وصلتني من صديق عزيز صورة قديمة، بدت لأول وهلة كأنها مجرد لوحة عادية، لكن تحت طبقات الزمن التي تغطيها، ظهرت لي قصة امتدت لأربعة عقود من العطاء والصمود. إنها لوحة “مركز أنس بن مالك لتحفيظ القرآن الكريم” في أحد الدول الآسيوية، لوحة تتجاوز الحروف المنقوشة عليها لتصبح رمزًا لرحلة طويلة من بناء الإنسان وتعزيز القيم، وسط أزمان قاسية وظروف متبدلة، هذا المركز لم يكن مجرد صرح لتعليم القرآن، بل بذر بذور الأثر الطيب في النفوس، جيلًا بعد جيل.
ظلال أربعة عقود
ما استقام أمر المرء إلا باستقامة روحه” هكذا قال مصطفى السباعي، وكأنما يلخص بذلك فلسفة هذا المركز العريق. فعلى مدار أربعة عقود، لم يكن الإنجاز مجرد حفظ نصوص، بل كان غرسًا للاستقامة المستدامة، في زمن الإدارة الحديثة، نتحدث عن الأثر المستدام، ذلك الذي لا يذوب مع تقلبات الأيام. هذه اللوحة شاهدة على أن الأثر الحقيقي لا يُقاس بالعمر المادي، بل بما يبقى من أثر في نفوس الناس وأخلاقهم، إنها دعوة للتفكر في أن البناء الحقيقي يبدأ ببناء القلوب والعقول قبل الحجارة والجدران.
كما قال الرافعي: “العلم روح تنفث في النفس الحياة”، فلم يكن مشروع “أنس بن مالك” سعيًا وراء إنجاز لحظي، بل رؤية تُغرس في الأعماق، تستقي من القرآن الكريم طاقة نورانية لا تنطفئ، ليبقى الأثر متجددًا مع كل من تلقّى هذا العلم ونقله إلى الآخرين.
أثر يبقى
“إن أعظم القادة من يجعلون الناس يظنون أنهم فعلوا كل شيء بأنفسهم”، كما قال لاوتسي. وهنا تظهر عظمة من أسسوا هذا المركز، إذ لم يكتفوا ببناء مؤسسة، بل أسسوا منهجًا قادرًا على الاستمرار رغم الصعاب. فالقيادة الحكيمة لا تقتصر على بناء المشروعات، بل في تمكين من يأتي بعدك من حمل الرسالة، بل وتطويرها.
أحد خريجي هذا المركز لم يكتفِ بحمل القرآن في صدره، بل تابع دراسته حتى حصل على درجتي دكتوراه، وأصبح من أعلام التنمية البشرية على المستوى الإقليمي، حاملًا قيم القرآن في قلبه وناقلًا أثرها من جيل إلى جيل. هكذا تكون ثمرة القيادة الرشيدة..غرس صالح لا يثمر في وقت قريب فقط، بل يمتد ظله ليغطي أجيالًا بأسرها.
فلسفة البناء الباقي
“ما ينفع الناس هو الذي يبقى في الأرض” هذه الحكمة ليست مجرد شعار، بل رؤية استراتيجية اعتمدها القائمون على المركز. لم يكن الهدف تشييد صرح يحوي جدرانًا، بل بناء مجتمع من حفظة القرآن وروّاد العلم، قادرين على مواجهة التحديات ونشر النور في مجتمعاتهم. حيث يُعد الأثر المستدام المعيار الأهم لنجاح أي مشروع. وما نراه هنا، من استمرار هذا المركز في عمله رغم عقود من الصراعات، هو شهادة حيّة على أن الأثر الحقيقي يتجاوز العوائق المادية ليعيش في القلوب والعقول.
كما يقول أحمد شوقي: “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”. لقد كان تأسيس هذا المركز استثمارًا في الأخلاق والقيم قبل كل شيء، لم يكن الهدف تخريج حفظة فحسب، بل إنبات رجال ونساء يحملون في صدورهم نور القرآن، ويطبّقون قيمه في حياتهم وسلوكهم.
هذه اللوحة المعلقة على جدار مركز “أنس بن مالك” ليست مجرد حجر صامت؛ إنها شاهد على أثر لا يزول. إنها تذكير بأن الأثر الحقيقي هو ذلك الذي يُغرس في النفوس ويمتد في الحياة. القيادة الحقيقية ليست فيما تفعله بيديك فقط، بل فيما تتركه وراءك ليحمله الآخرون بعدك، كالشجرة التي تثمر حتى بعد رحيل من غرسها.
كما قال الرافعي: “إذا لم تزد على الحياة شيئًا، فأنت زائد عليها”. هذه اللوحة تذكرنا بأن القيمة الحقيقية في كل ما نقوم به هي فيما يبقى بعدنا، فيما يستمر من أثر فيمن علمناهم، وفي من نزرع فيهم بذور الخير والعلم. فليكن هذا المركز دعوة لنا جميعًا بأن نسعى إلى بناء أثر لا تزيله العواصف، بل يبقى خالدًا، يتوارثه جيل بعد جيل.