، مهما يكن، تحويل النهر إلى بحيرة، أو تغيير المصب النهائى ليكون فى بنى شنقول بدلا من قدره الذى ينتهى فى مسار إلى مصر، بل صحرائها وتعميرها..
إن أول شىء خلقه الله كان الماء “وجعلنا من الماء كل شىء حى”، ومن بعده خلق العرش “وكان عرشه على الماء”، بمعنى أن ‏خلق العرش، أى العدل والحكمة، كان بعد الماء، فلقد كان الله ولم يكن شىء قبله، وخلق السماوات والأرض، وكتب فى الذكر كل شىء، مُحددا أن الماء والخلقْ سماويان، لذا، “فاعتبروا يا أولى الأبصار»